التعريف بالإمام:
هو الإمام العلم العلامة، المجتهد المطلق، شيخ الإسلام، وإمام المفسرين ورائد مدرسة التفسير بالأثر، وكبير مؤرخي الأمة الإسلامية، وأكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا، صاحب التصانيف البديعة؛ أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، ولد سنة 224هـ بمدينة آمل عاصمة إقليم طبرستان، وقد نذره أبوه لطلب العلم، فلما ترعرع وأتم حفظ القرآن وكان حسن الصوت به جدًا، سمح له أبوه بالسفر لطلب العلم، فطاف البلاد ودخل الشام ومصر وأكثر الترحال من مكان لآخر، ولقي نبلاء الرجال وكبار العلماء، حتى صار من أفراد الدهر علمًا وذكاءً وتصنيفًا، بل صار مثل البحر الزاخر بالعلوم المختلفة.
حياته العلمية
بدأ الطبري طلب العلم بعد سنة 240هـ وأكثر الترحال ولقي نبلاء الرجال، قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد ثم ارتحل منها إلى المدينة المنورة ثم إلى مصر والري وخراسان، واستقر في أواخر أمره ببغداد.
سمع الطبري من العديدين من مشايخ عصره وله رحلات إلى العديد من عواصم العالم الإسلامي التي ازدهرت بعلمائها وعلومها ومنها مصر.
مكانته العلمية:
يعتبر ابن جرير الطبري من كبار أئمة الإسلام وعلم من أعلام الدين، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من معاصريه، فقد كان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، بصيرًا بأيام الناس وأخبارهم.
قال عنه الذهبي: كان ثقة، صادقًا، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علاّمة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة.
وقال عنه الإسفراييني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصّل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرًا.
وقال عنه قرينه ورفيقه ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.
وقال لأحد طلبة العلم الذين لم يكتبوا عن ابن جرير بسبب المحنة التي تعرض لها قال له: ليتك لم تكتب عن كل من كتب عنهم وكتبت عن محمد بن جرير.
مصنفاته:
يحتل الإمام ابن جرير الطبري المكانة الأولى في سلم التصنيف لعلماء الأمة، فهو أكثر علماء الإسلام تصنيفًا، ويعتبر رائد علمي التفسير والتاريخ في الإسلام، وعلى منواله نسج من جاء بعده، ولابن جرير مصنفات كثيرة زاخرة بالفوائد الجمة، أشهرها على الإطلاق كتاب «التفسير» الذي لم يصنف مثله(و اسم الكتاب هو جامع البيان عن تأويل آي القرءان)، والذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل. والذي قال عنه أهل العلم: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصّله لم يكن كثيرًا. وله كتاب «الملوك والرسل»أو (تاريخ الرسل و الملوك)أو تاريخ الأمم و الملوك)و الاسم الأخير هو الأشهر لتاريخه 00 من أنفس كتب التاريخ، والذي افتتح به مدرسة المؤرخين المسلمين وظل كل مؤرخي الإسلام يسيرون على نهجه في التأريخ، وله كتب أخرى مثل «لطيف القول»، و«تاريخ الرجال»، و«اختلاف علماء الأمصار»، و«القراءات والتنزيل والعدد»، وله كتاب «تهذيب الآثار» وهو من عجائب كتبه، ولكنه مات قبل تمامه، وله كتاب «المحاضر والسجلات»، و«ترتيب العلماء»، و«الفضائل»، و«الخفيف في الأحكام».
ولابن جرير كتب هامة ونفيسة في باب العقائد مثل كتاب «التبصير» وهو رسالة منه إلى أهل طبرستان يشرح فيها ما تقلده من أصول الدين على عقيدة السلف الصالح خاصة في باب الصفات، وتفسيره المشهور مشحون في آيات الصفات بأقوال السلف على الإثبات لها، لا على النفي والتأويل.
