إرشادات للطبيب المسلم
آخر محاضرة لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –
أقيمت بالمستشفى التخصصي بالرياض بتاريخ 14/6/1421هـ
محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، نحمد الله الذي أنعم علينا بأكرم دين وأشرف ملة ، وبعث إلينا أعز رسله وافضل خلقه نبياً وهادياً ومعلماً، هذا الدين العظيم الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة في شئون دنيانا إلا هدانا إلى طيبها ونهانا عن سيئها..
أيها الأخوة والأخوات في الله.. لا يخفى على الجميع أن مهنة الطب تأتي في مقدمة الأعمال السامية وذلك عندما تخلص النية لله وتوضع مصلحة المسلمين ومداواة مرضاهم والتخفيف من آلامهم في المقام الأول، هذا العمل الإنساني الهام لم تتركه قواعد ديننا الحنيف بلا ضوابط ولا أخلاقيات ، شأن ذلك شأن كل الأعمال والمهن حتى من قبل أن تتدخل الهيئات والمنظمات الصحية بوضع أنظمتها ولوائحها، بل وضعت الشريعة السمحاء قواعد هامة لجميع من يؤدون أعمالاً للآخرين أن يتوخوا الخوف من الله والإخلاص والأمانة فيما يؤدون، وأن يقدموا ما في وسعهم لإنجاز ما أوكل إليهم على أكمل وجه يرضي الله عز وجل.
أيها الأخوة.. نسعد اليوم بتواجد أخ كريم وكبير وضيف عزيز، وهب سني عمره المديد لخدمة دين الله وإصلاح مجتمعه، داعياً بما مكنه الله من علم وفقه إخوانه المسلمين إلى سبيل الرشد والصلاح ، فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.
--------------------------------------------------------------------------------
المحاضرة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.. أيها الأخوة فإنني أشكر الله عز وجل أن يسر اللقاء بكم معشر الأطباء في هذه الليلة ، ليلة الثلاثاء 14 من شهر جماد الآخرة 1421هـ ، هذا اللقاء الذي أسأل الله عزوجل أن يكون لقاء مباركاً ، وسأتكلم بما يريد الله عزوجل حول هذا الموضوع ..
المرض نوعان أيها الأخوة، مرض القلب وهو مرض معنوي والثاني مرض الجسم وهو مرض حسي، والأول أولى بالاجتناب والعناية لأنه يترتب عليه الهلاك الأبدي أو البقاء الأبدي، مرض القلب له شعبتان: الشعبة الأولى الجهل فإن كثيراً من الناس يحب الخير ويسعى له و لكن عنده جهل ، فيحصل من ذلك خطأ عظيم ولهذا قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ( من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى) ، لأن النصارى أرادوا الخير ولكن ضلوا عنه كما قال عز وجل: (( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله))، وقال سفيان: ( من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود)) لأن اليهود علموا الحق ولكن خالفوا الحق، على هذا يدور مرض القلب وحينئذ نعلم أنه لا بد لنا من العلم ولا بد لنا من الإذعان والقبول للشرائع وإلا لحصل الهلاك، هذا الهلاك ليس كهلاك الأبدان، هلاك الأبدان عود على الأول(( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم))، لكن هلاك القبول معناه فقد الحياة، لأن الإنسان لم يستفد من وجوده في الدنيا، خسر الدنيا، ولن يستفيد في الآخرة، وما هي الحياة الحقيقة..؟!..، حياة الآخرة لقول الله تبارك وتعالى : (( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان )) قال أهل العلم: الحيوان الحياة الكاملة، وقال عزوجل : (( يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى* يقول ياليتني قدّمت لحياتي))، ولهذا كان الواجب أن يعتني الإنسان بتصحيح مرض قلبه قبل كل شيء ولكن من أين نأخذ الدواء لهذا المرض، من ينبوعين أساسين ، هما الكتاب والسنة، والكتاب والحمد لله وصفه الله تعالى بأنه تبيان لكل شيء، ما من شيء يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم إلا وجد في القرآن، إما وجد في القرآن بعينه وإما بالإشارة إليه والتحويل على جهة أخرى.
