كان لسقوط إمارة "الرها" في أيدي المسلمين دوي شديد لدى الصليبيين الذين أصيبوا بصدمة عنيفة نتيجة سقوط تلك المدينة التي كانت تتمتع بمكانة دينية خاصة في تاريخ المسيحية، بالإضافة إلى أنها كانت أول إمارة صليبية أسسها الصليبيون في الشرق، فجاء سقوطها إيذانًا ببداية انهيار الكيان الصليبي كله، وتداعي الحكم الصليبي بتكوين إمبراطورية صليبية كبرى في الشرق.
ومن ثم فقد تضافرت الجهود في (أوروبا) من أجل مساندة الوجود الصليبي في الشرق، ودعمه ومساعدته على الصمود والبقاء وعدم الانهيار.
وأسفرت تلك الجهود عن تبني فكرة "الحملة الصليبية الثانية" التي نبتت في بلاط "لويس السابع" ملك فرنسا سنة [540 = 1145م] ـ والذي كان معروفًا بتعصبه الشديد للمسيحية، وأقرها مجمع "فزلاي" (Vezely) في [ شوال 540 هـ= مارس 1146م]، ثم استجاب لها الإمبراطور "كونراد الثالث"، إمبراطور ألمانيا في [ رجب 541 هـ= ديسمبر 1146م].
وقد تألفت تلك الحملة من جيشين كبيرين على رأس أحدهما "لويس السابع" ملك "فرنسا"، ويقود الآخر "كونراد الثالث" إمبراطور "ألمانيا"، وقد عرض عليهما "روجر الثاني" ملك "صقلية" أن يقدم لهما المساعدة للوصول إلى الشرق عن طريق البحر، ولكنهما رفضا هذا العرض بسبب العداء بين "النورمان" في "صقلية" من ناحية، و"فرنسا" و"ألمانيا" من جهة أخرى؛ ولذلك فقد تقرر أن تسير الحملة برا إلى بلاد الشام، وتم الاتفاق على أن يسبق "كونراد" وجيشه إلى الشرق، ثم يلحق بهم "لويس" والفرنسيون إلى "القسطنطينية حتى لا يؤدي مسير الجيشين معًا إلى صعوبة في التموين.
ووصل جيش الصليبيين بقيادة "كونراد الثالث" إلى حدود "الدولة البيزنطية" في صيف [542هـ=1147م]، فأعلن الإمبراطور البيزنطي، مانويل كومنين عن استعداده للسماح للصليبيين بالمرور من أراضيه، وإمدادهم بالمؤن؛ بشرط أن يتعهدوا بالولاء له، وتسليمه كل ما يستولون عليه من البلاد في آسيا، وهو ما لم يقبله القائد الصليبي، وساءت العلاقات بين الصليبيين والبيزنطيين، فأسرع الإمبراطور البيزنطي إلى عقد الصلح مع السلطان "مسعود" سلطان السلاجقة.
هزيمة "كونراد الثالث" أمام السلاجقة
وعبّر كونراد الثالث خليج البوسفور إلى آسيا الصغرى على رأس قواته، وزحف بهم نحو الشرق، وبدلاً من أن يسلك طريق الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى محتميا بالقلاع والمدن البيزنطية المنتشرة على الشاطئ، اختار "كونراد" أن يخترق أراضي السلاجقة.
وما لبث أن حدث نزاع بين الألمان ودليلهم البيزنطي، فتخلّى عنهم الدليل وتركهم في الطريق معرضين لأشد الأخطار؛ إذ سرعان ما أحس بهم السلاجقة، فانقضّوا عليهم وقتلوا عددًا كبيرًا منهم، وأسروا آخرين، وهو ما اضطر كونراد إلى التراجع بمن بقي من فلول جيشه المُمزَّق، حتى وصل إلى "نيقية" بعد أن كبده السلاجقة خسائر فادحة.
لويس السابع يقود الحملة
وفي تلك الأثناء كان "لويس السابع" ـ ملك فرنسا ـ قد وصل إلى أسوار "القسطنطينية" حينما بلغه نبأ الصلح الذي عقده الإمبراطور البيزنطي مع سلطان السلاجقة، وعرض عليه "مانويل" إمداده بالتموين اللازم للحملة على أن يقسم له جميع الفرنسيين المشتركين في الحملة يمين الولاء والتبعية عما يفتحونه من أراض آسيوية، فأذعن "لويس" مضطرًا.
وسار لويس بجنوده حتى وصل نيقية؛ حيث فوجئ بفلول كونراد الثالث، واختار لويس أن يسلك الطريق الجنوبي المحاذي لساحل البحر المتوسط، ليجنِّب جنوده المصير الذي تعرّض له الجنود الألمان.
وسار معه "كونراد" وجنوده، إلا أنه أحس بحرج موقفه بعد أن فقد معظم جيشه أمام السلاجقة، فآثر العودة مع جنوده إلى القسطنطينية، وما لبث أن اتجه وجنوده إلى فلسطين على بعض السفن البيزنطية.
واستمر "لويس" في تقدمه حتى وصل إلى "أنطاليا" ـ إحدى المدن البيزنطية الحصينة على الشاطئ الجنوبي لآسيا الصغرى ـ وأراد لويس العبور إلى الشام بحرًا؛ تجنبًا للتعرض لحظر السلاجقة إذا ما سلك طريق البر، ولكن البيزنطيين امتنعوا عن تقديم السفن اللازمة لهم، وهو ما اضطر "لويس السابع" إلى نقل جنوده على دفعات إلى (الشام) بالسفن القليلة المتاحة.
