وهذه مقالة وجدتها في أحد المواقع
اشتهرت كتابات المستشرق المجري جولا (يوليوس) جرمانوس (1884 - 1979) عن الإسلام والعرب والشرق عموماً في المجر وأوروبا في شكل ملموس، وأصبحت كتبه مصدر إلهام للمستشرقين والمستعربين المجريين منذ صدورها. فقد دوّن في كتبه تجاربه وخبرته وملاحظاته عن رحلاته الكثيرة إلى الشرق، خصوصاً الهند والبلاد العربية وتركيا. وبذلك يمكن تصنيف الكثير من أعماله بأنها من أدب الرحلات إلى كونها كتباً علمية بحثت في التاريخ والثقافة والحضارة والأديان في البلدان التي زارها.
ولد في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1884، وتعلم الألمانية والفرنسية واللاتينية مبكراً، ثم بدأ يدرس التأريخ والألسنيات الكلاسيكية في جامعة العلوم في بودابست في العام 1902، وسرعان ما شغف بعلم الاستشراق وتعلم التركية وكذلك الفارسية على آرمين فامبيري والعربية على إغناتس غولدسيهر. لكن تعلمه اللغات الشرقية جاء وسيلة ليتعرف بها على روح الشرق، والإسلام خير ما يعبر عن هذه الروح. قام بأولى رحلاته في 1902 عندما زار البوسنة (وكانت تدار من قبل المجر وقتئذ نيابة عن الإمبراطور النمسوي). في هذه الرحلة تعرف على الإسلام عند البوشناق.
كانت رحلته الثانية أكثر إثارة، فقد زار اسطنبول في منحة دراسية سنة 1903، ولكنه تورط في الاتصال بحركة «تركيا الفتاة» التي كانت تنتظم ضد الاستبداد الحميدي، فألقي القبض عليه واتهم بالتجسس وحكم عليه بالإعدام، غير أنه نجا في اللحظة الأخيرة بعد تدخل القنصل النمسوي. وضع جرمانوس فور عودته في 1905 دراسة عن «العناصر العربية والفارسية في اللغة التركية». وصدر أول كتاب له في فيينا باللغة الألمانية في العام 1906 عنوانه «تأريخ الشعر عند العثمانيين»، وحصل على شهادة الدكتوراه في العام 1907 (في تخصص اللغات والآداب التركية والعربية وكذلك التاريخ العالمي القديم).
حصل على منحة دراسية إلى بريطانيا لثلاث سنوات بعد تقديمه بحث معنون «أوليا جلبي عن نقابات الحرفيين في تركيا القرن السابع عشر»، أمضاها بين 1908 – 1911 في البحث والدراسة في المتحف البريطاني.
في 1912 أصبح استاذاً للغات في الأكاديمية الملكية المجرية للدراسات الشرقية، ثم تعيّن في منصب في رئاسة الوزراء كانت مهمته متابعة ما يصدر من الصحف في الشرق، وزار تركيا العثمانية مرات عدة خلال الحرب. وخلال هذه الزيارات التقى بأصدقائه القدماء في منظمة تركيا الفتاة وقد وصلوا السلطة الفعلية مثل أنور باشا وزير الحربية وجاويد افندي وزير المالية وأحمد رضا رئيس مجلس الأعيان، واستقبله السلطان محمد السادس كذلك وخلع عليه الوسام المجيدي. وقام جرمانوس بدور مهم في حركة الهلال والصليب الأحمر عبر توصيل الأدوية والمعونات إلى العثمانيين، وتعرف على مصطفى كمال باشا الذي أضحى يسمى كمال أتاتورك. وكان جرمانوس متواجداً أثناء معارك الدردنيل، حيث جرح وأسر من قبل الإنكليز الذين أطلقوا سراحه بعد فترة وجيزة. ولقاء نشاطه في دعم العثمانيين حلفاء امبراطورية النمسا - المجر، خلع عليه ولي العهد عبدالمجيد أرقى وسام وهو وسام العثمانية.
يعود إلى التدريس بعد الحرب ثم ينتخب رئيساً لنادي القلم العالمي في 1926، فيقوم بتنظيم وتشكيل نادي القلم في بلغاريا (1928) ومصر (1934).
بعد زيارة قصيرة إلى تركيا أتاتورك حيث صدمته التحولات التي سارت باتجاه القضاء على الثقافة التركية القديمة وإحلال ثقافة أوروبية محلها، بدأت أولى رحلاته الشهيرة التي غيرت من مجرى حياته وخلدها في كتبه، وهي الرحلة إلى الهند في 1928 بدعوة من رابندرانات طاغور لتنظيم معهد الدراسات الإسلامية في جامعة سانتينيكيتان بكلكتا، حيث أمضى ثلاث سنوات في البنغال. التقى هناك بعدد من القادة الهنود بينهم مهاتما غاندي، وألف عدداً من الكتب صدرت لاحقاً، مثل «الهند اليوم» (1933) و «التنوير في الهند» (1934). خلال تلك الفترة زار دلهي بدعوة من عميد جامعة دلهي الإسلامية زاكر حسين (الذي أصبح رئيساً للهند لاحقاً في 1967)، وهناك أشهر اسلامه في المسجد الجامع المعروف باسم شاه جيهان، حيث قام بإلقاء خطبة عن ازدهار الإسلام من على منبر الجامع لاقت صدى واسعاً في الهند والعالم الإسلامي وتناقلتها الصحف. اختار جرمانوس لنفسه اسم عبدالكريم، وأصبح يعرف في العالمين العربي والإسلامي بهذا الاسم. بعدها قرر الذهاب إلى رحلة الحج لتبدأ رحلته المثيرة الثانية في 1934 إلى مصر وشبه الجزيرة العربية. ففي مصر درس في الجامع الأزهر علوم الإسلام وتعرف الى الكتاب الطليعيين مثل طه حسين ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وكذلك الى أمين المجمع العلمي العربي حسين هيكل. ابتدأت رحلته إلى الحج في 1935، وخلالها التقى بالملك عبدالعزيز بن سعود، وكان يود القيام برحلة من الحجاز إلى الرياض مع القوافل، غير أن مرضه المفاجئ حال دون ذلك. وقام بوصف رحلة الحج هذه ولقاءه بالملك عبدالعزيز في كتابه الشهير «الله أكبر!» الصادر في 1936، وقد صدر هذا الكتاب القيم بطبعات كثيرة، آخرها طبعة 2004 المجرية، كما ترجم إلى الكثير من اللغات.
