كان موسى الهادي بن الخليفة المهدي متيقّظا غيورا كريما شهما شديد البطش جريء القلب، ذا إقدام وعزم وحزم. حدّث عبد الله بن مالك، (وكان يتولّى شرطة المهديّ)، قال: كان الخليفة المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنّيه وحبسهم صيانة له عنهم، فكنت أفعل ما يأمرني به المهدي. وكان الهادي يرسل إليّ في التخفيف عنهم فلا أفعل. فلما مات المهدي ووليَ الهادي الخلافة أَيْقَنْتُ بالتلف. فاستحضرني يوما فدخلتُ عليه وهو جالس على كرسي، والسيف والنّطع بين يديه. فلما سَلَّمتُ قال: لا سَلَّم الله عليك! أتَذْكُرُ يوم بعثتُ إليك في أمر الحرّاني وضرْبه فلم تقبل قولي؟ وكذلك فعلتَ في فلان وفلان (وعدَّدَ ندماءه) فلم تلتفت إلى قولي. قلت: نعم. أفتأذن في ذكر الحُجَّة؟ قال: نعم. قلت: ناشدتك الله، لو أنك قَلَّدْتني ما قلّدني المهدي، وأمرتني بما أمر، فبعث إليَّ بعضُ بنيك بما يخالف أمرَك، فاتّبعتُ قولَه وتركتُ قولك، أكان يسرُّك ذلك؟ قال: لا. قلت: فكذلك أنا لك، وكذلك كنتُ لأبيك. فاستَدْناني فقبّلتُ يدَه، ثم أمر لي بالخِلَع وقال: ولّيتُك ما كنتَ تتولاه، فامضِ راشدا. فمضيتُ مفكّرا في أمري وأمره، وقلت في نفسي: شابٌّ يشرب، والقوم الذين عصيتُه في أمرهم هم ندماؤه ووزراؤه وكُتّابه. وكأني بهم حين يغلب الشرابُ عليه يغلبون على رأيه، ويحسّنون له هلاكي. فإني لجالس وعندي بُنَيَّةٌ لي، والكانون بين يديّ، وقُدَّامي رُقاق أسخِّنه بالنار وآكل وأُطعم الصغيرة، وإذا بوقع حوافر الخيل. فظننتُ أن الدنيا قد زُلزِلت. فقلت: هذا ما كنت أخافه. وإذا الباب قد فُتح، وإذا الخدم قد دخلوا والهادي في وسطهم على دابّته. فلما رأيتُه وثبتُ فقبّلتُ يده ورجله وحافرَ فرسه. فقال لي: يا عبد الله، إني فكّرت في أمرك فقلت: ربما خطر بذهنك أني إذا شربتُ وحولي أعداؤك، أزالوا حسنَ رأيي فيك، فيُقْلِقُكَ ذلك. فصرت إلى منزلك لأؤنسك وأُعْلمك أن ما كان عندي من الحقد عليك قد زال جميعه. فهات وأطعِمني مما كنتَ تأكل، لتعلم أني قد تَحَرَّمْتُ بطعامك، فيزول خوفُك. فأدنيتُ إليه من الرّقاق فأكل. ثم قال: هاتوا ما صحبناه لعبد الله. فدخل أربعمائة بغل محمّلة بالدراهم وغيرها. وقال: هذه لك، فاستعين بها على أمرك. ثم انصرف.
من كتاب "الفَخْرِي" لابن طَباطَبا.
من كتاب "الفَخْرِي" لابن طَباطَبا.