وصل "لويس السابع" إلى"إنطاكية" حيث استُقبل استقبالاً عظيمًا من الأمراء الصليبيين في "الشام"، وبالرغم من ذلك بدأت بوادر الشقاق تلوح بين هؤلاء الأمراء، حتى فقدت تلك الحملة الهدف الأساسي الذي جاءت من أجله، وسعى كل واحد منهم إلى توجيه الحملة لخدمة مصالحه الخاصة وأهوائه الشخصية.
أراد "ريموند دي بواتيه" أمير "إنطاقية" وعم الملكة (إليانور) زوجة لويس السابع ـ أن تتوجه الحملة للقضاء على قوة نور الدين في حلب، بينما أراد "ريموند" أمير "طرابلس" استرداد قلعة "بعرين" من المسلمين. أما جوسلين الثاني" أمير "الرها" فقد أراد استرداد إمارته التي استولى عليها "نور الدين"، لاعتقاده أن سقوط "الرها" إنما كان هو المحرك الأول لتلك الحملة. وأراد لويس ورجاله الاتجاه إلى بيت المقدس، وقد برر ذلك بأنه إنما قبل أن يحمل الصليب، ويأتي إلى الأراضي المقدسة للحج وزيارة بيت المقدس والدفاع عن تلك المدينة لا لغزو حلب!!.
الصليبيون على أبواب دمشق
وعندما وصل "لويس السابع" إلى "بيت المقدس" استقبل استقبالا حافلاً، وتم عقد مجلس صليبي كبير، ضم "لويس السابع" و"كونراد الثالث" ـ الذي سبقه إلى "بيت المقدس" ـ والملك "بلدوين الثالث"، وأمراء مملكة "بيت المقدس"، وعددا كبيرا من كبار رجال الدين والأمراء الصليبيين.
وقد أسفر هذا الاجتماع عن قرار بعيد كل البعد عن الغرض الذي خرجت من أجله الحملة الصليبية الثانية، فقد اتفق الجميع على مهاجمة "معين الدين أُنر" حاكم "دمشق" الفعلي، والحليف الوحيد للصليبيين بين أمراء المسلمين بالشام.
وتجمعت الجيوش الصليبية لمهاجمة "دمشق"، وسرعان ما زحف الصليبيون إلى دمشق [ ربيع الأول 542 هـ= يونيو 1148 م] فحاصروها، وبدءوا يهاجمون من الجهة الغربية، ولكن المسلمين تصدوا لهم محتمين بالأشجار الكثيفة في هذا الجانب، فسحب الصليبيون جيوشهم إلى الجهة الشرقية الخالية من الأشجار، ولكن ذلك جعلهم بعيدين عن مياه الشرب مما عرضهم لمتاعب كثيرة، خاصة وأن الوقت كان صيفًا والحرارة قاسية.
وتصدى لهم أهل "دمشق" وصبروا لهم، واشترك معهم الزهاد والفقهاء في القتال، وكان فيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن دي ناس الفندلاوي المغربي، وكان شيخًا كبيرًا، فقيها عالمًا، فلما رآه "معين الدين" وهو راجل، قصده وسلم عليه، وقال له: يا شيخ، أنت معذور لكبر سنك، ونحن نقوم بالذب عن المسلمين، وسأله أن يعود، فلم يفعل، وقال له: "قد بعت واشتُرى مني".
وبدأت قوات "معين الدين أنر" تتزايد وتدفقت النجدات إلى "دمشق" من الأبواب الشمالية، وهو ما جعل الصليبيين يتحولون من الهجوم إلى الدفاع.
وازداد موقف الصليبيين سوءًا بعد أن بدأ الشقاق يدب بينهم حول تبعية "دمشق" ومصيرها، وأحقية كل فريق منهم في ضمها إليه في حالة سقوطها والاستيلاء عليها.
فشل الحملة وانسحاب الصليبيين
وفي ذلك الوقت علم "أُنر" بخروج الأميرين الزنكيين "سيف الدين غازي" أتابك "الموصل" و"نور الدين محمود" أتابك "حلب" لنجدته، فأرسل إلى الصليبيين يهددهم وينذرهم بالخطر الذي سيحيق بهم إذا لم يتركوا "دمشق"، ويعرض عليهم ـ في الوقت نفسه ـ إعطاءهم حصن "بانياس" مقابل الجلاء عن "دمشق".
ولم يكن أمام الصليبيين خيار أمام هذا العرض المغري الذي يضمن لهم السلامة بعد أن أحاط بهم الهلاك والردى في كل مكان.
ورجع الصليبيون ـ بعد أربعة أيام من حصار "دمشق" يجرون أذيال الهزيمة والفشل، بعد أن عجزوا عن تحقيق أي هدف من وراء تلك الحملة التي حشدت لها أوروبا رجالها وإمكاناتها، فلم تجنِ من ورائها إلا المزيد من الهزائم والمزيد من القتلى والدماء، وضاعت هيبة الصليبيين في "الشام"، وانحطت مكانتهم وضعف سلطانهم.
وكان فشل هذه الحملة هو نقطة التحول نحو انهزام الصليبيين وزوال وجودهم من العالم الإسلامي، وأصبح المسلمون على قدر كبير من الثقة بأنفسهم خاصة بعد الانتصارات التي حققها "عماد الدين زنكي"، ومن بعده "نور الدين" على الصليبيين، وارتفاع راية الجهاد ضد الصليبيين، مما أوجد نوعًا من الوحدة والتآزر بين المسلمين، وجمعهم لواء الدين ورابطة الإسلام التي تتضاءل أمامها كل العصبيات والقوميات.
_____________________
منقووووووووووول