اَلنَّوْعُ الْعَاشِرُ
اَلْمُنْقَطِعُ
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَفِيهِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ مَذَاهِبُ.
(قُلْتُ) فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ أَنْ يَسْقُطَ مِنَ الْإِسْنَادِ رَجُلٌ ، أَوْ يُذْكَرُ فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ.
وَمَثَّلَ اِبْنُ الصَّلَاحِ لِلْأَوَّلِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا (إِنْ وَلَّيْتُمُوهَا أَبَا بَكْرٍ فَقَوِيٌّ أَمِينٌ) الْحَدِيثَ قَالَ فَفِيهِ اِنْقِطَاعٌ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الثَّوْرِيِّ ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْجَنَدِيِّ عَنْهُ وَالثَّانِي أَنَّ الثَّوْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْهُ.
وَمَثَّلَ الثَّانِيَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلَيْنِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، حَدِيثُ "اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ".
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُنْقَطِعُ مِثْلُ الْمُرْسَلِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى مَا رَوَاهُ التَّابِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَهَذَا أَقْرَبُ ، وَهُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِفَايَتِهِ.
قَالَ وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ مَا رُوِيَ عَنْ التَّابِعِيِّ فَمَنْ دُونَهُ ، مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ غَرِيبٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اَلنَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ
اَلْمُعْضَلُ
وَهُوَ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اِثْنَانِ فَصَاعِدً ، وَمِنْهُ مَا يُرْسِلُهُ تَابِعُ التَّابِعِيِّ قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وَقَدْ سَمَّاهُ الْخَطِيبُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ "مُرْسَلًا" وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ "مُرْسَلًا".
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ (وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا ؛ فَيَقُولُ لَا ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ) الْحَدِيثَ قَالَ فَقَدْ أَعْضَلَهُ الْأَعْمَشُ ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ يَرْوِيهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقَدْ أَسْقَطَ مِنْهُ الْأَعْمَشُ أَنَسًا وَالنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَنَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى مُعْضَلًا.
قَالَ وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُطْلِقَ عَلَى الْإِسْنَادِ المُعَنْعَنِ اِسْمَ "اَلْإِرْسَالِ" أَوْ "اَلِانْقِطَاعِ".
قَالَ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ ، إِذَا تَعَاصَرُوا ، مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ وَصْمَةِ التَّدْلِيسِ.
وَقَدْ اِدَّعَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ الْمُقْرِئُ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَادَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ أَيْضًا .
(قُلْتُ) وَهَذَا هُوَ الَّذِي اِعْتَمَدَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَشَنَّعَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْمُعَاصَرَةِ اللُّقْيَ ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ يُرِيدُ الْبُخَارِيَّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ ، فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِي أَصْلِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُهُ فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ ، وَلَكِنْ اِلْتَزَمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ "اَلصَّحِيحِ" وَقَدْ اِشْتَرَطَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ مَعَ اللِّقَاءِ طُولَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ قُبِلَتْ الْعَنْعَنَةُ وَقَالَ الْقَابِسِيُّ إِنْ أَدْرَكَهُ إِدْرَاكًا بَيِّنًا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيمَا إِذَا قَالَ الرَّاوِي "إِنَّ فُلَانًا قَالَ" هَلْ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ "عَنْ فُلَانٍ" ، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاتِّصَالِ ، حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ؟ أَوْ يَكُونَ قَوْلُهُ "إِنَّ فُلَانًا قَالَ" دُونَ قَوْلِهِ "عَنْ فُلَانٍ"؟ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَرْدِيجِيُّ ، فَجَعَلُوا "عَنْ" صِيغَةَ اِتِّصَالٍ ، وَقَوْلُهُ "إِنَّ فُلَانًا قَالَ كَذَا" فِي حُكْمِ الِانْقِطَاعِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا مُتَّصِلَيْنِ ، قَالَهُ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَدْ حَكَى اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمُتَّصِلَ بِالصَّحَابِيِّ ، سَوَاءٌ فِيهِ أَنْ يَقُولَ "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" ، أَوْ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" أَوْ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وَبَحَثَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو هَهُنَا فِيمَا إِذَا أَسْنَدَ الرَّاوِي مَا أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَحَ فِي عَدَالَتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، إِذَا كَانَ الْمُخَالِفُ لَهُ أَحْفَظَ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ عَدَدً ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ بِالْكَثْرَةِ أَوْ الْحِفْظِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ الْمُسْنَدَ مُطْلَقً ، إِذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا وَصَحَّحَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ ، وَعَزَاهُ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ ، وَحُكِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ.
اَلنَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ
اَلْمُدَلِّسُ
وَالتَّدْلِيسُ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ ، مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ.
وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ اِبْنُ خَشْرَمٍ كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ "قَالَ الزُّهْرِيُّ كَذَا" فَقِيلَ لَهُ أَسَمِعْتَ مِنْهُ هَذَا؟ قَالَ "حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ".
وَقَدْ كَرِهَ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ التَّدْلِيسِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَذَمُّوهُ وَكَانَ شُعْبَةُ أَشَدَّ النَّاسِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ.
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالزَّجْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ.
وَمِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ جَرَّحَ مَنْ عُرِفَ بِهَذَا التَّدْلِيسِ مِنْ الرُّوَاةِ ، فَرَدَّ رِوَايَتَهُ مُطْلَقً ، وَإِنْ أَتَى بِلَفْظِ الِاتِّصَالِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ دَلَّسَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ : وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ ، فَيُقْبَلُ ، وَبَيْنَ مَا أُتِيَ فِيهِ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ ، فَيُرَدُّ.
قَالَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ ، كَالسُّفْيَانَيْنِ وَالْأَعْمَشِ وَقَتَادَةَ وَهُشَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ.
(قُلْتُ) وَغَايَةُ التَّدْلِيسِ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِرْسَالِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ، وَهُوَ يَخْشَى أَنْ يُصَرِّحَ بِشَيْخِهِ فَيُرَدُّ مِنْ أَجْلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التَّدْلِيسِ فَهُوَ الْإِتْيَانُ بِاسْمِ الشَّيْخِ أَوْ كُنْيَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ بِهِ ، تَعْمِيَةً لِأَمْرِهِ ، وَتَوْعِيرًا لِلْوُقُوفِ عَلَى حَالِهِ ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ ، فَتَارَةً يُكْرَهُ ، كَمَا إِذَا كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ ، أَوْ نَازِلَ الرِّوَايَةِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَتَارَةً يَحْرُمُ ، كَمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَدَلَّسَهُ لِئَلَّا يُعْرَفَ حَالُهُ ، أَوْ أَوْهَمَ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الثِّقَاتِ عَلَى وَفْقِ اِسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئُ عَنْ أَبِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ فَقَالَ "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ" ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ النَّقَّاشِ الْمُفَسِّرِ فَقَالَ "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَنَدٍ" نَسَبُهُ إِلَى جَدٍّ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ : وَقَدْ كَانَ الْخَطِيبُ لَهَجَ بِهَذَا الْقِسْمِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ.
اَلنَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ
اَلشَّاذُّ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَا رَوَى النَّاسُ ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَ مَا لَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ.
وَقَدْ حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ أَيْضًا.
قَالَ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّاذَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا إِسْنَادٌ وَاحِدٌ ، يَشِذُّ بِهِ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ ، فَيُتَوَقَّفُ فِيمَا شَذَّ بِهِ الثِّقَةُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَيُرَدُّ مَا شَذَّ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ هُوَ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ ، وَلَيْسَ لَهُ مُتَابِعٌ قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا حَدِيثُ (اَلْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ ، وَعَنْهُ عَلْقَمَةُ ، وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ ، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.
(قُلْتُ) ثُمَّ تَوَاتَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ هَذَ ، فَيُقَالُ إِنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْنِ ، وَقِيلَ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ اِبْنُ مَنْدَهْ مُتَابَعَاتٍ غَرَائِبَ ، وَلَا تَصِحُّ ، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ ، وَفِي الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.