كلنا نعلم أنه لا يوجد في القرآن عدد ركعات الصلوات ولا عدد الصلوات ولا أنصبة الزكاة، ولا أركان الحج المعروفة ، لكن محال إلى السنة، قال الله عزوجل: (( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم )). هذا هو الجواب للمرض الخطير الذي ذكرته لكم، وهو يسير على من يسره الله عليه لأن هناك أموراً لابد للإنسان من معرفتها وهي سهلة يأخذها الإنسان من أفواه العلماء أو من الكتب المؤلفة من علماء موثوقين ويستنير بها.
أما المرض الثاني، المرض الحسي؛ فهو مرض أسهل، الأعضاء أو الجلود أو غيرها مما تعرفون فيه أكثر مما أعرف، هذا المرض له دواءان، دواء أنفع وأجمع وأوسع، وهو الدواء الذي جاءت به الشريعة، والشريعة الإسلامية جاءت بهذا الدواء، الدواء الشرعي للأجسام ، وسأذكر إن شاء الله ما يتبين به ذلك، فمثلاً القرآن الكريم دواء نافع ناجع لأمراض جسدية وأمراض نفسية وأمراض عقلية، لا يمكن للدواء الحسّي أن ينجح فيها، ثم إن الدواء الشرعي لا يحتاج طول مدة، لأن الدواء الشرعي من لدن الله عزوجل الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
ولعلكم سمعتم قصة الصحابة الذين استضافوا قوماً من العرب، فأبوا أن يضيفوهم، ثم انحازوا إلى ناحية وسلط الله على سيدهم عقرباً لدغته وآلمته كثيراً، فقال بعضهم لبعض لعل هؤلاء القوم الذين نزلوا بكم لعل فيهم من يقرأ فأتوا على الصحابة فقالوا: إن سيدهم لدغ فهل فيكم من قارئ، قالوا نعم ولكن لا نقرأ عليه إلا بقطيع من الغنم، لأنكم لم تقوموا بحقنا في الضيافة، قالوا فليكن وأعطوهم قطيع من الغنم، فذهب أحد الصحابة إلى الرجل فقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأنه نشط من عقال، في الحال. ومثل هذا لو عولج بالأدوية الحسية إن نفعت فسيكون هناك وقت، لكن هذا في الحال.
الأمراض النفسية كثيراً ما تستعصي على الأطباء إذا عالجوها بالأدوية الحسية، ولكن دواؤها بالرقية ناجع ومفيد ، وكذلك الأمراض العقلية، تنفع فيها الأدوية الشريعة وقد لا تنفع فيها الأدوية الحسية، لذلك أريد منكم أيها الأخوة أن تلاحظوا هذا وإذا أمكنكم أن تجمعوا بين الدواءين فهو خير، أي الحسي والشرعي، حتى تصرفوا قلوب المرضى إلى التعلق بالله عزوجل وآياته، وحينئذ أحيلكم إلى الكتب المؤلفة في هذا الشأن، أن تطالعوها وتحفظوها وترشدوا إليها المرضى، لأن تعلق المريض بالله عز وجل له أثر قوي في إزالة المرض أو تخفيف المرض.
الأدوية الحسية معروفة، وهي نوعان، منها ما تلقاه الناس من الشرع، ومنها ما تلقوه من التجارب، فمما تلقاه الناس من الشرع، التداوي بالعسل فإن ذلك دواء شرعي ، ودليله قوله عزوجل في النجل: (( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس))، ومن ذلك الحبة السوداء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنها شفاء من كل داء إلا السام )) وهو الموت، ومنها الكمأ ( نوع من الفقع) قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين)). وهذا أمر مسلّم يجب أن نؤمن به حتى لو فرض أنه لم ينفع فليس ذك لقصور السبب ولكن لوجود مانع منعنا من الانتفاع به، لأن الأسباب التي جاءت في الشرع قد تتخلف آثارها لوجود مانع لكن هذا أمر مسلم.
أما النوع الثاني من الأدوية الحسية، فهو متلقى من التجارب، وهذا كثير حتى أنه يوجد الآن ممن لم يدرسوا الطب نظرياً من استفادوا بالتجارب فكانت أدويتهم أحسن من الأدوية المعقمة التي صنعت على وجه صحي.
ولا يجوز أبداً أن ننكر هذا ، وقد سمعنا كثيراً من الإذاعات من اخترع أدوية عثر عليها من الأشجار والحشائش لم تكن معلومة من قبل وأثرها أكبر من أثر الموجود المستعمل.