أهم صفاته:
لابن جرير الإمام صفات وخصال عظيمة وكثيرة، فلقد كان على طراز علماء الأمة الكبار وعلى نهج حياتهم، ولكنه كان يتميز بعدة أمور لم يشاركه فيها إلا قلائل من أفذاذ العلماء منها:
1ـ زهده: لقد كان ابن جرير شديد الزهد والورع، يرفض بشكل تام وفي كل موطن أن يتكسب بعلمه ويسترزق بما فتح الله عليه من العلوم والفضائل، وظل طول حياته يتقوت بما يرسله له أبوه من قريته بطبرستان، حتى إنه لما تأخرت عليه النفقة ذات مرة، باع بعض ملابسه، وعرض عليه الوزير الخاقاني أموالاً كثيرة ولكنه رفض أخذها بشدة، ورضي أن يعمل بالأجرة في تأديب الصبيان، وذات مرة أراد المكتفي الخليفة أن يحبس وقفًا تجتمع عليه أقاويل العلماء، فأحضر له ابن جرير، فأملى عليهم كتابًا لذلك، فأخرجت له جائزة كبيرة فامتنع من قبولها، فقيل له: تصدق بها، فلم يفعل وقال لهم: أنتم أولى بأموالكم وأعرف بمن تتصدقون عليه.
ولقد عرض عليه منصب القضاء وولاية المظالم عدة مرات ولكنه رفض بشدة على الرغم من كثرة الضغوط حتى من جانب تلاميذه ورفقائه.
2ـ همته: كما قلنا من قبل يعتبر ابن جرير أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا، والسر وراء ذلك همته العالية التي تفوق قمم الجبال الشامخات، حتى إنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، وكان يستخير الله عز وجل قبل أن يشرع في تأليف أي مصنف، ولم يكن في زمانه ولا بعده ـ على ما أظن ـ من له مثل همته العالية في التحصيل والتأليف، حتى إنه قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوًا من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.
3ـ شدته في الحق: حيث كان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد، شديد التمسك بالسنة وأصولها حتى إنه أفتى بقتل من سب الشيخين وقال عنهما إنهما ليسا بإمامي هدى.
محنته:
كان ابن جرير الطبري من أكبر علماء الوقت، محبوبًا من الجميع، مجمعًا على إمامته بين الناس، من رجالات الكمال، وكلها صفات حميدة وعظيمة تحتاج إليها الأمة، ولكنها عادة ما تجلب لصاحبها الكثير من المتاعب مع الأقران والمتنافسين، والذين تسلل الغيرة إلى قلوبهم تجاه أمثال هؤلاء الأعلام المحبوبين، وهذا هو عين ما وقع للإمام ابن جرير الطبري.
كان المذهب الحنبلي هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، وأقبلوا على تعلم العلم وفقًا للمذهب الحنبلي، حتى أصبح الحنابلة أغلبية بأرض العراق، وكان رأس الحنابلة بالعراق الإمام أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السنن، وكانت بينه وبين الإمام ابن جرير الطبري مشاحنات وخلافات، وكلاهما لا ينصف الآخر، ووقع بينهما ما يقع بين الأقران في كل عصر ومكان، ولو وقف الخلاف بين الرجلين عند هذا الحد لكان الأمر هينًا يسيرًا، لتوافر أمثال هذه الخلافات في كل عصر، ولكن هذا الخلاف قد أخذ منحنى جديدًا حتى تحول إلى محنة كبيرة للإمام ابن جرير الطبري.
ذلك أن الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود قد دفعهم التعصب المذهبي المقيت لأن يشنعوا على ابن جرير ويشيعوا عليه الأكاذيب والأباطيل الذي هو منها براء، بل هو من أبعد الناس عما اتهموه به؛ ذلك أن الحنابلة قد أشاعوا على الإمام الطبري أنه من الروافض، ورموه بالتشيع والإمامية، وشعبوا عليه بشدة، وصدقهم كثير ممن لا عقول لهم إلا في آذانهم، وكان سبب هذا الرواج وانتشار هذه الشناعات عدة أمور منها:
1ـ جمع ابن طرير الطبري لطرق حديث «غدير خم» وذلك في أربعة أجزاء باهرة تدل على سعة علمه ومروياته، وهو الحديث الشهير ((من كنت مولاه، فعلي مولاه...)) وهو الحديث العمدة عند جميع طوائف الشيعة والذين يستدلون به على أحقية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شك فيه، ولكن لا دلالة فيه على أحقية علي ـ رضي الله عنه ـ في الخلافة، وتأويله يختلف بالكلية عما ذهب إليه الروافض الجهلة، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث؛ هو قيام أبي بكر بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، ومن باب الأمانة العلمية وليس من باب الميل للتشيع أو التأثر به قام الإمام الطبري بجمع طرق الحديث، وقد أقر أبو بكر بن أبي داود بعد ذلك بصحة حديث الغدير.