وسنحت له الفرصة للقيام برحلة الى الصحراء في 1939 بعد مغامرات مثيرة واجهها في طريقه عبر البحر إلى مصر وزار لبنان وسورية ثم قام برحلة الحج الثانية. يكتب في مقدمة طبعة «الله أكبر!» الصادرة في 1973 ما يأتي: «زرت شبه الجزيرة ومكة والمدينة المنورة ثلاث مرات. ونشرت تجاربي خلال سفرتي الأولى في كتابي «الله أكبر!». وفي 1939 - 1940 بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، انطلقت عبر الدانوب لأصل إلى البحر بصفة بحّار من دون أن أعبأ بالمخاطر والتعب. فوصلت مصر ومنها أبحرت إلى شبه الجزيرة. أمضيت في المدينة المنورة أشهر عدة حيث زرت الأمكنة التي ارتبطت بحياة الرسول (صلى الله عليه وسلّم): آثار مسجد القبلتين ومقبرة البقيع حيث دفنت زوجة الرسول ومواقع معركتي بدر وأحد. كنت ضيفاً على المسجد المصري الذي أسسه محمد علي في المدينة. وفي الأماسي زارني العلماء المسلمون لنتحدث عن حال الإسلام في العالم. وكما شرحت في كتابي هذا، شعّت منهم نحوي روح الإسلام بقوة وبنفس العمق دون نقصان على رغم كل التغيرات الدنيوية التي يشهدها العالم، تماماً مثلما خبرته في أيام شبابي التي قضيتها في الشرق المسلم». وقد تحقق حلمه في الذهاب من الحجاز إلى الرياض مع القوافل خلال رحلة 1939، فوصل إليها بعد أربعة أسابيع عصيبة خلد تفاصيلها في كتابه الشهير «تحت ضوء الهلال الخافت» (1957).
وعرض في كتابه اللاحق «نحو أنوار الشرق» (1966) تجاربه خلال رحلاته التي قام بها بين 1955-1965. خلال تلك الفترة أصبح عضواً في المجامع العلمية العربية بمصر (1956) وبغداد (1962) ودمشق (1966). فقد زار بغداد في 1962 بدعوة من رئيس الوزراء الزعيم عبدالكريم قاسم للمساهمة في الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الذكرى 1200 لتأسيس بغداد وعندها أصبح عضواً في المجمع العلمي العراقي، وقدم في احتفال التنصيب بحثاً عنوانه «تأريخ الإسلام في المجر». وفي 1964 دعته الحكومة المصرية للمساهمة في الاحتفال بالذكرى الألفية لتأسيس الأزهر، ثم في 1965 دعاه الملك فيصل بن سعود لحضور المؤتمر الإسلامي في مكة، وقام بشعائر الحج للمرة الثالثة خلال وجوده هناك وهو في السنة الحادية والثمانين من العمر.
كان جرمانوس كاتباً غزير الإنتاج تناول مختلف المواضيع، فقد كتب في تأريخ وأدب الأتراك العثمانيين، وبحث في التطورات المعاصرة للجمهورية التركية، وبحث في الإسلام والتيارات الفكرية الإسلامية المعاصرة والأدب العربي (وله كتاب مهم عنوانه «تاريخ الأدب العربي» صدر في 1962، وقبله «الشعراء العرب من الجاهلية حتى يومنا هذا» الصادر في 1961)، وكتب عن الرحالة والجغرافيين العرب كتاب «الجغرافيون العرب» (لندن 1954)، وله دراسات كثيرة عن الهند. وكان يؤلف كتبه وأبحاثه بعدد من اللغات إلى جانب المجرية، مثل الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. ولعل أسلوبه السهل الآسر كان وراء انتشار كتبه وبهذا قام جرمانوس بدور رائد في التعريف بالثقافة العربية والأدب العربي وبالإسلام وبحضارة الشرق عموماً، فتعرفت أجيال متتالية من المجريين على أعماله وأحبتها.
توفي جرمانوس في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1979 وقد بلغ عامه السادس والتسعين، ودفن حسب الشعائر الإسلامية في مقبرة من مقابر بودابست. ويحتفظ المتحف الجغرافي المجري في مدينة أيرد بكامل أرشيف هذا الرحالة والمستشرق المجري المسلم.
المصدر: جريدة الحياة اللندنية