كل هذا بقضاء الله وقدره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء – دواء- علمه من علمه وجهله من جهله))، لذلك أحياناً يأتي الشفاء باستعمال دواء غير معلوم لهذا المرض يأتي صدفة، وهذا داخل في قوله (( وجهله من جهل)) ، لكن ثق أن كل هذه الأشياء بقضاء الله وقدره، هو الذي أنزل هذا وجعل له دواء وقد يرفع الداء بدون أن يكون هناك سبب ، لأن الله تعالى على كل شيء قدير.
أخيراً توصيات يسيرة لكم:
1- إخلاص النيّة لله تعالى في عملكم، لا من أجل أن تحصلوا على الراتب والمكافأة والجاه وما أشبه ذلك ، ولكن من أجل أن ترفعوا الآلام والأمراض بقدر الله تعالى عزوجل على أيديكم والإحسان إلى هؤلاء الذين تداوونهم، وبإخلاص النية يكون أثر العمل جيداً والعكس كذلك.
2- أن تحرصوا على تذكير الإنسان المريض التوبة والاستغفار وكثرة الذكر وقراءة القرآن ولا سيما هاتان الكلمتان التي قال فيهما الرسول صلى الله عليه وسلم : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم))، والمريض لن يتكلف ولن يشق عليه أن يقول هذا فوجهوه إلى أن يستغل الوقت.
3- إذا قدر أن أحد المرضى حضر أجله فالمطلوب منكم أن تلقنوه شهادة أن لا إله إلا الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ))، ولكن التلقين يكون برفق، فهل تقول له يا فلان قل لا إله إلا الله لأن أجلك قد حضر؟!!!، لا.. ولكن يمكن أن تذكر الله عنده ، فإذا ذكرت الله عنده تذكر، نعم إن كان كافراً تقول له قل لا إله إلا الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب حين حضرته الوفاة (( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله )) ، وقال للغلام اليهودي في المدينة وقد عاده النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضر أجل الغلام فعرض عليه الإسلام فالتفت الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه فقال له:( أطع أبا القاسم)، فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الحمد لله الذي أنقذه من النار)).
4- من ذلك أن تسألوه كيف يصلي ، كيف يتطهر، وترشدوه إلى ما عندكم من العلم، لأن بعض المرضى لا يتطهر كما ينبغي ، بعض المرضى يكون على ثيابه شيء من النجاسة ويقول إذا شفاني الله تطهرت وصليت، بعض المرضى يقصر الصلاة وهو في بلده، يظن أنه إذا جاز الجمع جاز القصر وهذا ليس بصحيح، القصر إنما يجوز للمسافر فقط . فإذا كان المريض من أهل الرياض مثلاً وقلنا له لا بأس عليك أن تجمع بين الصلاتين إذا شق عليك أن تصلي كل صلاتين في وقتها، فلا يجوز له أن يقصر، ولكن إذا كان من بلد آخر ويعالج في الرياض قلنا له اقصر واجمع.
5- إذا كان المريض من غير جنسك، بمعنى أنه دعت الضرورة بأن يعالج الرجل امرأة فليحذر الفتنة، ولا ينظر منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وبأدنى قول أو عمل لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، قد تقول في هذا المكان لا يمكن للإنسان أن تتحرك شهوته أو ما أشبه ذلك، فنقول صحيح وهذا هو الأصل، ولكن ما ظنك إذا كان الشيطان يجري بابن آدم مجرى الدم، ألا يمكن أن يغوي هذا الإنسان؟ ، بلى.. هذا ممكن.
6- أوصيكم أن تحرصوا أن يكون استقبال المريض في حال الصلاة إلى جهة القبلة بقدر الإمكان حتى لو أدرنا السرير إن أمكن فليكن ، فإن لم يكن فقولوا للمريض (( اتق الله حيثما كنت)) ، قال الله عزوجل : (( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم)) ، وقال الله عزوجل: (( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها))، وقال تعالى: (( فاتقوا الله ما استطعتم))، وتشرحوا صدره وتقولوا له إذا كان من عادتك أنك تصلي إلى القبلة وهو الواقع فإنه يكتب لك الأجر كاملاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً )).