2ـ الأمر الثاني والذي كان سببًا لتصديق كثير من البسطاء والعامة لفرية تشيع الطبري، يرجع إلى وجود عالم من علماء الشيعة الإمامية يحمل نفس الاسم ونفس الكنية وهو أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، وكان من كبار الروافض، وقد صنف كتبًا كثيرة في ضلالات التشيع مثل كتاب «المسترشد في الإمامة» و«الرواة عن أهل البيت»، وقد أدى هذا التشابه العجيب لخلط الناس بين الرجلين، وشتان ما بينهما، ولقد أحسن الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ صنعًا عندما أورد ترجمة الطبري الرافضي مباشرة خلف ترجمة جبل السنة ابن جرير الطبري، حتى لا يختلط الأمر على الناس، وللتمييز بين الرجلين.
3ـ الأمر الثالث هو قيام الإمام ابن جرير الطبري بتأليف كتاب ضخم في اختلاف العلماء، ولم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل على أساس أنه من كبار المحدثين، فظن الحنابلة أن الطبري قد تعمد ذلك للتقليل من شأن فقه الحنابلة، فشعبوا عليه، وأطلقوا بحقه العظائم والفظائع، ولعل ذلك هو السبب الرئيس في محنة الطبري واضطهاد الحنابلة له.
هذه الأمور وغيرها جعلت فصول المحنة تستحكم، وتضيق حلقاتها على الإمام الطبري؛ فبعد هجمة شرسة من الشناعات والأباطيل والأكاذيب بحق هذا العالم الجليل قام الحنابلة بالتشويش على الطبري في مجالسه، وتنفير الطلبة من مجالسه، ومع ذلك ظل الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته.
نقل الطبري دروسه إلى بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلو والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إن كل طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يرووا عنه شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن علي دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطبري، وعندما علم أستاذه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه «حسنيك»: (ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلت الحنابلة بحقه).
ظل الطبري حبيسًا في بيته يعاني من الاضطهاد الشديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصته، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين وأنهكته السنون، ورحلات طلب العلم في شتى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردهم شيء، لا مكانة علمية ولا كبر سن، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة محاصرين لبيت الطبري حتى حان وقت الرحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظل الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة.
وبلغت المحنة أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصلاة عليه حتى إن الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا.
رحل الطبري عن دنيانا الفانية محاصرًا مظلومًا مضطهدًا من الجهلة والمتعصبين، وراح ضحية محنة مقيتة، وإن كان خصومه قد نالوا من دنياه، فإنه ولا شك قد نال من آخرتهم، وقد رفع الله عز وجل ذكره بين الناس وقام له سوق الثناء والفضل والدعاء ولم ينفض، في حين باء الجهلة والمتعصبون بالخسران والنكران في الدنيا والآخرة.
هو الإمام العلم العلامة، المجتهد المطلق، شيخ الإسلام، وإمام المفسرين ورائد مدرسة التفسير بالأثر، وكبير مؤرخي الأمة الإسلامية، وأكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا، صاحب التصانيف البديعة؛ أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، ولد سنة 224هـ بمدينة آمل عاصمة إقليم طبرستان، وقد نذره أبوه لطلب العلم، فلما ترعرع وأتم حفظ القرآن وكان حسن الصوت به جدًا، سمح له أبوه بالسفر لطلب العلم، فطاف البلاد ودخل الشام ومصر وأكثر الترحال من مكان لآخر، ولقي نبلاء الرجال وكبار العلماء، حتى صار من أفراد الدهر علمًا وذكاءً وتصنيفًا، بل صار مثل البحر الزاخر بالعلوم المختلفة.