قَالَ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ".
وَتَفَرَّدَ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ).
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فَقَطْ.
وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ لِلزُّهْرِيِّ تِسْعُونَ حَرْفًا لَا يَرْوِيهَا غَيْرُهُ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، مِنْ تَفَرُّدِهِ بِأَشْيَاءَ لَا يَرْوِيهَا غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ فِي نَظِيرِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الرُّوَاةِ.
فَإِذَنْ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوَّلًا هُوَ الصَّوَابُ أَنَّهُ إِذَا رَوَى الثِّقَةُ شَيْئًا قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ النَّاسُ فَهُوَ الشَّاذُّ ، يَعْنِي الْمَرْدُودَ ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ مَا لَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ ، بَلْ هُوَ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا حَافِظًا.
فَإِنَّ هَذَا لَوْ رُدَّ لَرُدَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا النَّمَطِ ، وَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ عَنْ الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِهِ غَيْرَ حَافِظٍ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَدْلٌ ضَابِطٌ فَحَدِيثُهُ حَسَنٌ فَإِنْ فَقَدَ ذَلِكَ فَمَرْدُودٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اَلنَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ
اَلْمُنْكَرُ
وَهُوَ كَالشَّاذِّ إِنْ خَالَفَ رَاوِيهِ الثِّقَاتِ فَمُنْكَرٌ مَرْدُودٌ ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ضَابِطً ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ ، فَمُنْكَرٌ مَرْدُودٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ حَافِظٌ قُبِلَ شَرْعً ، وَلَا يُقَالُ لَهُ "مُنْكَرٌ" ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لُغَةً.
أ
اَلْمُنْقَطِعُ
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَفِيهِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ مَذَاهِبُ.
(قُلْتُ) فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ أَنْ يَسْقُطَ مِنَ الْإِسْنَادِ رَجُلٌ ، أَوْ يُذْكَرُ فِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ.
وَمَثَّلَ اِبْنُ الصَّلَاحِ لِلْأَوَّلِ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا (إِنْ وَلَّيْتُمُوهَا أَبَا بَكْرٍ فَقَوِيٌّ أَمِينٌ) الْحَدِيثَ قَالَ فَفِيهِ اِنْقِطَاعٌ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الثَّوْرِيِّ ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْجَنَدِيِّ عَنْهُ وَالثَّانِي أَنَّ الثَّوْرِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ شَرِيكٍ عَنْهُ.
وَمَثَّلَ الثَّانِيَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو الْعَلَاءِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ رَجُلَيْنِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، حَدِيثُ "اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ".
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُنْقَطِعُ مِثْلُ الْمُرْسَلِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى مَا رَوَاهُ التَّابِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَهَذَا أَقْرَبُ ، وَهُوَ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِفَايَتِهِ.
قَالَ وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ مَا رُوِيَ عَنْ التَّابِعِيِّ فَمَنْ دُونَهُ ، مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ غَرِيبٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اَلنَّوْعُ الْحَادِي عَشَرَ
اَلْمُعْضَلُ
وَهُوَ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اِثْنَانِ فَصَاعِدً ، وَمِنْهُ مَا يُرْسِلُهُ تَابِعُ التَّابِعِيِّ قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" وَقَدْ سَمَّاهُ الْخَطِيبُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ "مُرْسَلًا" وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ "مُرْسَلًا".
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ (وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا ؛ فَيَقُولُ لَا ، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ) الْحَدِيثَ قَالَ فَقَدْ أَعْضَلَهُ الْأَعْمَشُ ؛ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ يَرْوِيهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقَدْ أَسْقَطَ مِنْهُ الْأَعْمَشُ أَنَسًا وَالنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَنَاسَبَ أَنْ يُسَمَّى مُعْضَلًا.
قَالَ وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُطْلِقَ عَلَى الْإِسْنَادِ المُعَنْعَنِ اِسْمَ "اَلْإِرْسَالِ" أَوْ "اَلِانْقِطَاعِ".