7- أوصيكم أن توصوا المرضى إذا كانوا في غرفة واحدة ، بأن لا يؤذي بعضهم بعضاً، فإن بعض المرضى قد يؤذي الآخرين إما باستماع مسجل أو راديو ، وإذا كان هذا ممنوعاً فربما يؤذي من معه بقراءة القرآن، يقرأ القرآن ويرفع صوته،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وبعضهم يرفع صوته على الآخرين وهم يصلون قال : (( لا يؤذين بعضكم بعضاً في القراءة)) .
8- أوصيكم ألا تكثروا الكلام مع الممرضات إلا بقدر الضرورة مع غضّ البصر لأن المسألة هذه خطيرة جداً، فقد تؤدي المحادثة إلى ما هو شر منها، لكن ما دعت إليه الضرورة لا بأس بها مع غض البصر بقدر المستطاع.
9- أوصيكم بالمحافظة على وقت الدوام بأن لا يتخلف أحد عن وقت الحضور ولا يخرج قبل وقت الخروج ، لأن هذا الوقت ليس لك ، وقت العمل ليس للإنسان ، فإنه يأخذ عليه أجراً، فكل دقيقة فلها نصيب من الأجر، ولا يحل لإنسان أن يتأخر عن أول الحضور، ولا أن يتقدم عن آخر الحضور، والإنسان و أمانته.
10- أوصيكم أن تؤمنوا وتوقنوا بأن أعمالكم هذه ليست إلا مجرد سبب وأن الأمر بيد الله عزوجل ، فقد يفعل الإنسان سبباً تاماً ولكن لا يحصل له أثر لأن الأمر بيد الله، ولهذا لو أخذنا حديث (( الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت))؛ للزم أن لا يمرض أحد ، ولكن ليس الأمر هكذا ، هي سبب ولا شك، ولكن هذا السبب قد يتخلف أثره لوجود مانع فأنت وإن كنت حاذقاً مخلصاً ؛ قد يتخلف أثر عملك عما تريده فاعلم أن الأمر بيد الله.
11- أوصيكم أن تستخدموا التسمية عند بدء العلاج والعمل بها لأن كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فإنه أبتر أي مقطوع البركة.
هذا ما حضرني الآن من الوصايا وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم وأن يجعل عملكم خالصاً لله ونافعاً لعباد الله عزوجل..
آخر محاضرة لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –
أقيمت بالمستشفى التخصصي بالرياض بتاريخ 14/6/1421هـ
محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، نحمد الله الذي أنعم علينا بأكرم دين وأشرف ملة ، وبعث إلينا أعز رسله وافضل خلقه نبياً وهادياً ومعلماً، هذا الدين العظيم الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة في شئون دنيانا إلا هدانا إلى طيبها ونهانا عن سيئها..
أيها الأخوة والأخوات في الله.. لا يخفى على الجميع أن مهنة الطب تأتي في مقدمة الأعمال السامية وذلك عندما تخلص النية لله وتوضع مصلحة المسلمين ومداواة مرضاهم والتخفيف من آلامهم في المقام الأول، هذا العمل الإنساني الهام لم تتركه قواعد ديننا الحنيف بلا ضوابط ولا أخلاقيات ، شأن ذلك شأن كل الأعمال والمهن حتى من قبل أن تتدخل الهيئات والمنظمات الصحية بوضع أنظمتها ولوائحها، بل وضعت الشريعة السمحاء قواعد هامة لجميع من يؤدون أعمالاً للآخرين أن يتوخوا الخوف من الله والإخلاص والأمانة فيما يؤدون، وأن يقدموا ما في وسعهم لإنجاز ما أوكل إليهم على أكمل وجه يرضي الله عز وجل.
أيها الأخوة.. نسعد اليوم بتواجد أخ كريم وكبير وضيف عزيز، وهب سني عمره المديد لخدمة دين الله وإصلاح مجتمعه، داعياً بما مكنه الله من علم وفقه إخوانه المسلمين إلى سبيل الرشد والصلاح ، فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين.
--------------------------------------------------------------------------------
المحاضرة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.. أيها الأخوة فإنني أشكر الله عز وجل أن يسر اللقاء بكم معشر الأطباء في هذه الليلة ، ليلة الثلاثاء 14 من شهر جماد الآخرة 1421هـ ، هذا اللقاء الذي أسأل الله عزوجل أن يكون لقاء مباركاً ، وسأتكلم بما يريد الله عزوجل حول هذا الموضوع ..