حياته العلمية
بدأ الطبري طلب العلم بعد سنة 240هـ وأكثر الترحال ولقي نبلاء الرجال، قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد ثم ارتحل منها إلى المدينة المنورة ثم إلى مصر والري وخراسان، واستقر في أواخر أمره ببغداد.
سمع الطبري من العديدين من مشايخ عصره وله رحلات إلى العديد من عواصم العالم الإسلامي التي ازدهرت بعلمائها وعلومها ومنها مصر.
مكانته العلمية:
يعتبر ابن جرير الطبري من كبار أئمة الإسلام وعلم من أعلام الدين، يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من معاصريه، فقد كان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، بصيرًا بأيام الناس وأخبارهم.
قال عنه الذهبي: كان ثقة، صادقًا، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علاّمة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات وباللغة.
وقال عنه الإسفراييني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصّل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرًا.
وقال عنه قرينه ورفيقه ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.
وقال لأحد طلبة العلم الذين لم يكتبوا عن ابن جرير بسبب المحنة التي تعرض لها قال له: ليتك لم تكتب عن كل من كتب عنهم وكتبت عن محمد بن جرير.
مصنفاته:
يحتل الإمام ابن جرير الطبري المكانة الأولى في سلم التصنيف لعلماء الأمة، فهو أكثر علماء الإسلام تصنيفًا، ويعتبر رائد علمي التفسير والتاريخ في الإسلام، وعلى منواله نسج من جاء بعده، ولابن جرير مصنفات كثيرة زاخرة بالفوائد الجمة، أشهرها على الإطلاق كتاب «التفسير» الذي لم يصنف مثله(و اسم الكتاب هو جامع البيان عن تأويل آي القرءان)، والذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل. والذي قال عنه أهل العلم: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصّله لم يكن كثيرًا. وله كتاب «الملوك والرسل»أو (تاريخ الرسل و الملوك)أو تاريخ الأمم و الملوك)و الاسم الأخير هو الأشهر لتاريخه 00 من أنفس كتب التاريخ، والذي افتتح به مدرسة المؤرخين المسلمين وظل كل مؤرخي الإسلام يسيرون على نهجه في التأريخ، وله كتب أخرى مثل «لطيف القول»، و«تاريخ الرجال»، و«اختلاف علماء الأمصار»، و«القراءات والتنزيل والعدد»، وله كتاب «تهذيب الآثار» وهو من عجائب كتبه، ولكنه مات قبل تمامه، وله كتاب «المحاضر والسجلات»، و«ترتيب العلماء»، و«الفضائل»، و«الخفيف في الأحكام».
ولابن جرير كتب هامة ونفيسة في باب العقائد مثل كتاب «التبصير» وهو رسالة منه إلى أهل طبرستان يشرح فيها ما تقلده من أصول الدين على عقيدة السلف الصالح خاصة في باب الصفات، وتفسيره المشهور مشحون في آيات الصفات بأقوال السلف على الإثبات لها، لا على النفي والتأويل.
أهم صفاته:
لابن جرير الإمام صفات وخصال عظيمة وكثيرة، فلقد كان على طراز علماء الأمة الكبار وعلى نهج حياتهم، ولكنه كان يتميز بعدة أمور لم يشاركه فيها إلا قلائل من أفذاذ العلماء منها:
1ـ زهده: لقد كان ابن جرير شديد الزهد والورع، يرفض بشكل تام وفي كل موطن أن يتكسب بعلمه ويسترزق بما فتح الله عليه من العلوم والفضائل، وظل طول حياته يتقوت بما يرسله له أبوه من قريته بطبرستان، حتى إنه لما تأخرت عليه النفقة ذات مرة، باع بعض ملابسه، وعرض عليه الوزير الخاقاني أموالاً كثيرة ولكنه رفض أخذها بشدة، ورضي أن يعمل بالأجرة في تأديب الصبيان، وذات مرة أراد المكتفي الخليفة أن يحبس وقفًا تجتمع عليه أقاويل العلماء، فأحضر له ابن جرير، فأملى عليهم كتابًا لذلك، فأخرجت له جائزة كبيرة فامتنع من قبولها، فقيل له: تصدق بها، فلم يفعل وقال لهم: أنتم أولى بأموالكم وأعرف بمن تتصدقون عليه.