قَالَ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ ، إِذَا تَعَاصَرُوا ، مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ وَصْمَةِ التَّدْلِيسِ.
وَقَدْ اِدَّعَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ الْمُقْرِئُ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَادَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ أَيْضًا .
(قُلْتُ) وَهَذَا هُوَ الَّذِي اِعْتَمَدَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَشَنَّعَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى مَنْ يَشْتَرِطُ مَعَ الْمُعَاصَرَةِ اللُّقْيَ ، حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ يُرِيدُ الْبُخَارِيَّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ ، فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِي أَصْلِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَإِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُهُ فِي أَصْلِ الصِّحَّةِ ، وَلَكِنْ اِلْتَزَمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ "اَلصَّحِيحِ" وَقَدْ اِشْتَرَطَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ مَعَ اللِّقَاءِ طُولَ الصَّحَابَةِ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ قُبِلَتْ الْعَنْعَنَةُ وَقَالَ الْقَابِسِيُّ إِنْ أَدْرَكَهُ إِدْرَاكًا بَيِّنًا.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيمَا إِذَا قَالَ الرَّاوِي "إِنَّ فُلَانًا قَالَ" هَلْ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ "عَنْ فُلَانٍ" ، فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الِاتِّصَالِ ، حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ؟ أَوْ يَكُونَ قَوْلُهُ "إِنَّ فُلَانًا قَالَ" دُونَ قَوْلِهِ "عَنْ فُلَانٍ"؟ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَرْدِيجِيُّ ، فَجَعَلُوا "عَنْ" صِيغَةَ اِتِّصَالٍ ، وَقَوْلُهُ "إِنَّ فُلَانًا قَالَ كَذَا" فِي حُكْمِ الِانْقِطَاعِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا مُتَّصِلَيْنِ ، قَالَهُ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَدْ حَكَى اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمُتَّصِلَ بِالصَّحَابِيِّ ، سَوَاءٌ فِيهِ أَنْ يَقُولَ "عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" ، أَوْ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" أَوْ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وَبَحَثَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو هَهُنَا فِيمَا إِذَا أَسْنَدَ الرَّاوِي مَا أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَحَ فِي عَدَالَتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، إِذَا كَانَ الْمُخَالِفُ لَهُ أَحْفَظَ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ عَدَدً ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ بِالْكَثْرَةِ أَوْ الْحِفْظِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ الْمُسْنَدَ مُطْلَقً ، إِذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا وَصَحَّحَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ الصَّلَاحِ ، وَعَزَاهُ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ ، وَحُكِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ.
اَلنَّوْعُ الثَّانِيَ عَشَرَ
اَلْمُدَلِّسُ
وَالتَّدْلِيسُ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ ، أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ ، مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ.
وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ اِبْنُ خَشْرَمٍ كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ "قَالَ الزُّهْرِيُّ كَذَا" فَقِيلَ لَهُ أَسَمِعْتَ مِنْهُ هَذَا؟ قَالَ "حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ".
وَقَدْ كَرِهَ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ التَّدْلِيسِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَذَمُّوهُ وَكَانَ شُعْبَةُ أَشَدَّ النَّاسِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ.
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالزَّجْرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ.
وَمِنَ الْحُفَّاظِ مَنْ جَرَّحَ مَنْ عُرِفَ بِهَذَا التَّدْلِيسِ مِنْ الرُّوَاةِ ، فَرَدَّ رِوَايَتَهُ مُطْلَقً ، وَإِنْ أَتَى بِلَفْظِ الِاتِّصَالِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ دَلَّسَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ : وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ ، فَيُقْبَلُ ، وَبَيْنَ مَا أُتِيَ فِيهِ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ ، فَيُرَدُّ.
قَالَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ ، كَالسُّفْيَانَيْنِ وَالْأَعْمَشِ وَقَتَادَةَ وَهُشَيْمٍ وَغَيْرِهِمْ.