المرض نوعان أيها الأخوة، مرض القلب وهو مرض معنوي والثاني مرض الجسم وهو مرض حسي، والأول أولى بالاجتناب والعناية لأنه يترتب عليه الهلاك الأبدي أو البقاء الأبدي، مرض القلب له شعبتان: الشعبة الأولى الجهل فإن كثيراً من الناس يحب الخير ويسعى له و لكن عنده جهل ، فيحصل من ذلك خطأ عظيم ولهذا قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ( من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى) ، لأن النصارى أرادوا الخير ولكن ضلوا عنه كما قال عز وجل: (( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله))، وقال سفيان: ( من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود)) لأن اليهود علموا الحق ولكن خالفوا الحق، على هذا يدور مرض القلب وحينئذ نعلم أنه لا بد لنا من العلم ولا بد لنا من الإذعان والقبول للشرائع وإلا لحصل الهلاك، هذا الهلاك ليس كهلاك الأبدان، هلاك الأبدان عود على الأول(( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم))، لكن هلاك القبول معناه فقد الحياة، لأن الإنسان لم يستفد من وجوده في الدنيا، خسر الدنيا، ولن يستفيد في الآخرة، وما هي الحياة الحقيقة..؟!..، حياة الآخرة لقول الله تبارك وتعالى : (( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان )) قال أهل العلم: الحيوان الحياة الكاملة، وقال عزوجل : (( يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى* يقول ياليتني قدّمت لحياتي))، ولهذا كان الواجب أن يعتني الإنسان بتصحيح مرض قلبه قبل كل شيء ولكن من أين نأخذ الدواء لهذا المرض، من ينبوعين أساسين ، هما الكتاب والسنة، والكتاب والحمد لله وصفه الله تعالى بأنه تبيان لكل شيء، ما من شيء يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم إلا وجد في القرآن، إما وجد في القرآن بعينه وإما بالإشارة إليه والتحويل على جهة أخرى.
كلنا نعلم أنه لا يوجد في القرآن عدد ركعات الصلوات ولا عدد الصلوات ولا أنصبة الزكاة، ولا أركان الحج المعروفة ، لكن محال إلى السنة، قال الله عزوجل: (( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم )). هذا هو الجواب للمرض الخطير الذي ذكرته لكم، وهو يسير على من يسره الله عليه لأن هناك أموراً لابد للإنسان من معرفتها وهي سهلة يأخذها الإنسان من أفواه العلماء أو من الكتب المؤلفة من علماء موثوقين ويستنير بها.
أما المرض الثاني، المرض الحسي؛ فهو مرض أسهل، الأعضاء أو الجلود أو غيرها مما تعرفون فيه أكثر مما أعرف، هذا المرض له دواءان، دواء أنفع وأجمع وأوسع، وهو الدواء الذي جاءت به الشريعة، والشريعة الإسلامية جاءت بهذا الدواء، الدواء الشرعي للأجسام ، وسأذكر إن شاء الله ما يتبين به ذلك، فمثلاً القرآن الكريم دواء نافع ناجع لأمراض جسدية وأمراض نفسية وأمراض عقلية، لا يمكن للدواء الحسّي أن ينجح فيها، ثم إن الدواء الشرعي لا يحتاج طول مدة، لأن الدواء الشرعي من لدن الله عزوجل الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
ولعلكم سمعتم قصة الصحابة الذين استضافوا قوماً من العرب، فأبوا أن يضيفوهم، ثم انحازوا إلى ناحية وسلط الله على سيدهم عقرباً لدغته وآلمته كثيراً، فقال بعضهم لبعض لعل هؤلاء القوم الذين نزلوا بكم لعل فيهم من يقرأ فأتوا على الصحابة فقالوا: إن سيدهم لدغ فهل فيكم من قارئ، قالوا نعم ولكن لا نقرأ عليه إلا بقطيع من الغنم، لأنكم لم تقوموا بحقنا في الضيافة، قالوا فليكن وأعطوهم قطيع من الغنم، فذهب أحد الصحابة إلى الرجل فقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأنه نشط من عقال، في الحال. ومثل هذا لو عولج بالأدوية الحسية إن نفعت فسيكون هناك وقت، لكن هذا في الحال.
الأمراض النفسية كثيراً ما تستعصي على الأطباء إذا عالجوها بالأدوية الحسية، ولكن دواؤها بالرقية ناجع ومفيد ، وكذلك الأمراض العقلية، تنفع فيها الأدوية الشريعة وقد لا تنفع فيها الأدوية الحسية، لذلك أريد منكم أيها الأخوة أن تلاحظوا هذا وإذا أمكنكم أن تجمعوا بين الدواءين فهو خير، أي الحسي والشرعي، حتى تصرفوا قلوب المرضى إلى التعلق بالله عزوجل وآياته، وحينئذ أحيلكم إلى الكتب المؤلفة في هذا الشأن، أن تطالعوها وتحفظوها وترشدوا إليها المرضى، لأن تعلق المريض بالله عز وجل له أثر قوي في إزالة المرض أو تخفيف المرض.
الأدوية الحسية معروفة، وهي نوعان، منها ما تلقاه الناس من الشرع، ومنها ما تلقوه من التجارب، فمما تلقاه الناس من الشرع، التداوي بالعسل فإن ذلك دواء شرعي ، ودليله قوله عزوجل في النجل: (( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس))، ومن ذلك الحبة السوداء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنها شفاء من كل داء إلا السام )) وهو الموت، ومنها الكمأ ( نوع من الفقع) قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (( الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين)). وهذا أمر مسلّم يجب أن نؤمن به حتى لو فرض أنه لم ينفع فليس ذك لقصور السبب ولكن لوجود مانع منعنا من الانتفاع به، لأن الأسباب التي جاءت في الشرع قد تتخلف آثارها لوجود مانع لكن هذا أمر مسلم.
أما النوع الثاني من الأدوية الحسية، فهو متلقى من التجارب، وهذا كثير حتى أنه يوجد الآن ممن لم يدرسوا الطب نظرياً من استفادوا بالتجارب فكانت أدويتهم أحسن من الأدوية المعقمة التي صنعت على وجه صحي.
ولا يجوز أبداً أن ننكر هذا ، وقد سمعنا كثيراً من الإذاعات من اخترع أدوية عثر عليها من الأشجار والحشائش لم تكن معلومة من قبل وأثرها أكبر من أثر الموجود المستعمل.
كل هذا بقضاء الله وقدره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء – دواء- علمه من علمه وجهله من جهله))، لذلك أحياناً يأتي الشفاء باستعمال دواء غير معلوم لهذا المرض يأتي صدفة، وهذا داخل في قوله (( وجهله من جهل)) ، لكن ثق أن كل هذه الأشياء بقضاء الله وقدره، هو الذي أنزل هذا وجعل له دواء وقد يرفع الداء بدون أن يكون هناك سبب ، لأن الله تعالى على كل شيء قدير.
أخيراً توصيات يسيرة لكم:
1- إخلاص النيّة لله تعالى في عملكم، لا من أجل أن تحصلوا على الراتب والمكافأة والجاه وما أشبه ذلك ، ولكن من أجل أن ترفعوا الآلام والأمراض بقدر الله تعالى عزوجل على أيديكم والإحسان إلى هؤلاء الذين تداوونهم، وبإخلاص النية يكون أثر العمل جيداً والعكس كذلك.
2- أن تحرصوا على تذكير الإنسان المريض التوبة والاستغفار وكثرة الذكر وقراءة القرآن ولا سيما هاتان الكلمتان التي قال فيهما الرسول صلى الله عليه وسلم : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم))، والمريض لن يتكلف ولن يشق عليه أن يقول هذا فوجهوه إلى أن يستغل الوقت.
3- إذا قدر أن أحد المرضى حضر أجله فالمطلوب منكم أن تلقنوه شهادة أن لا إله إلا الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ))، ولكن التلقين يكون برفق، فهل تقول له يا فلان قل لا إله إلا الله لأن أجلك قد حضر؟!!!، لا.. ولكن يمكن أن تذكر الله عنده ، فإذا ذكرت الله عنده تذكر، نعم إن كان كافراً تقول له قل لا إله إلا الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب حين حضرته الوفاة (( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله )) ، وقال للغلام اليهودي في المدينة وقد عاده النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضر أجل الغلام فعرض عليه الإسلام فالتفت الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه فقال له:( أطع أبا القاسم)، فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الحمد لله الذي أنقذه من النار)).