(قُلْتُ) وَغَايَةُ التَّدْلِيسِ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْإِرْسَالِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ، وَهُوَ يَخْشَى أَنْ يُصَرِّحَ بِشَيْخِهِ فَيُرَدُّ مِنْ أَجْلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التَّدْلِيسِ فَهُوَ الْإِتْيَانُ بِاسْمِ الشَّيْخِ أَوْ كُنْيَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ بِهِ ، تَعْمِيَةً لِأَمْرِهِ ، وَتَوْعِيرًا لِلْوُقُوفِ عَلَى حَالِهِ ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ ، فَتَارَةً يُكْرَهُ ، كَمَا إِذَا كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ ، أَوْ نَازِلَ الرِّوَايَةِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَتَارَةً يَحْرُمُ ، كَمَا إِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَدَلَّسَهُ لِئَلَّا يُعْرَفَ حَالُهُ ، أَوْ أَوْهَمَ أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الثِّقَاتِ عَلَى وَفْقِ اِسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئُ عَنْ أَبِيهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ فَقَالَ "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ" ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ النَّقَّاشِ الْمُفَسِّرِ فَقَالَ "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَنَدٍ" نَسَبُهُ إِلَى جَدٍّ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو بْنُ الصَّلَاحِ : وَقَدْ كَانَ الْخَطِيبُ لَهَجَ بِهَذَا الْقِسْمِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ.
اَلنَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ
اَلشَّاذُّ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَا رَوَى النَّاسُ ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَ مَا لَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ.
وَقَدْ حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ أَيْضًا.
قَالَ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّاذَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا إِسْنَادٌ وَاحِدٌ ، يَشِذُّ بِهِ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ ، فَيُتَوَقَّفُ فِيمَا شَذَّ بِهِ الثِّقَةُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَيُرَدُّ مَا شَذَّ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ هُوَ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهِ الثِّقَةُ ، وَلَيْسَ لَهُ مُتَابِعٌ قَالَ اِبْنُ الصَّلَاحِ وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا حَدِيثُ (اَلْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَرُ ، وَعَنْهُ عَلْقَمَةُ ، وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ ، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.
(قُلْتُ) ثُمَّ تَوَاتَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ هَذَ ، فَيُقَالُ إِنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَتَيْنِ ، وَقِيلَ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ اِبْنُ مَنْدَهْ مُتَابَعَاتٍ غَرَائِبَ ، وَلَا تَصِحُّ ، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ ، وَفِي الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ.
قَالَ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ".
وَتَفَرَّدَ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ).
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فَقَطْ.
وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ لِلزُّهْرِيِّ تِسْعُونَ حَرْفًا لَا يَرْوِيهَا غَيْرُهُ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُسْلِمٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، مِنْ تَفَرُّدِهِ بِأَشْيَاءَ لَا يَرْوِيهَا غَيْرُهُ يُشَارِكُهُ فِي نَظِيرِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الرُّوَاةِ.
فَإِذَنْ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَوَّلًا هُوَ الصَّوَابُ أَنَّهُ إِذَا رَوَى الثِّقَةُ شَيْئًا قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ النَّاسُ فَهُوَ الشَّاذُّ ، يَعْنِي الْمَرْدُودَ ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ مَا لَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ ، بَلْ هُوَ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا حَافِظًا.
فَإِنَّ هَذَا لَوْ رُدَّ لَرُدَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا النَّمَطِ ، وَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ عَنْ الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِهِ غَيْرَ حَافِظٍ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَدْلٌ ضَابِطٌ فَحَدِيثُهُ حَسَنٌ فَإِنْ فَقَدَ ذَلِكَ فَمَرْدُودٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
اَلنَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ
اَلْمُنْكَرُ
وَهُوَ كَالشَّاذِّ إِنْ خَالَفَ رَاوِيهِ الثِّقَاتِ فَمُنْكَرٌ مَرْدُودٌ ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا ضَابِطً ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ ، فَمُنْكَرٌ مَرْدُودٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ حَافِظٌ قُبِلَ شَرْعً ، وَلَا يُقَالُ لَهُ "مُنْكَرٌ" ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ لُغَةً.
أ