4- من ذلك أن تسألوه كيف يصلي ، كيف يتطهر، وترشدوه إلى ما عندكم من العلم، لأن بعض المرضى لا يتطهر كما ينبغي ، بعض المرضى يكون على ثيابه شيء من النجاسة ويقول إذا شفاني الله تطهرت وصليت، بعض المرضى يقصر الصلاة وهو في بلده، يظن أنه إذا جاز الجمع جاز القصر وهذا ليس بصحيح، القصر إنما يجوز للمسافر فقط . فإذا كان المريض من أهل الرياض مثلاً وقلنا له لا بأس عليك أن تجمع بين الصلاتين إذا شق عليك أن تصلي كل صلاتين في وقتها، فلا يجوز له أن يقصر، ولكن إذا كان من بلد آخر ويعالج في الرياض قلنا له اقصر واجمع.
5- إذا كان المريض من غير جنسك، بمعنى أنه دعت الضرورة بأن يعالج الرجل امرأة فليحذر الفتنة، ولا ينظر منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وبأدنى قول أو عمل لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، قد تقول في هذا المكان لا يمكن للإنسان أن تتحرك شهوته أو ما أشبه ذلك، فنقول صحيح وهذا هو الأصل، ولكن ما ظنك إذا كان الشيطان يجري بابن آدم مجرى الدم، ألا يمكن أن يغوي هذا الإنسان؟ ، بلى.. هذا ممكن.
6- أوصيكم أن تحرصوا أن يكون استقبال المريض في حال الصلاة إلى جهة القبلة بقدر الإمكان حتى لو أدرنا السرير إن أمكن فليكن ، فإن لم يكن فقولوا للمريض (( اتق الله حيثما كنت)) ، قال الله عزوجل : (( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم)) ، وقال الله عزوجل: (( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها))، وقال تعالى: (( فاتقوا الله ما استطعتم))، وتشرحوا صدره وتقولوا له إذا كان من عادتك أنك تصلي إلى القبلة وهو الواقع فإنه يكتب لك الأجر كاملاً لقوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً )).
7- أوصيكم أن توصوا المرضى إذا كانوا في غرفة واحدة ، بأن لا يؤذي بعضهم بعضاً، فإن بعض المرضى قد يؤذي الآخرين إما باستماع مسجل أو راديو ، وإذا كان هذا ممنوعاً فربما يؤذي من معه بقراءة القرآن، يقرأ القرآن ويرفع صوته،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وبعضهم يرفع صوته على الآخرين وهم يصلون قال : (( لا يؤذين بعضكم بعضاً في القراءة)) .
8- أوصيكم ألا تكثروا الكلام مع الممرضات إلا بقدر الضرورة مع غضّ البصر لأن المسألة هذه خطيرة جداً، فقد تؤدي المحادثة إلى ما هو شر منها، لكن ما دعت إليه الضرورة لا بأس بها مع غض البصر بقدر المستطاع.
9- أوصيكم بالمحافظة على وقت الدوام بأن لا يتخلف أحد عن وقت الحضور ولا يخرج قبل وقت الخروج ، لأن هذا الوقت ليس لك ، وقت العمل ليس للإنسان ، فإنه يأخذ عليه أجراً، فكل دقيقة فلها نصيب من الأجر، ولا يحل لإنسان أن يتأخر عن أول الحضور، ولا أن يتقدم عن آخر الحضور، والإنسان و أمانته.
10- أوصيكم أن تؤمنوا وتوقنوا بأن أعمالكم هذه ليست إلا مجرد سبب وأن الأمر بيد الله عزوجل ، فقد يفعل الإنسان سبباً تاماً ولكن لا يحصل له أثر لأن الأمر بيد الله، ولهذا لو أخذنا حديث (( الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت))؛ للزم أن لا يمرض أحد ، ولكن ليس الأمر هكذا ، هي سبب ولا شك، ولكن هذا السبب قد يتخلف أثره لوجود مانع فأنت وإن كنت حاذقاً مخلصاً ؛ قد يتخلف أثر عملك عما تريده فاعلم أن الأمر بيد الله.
11- أوصيكم أن تستخدموا التسمية عند بدء العلاج والعمل بها لأن كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فإنه أبتر أي مقطوع البركة.
هذا ما حضرني الآن من الوصايا وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم وأن يجعل عملكم خالصاً لله ونافعاً لعباد الله عزوجل..