ولقد عرض عليه منصب القضاء وولاية المظالم عدة مرات ولكنه رفض بشدة على الرغم من كثرة الضغوط حتى من جانب تلاميذه ورفقائه.
2ـ همته: كما قلنا من قبل يعتبر ابن جرير أكثر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا، والسر وراء ذلك همته العالية التي تفوق قمم الجبال الشامخات، حتى إنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، وكان يستخير الله عز وجل قبل أن يشرع في تأليف أي مصنف، ولم يكن في زمانه ولا بعده ـ على ما أظن ـ من له مثل همته العالية في التحصيل والتأليف، حتى إنه قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ قال: نحو ثلاثين ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوًا من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.
3ـ شدته في الحق: حيث كان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد، شديد التمسك بالسنة وأصولها حتى إنه أفتى بقتل من سب الشيخين وقال عنهما إنهما ليسا بإمامي هدى.
محنته:
كان ابن جرير الطبري من أكبر علماء الوقت، محبوبًا من الجميع، مجمعًا على إمامته بين الناس، من رجالات الكمال، وكلها صفات حميدة وعظيمة تحتاج إليها الأمة، ولكنها عادة ما تجلب لصاحبها الكثير من المتاعب مع الأقران والمتنافسين، والذين تسلل الغيرة إلى قلوبهم تجاه أمثال هؤلاء الأعلام المحبوبين، وهذا هو عين ما وقع للإمام ابن جرير الطبري.
كان المذهب الحنبلي هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، وأقبلوا على تعلم العلم وفقًا للمذهب الحنبلي، حتى أصبح الحنابلة أغلبية بأرض العراق، وكان رأس الحنابلة بالعراق الإمام أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السنن، وكانت بينه وبين الإمام ابن جرير الطبري مشاحنات وخلافات، وكلاهما لا ينصف الآخر، ووقع بينهما ما يقع بين الأقران في كل عصر ومكان، ولو وقف الخلاف بين الرجلين عند هذا الحد لكان الأمر هينًا يسيرًا، لتوافر أمثال هذه الخلافات في كل عصر، ولكن هذا الخلاف قد أخذ منحنى جديدًا حتى تحول إلى محنة كبيرة للإمام ابن جرير الطبري.
ذلك أن الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود قد دفعهم التعصب المذهبي المقيت لأن يشنعوا على ابن جرير ويشيعوا عليه الأكاذيب والأباطيل الذي هو منها براء، بل هو من أبعد الناس عما اتهموه به؛ ذلك أن الحنابلة قد أشاعوا على الإمام الطبري أنه من الروافض، ورموه بالتشيع والإمامية، وشعبوا عليه بشدة، وصدقهم كثير ممن لا عقول لهم إلا في آذانهم، وكان سبب هذا الرواج وانتشار هذه الشناعات عدة أمور منها:
1ـ جمع ابن طرير الطبري لطرق حديث «غدير خم» وذلك في أربعة أجزاء باهرة تدل على سعة علمه ومروياته، وهو الحديث الشهير ((من كنت مولاه، فعلي مولاه...)) وهو الحديث العمدة عند جميع طوائف الشيعة والذين يستدلون به على أحقية علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شك فيه، ولكن لا دلالة فيه على أحقية علي ـ رضي الله عنه ـ في الخلافة، وتأويله يختلف بالكلية عما ذهب إليه الروافض الجهلة، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث؛ هو قيام أبي بكر بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، ومن باب الأمانة العلمية وليس من باب الميل للتشيع أو التأثر به قام الإمام الطبري بجمع طرق الحديث، وقد أقر أبو بكر بن أبي داود بعد ذلك بصحة حديث الغدير.
2ـ الأمر الثاني والذي كان سببًا لتصديق كثير من البسطاء والعامة لفرية تشيع الطبري، يرجع إلى وجود عالم من علماء الشيعة الإمامية يحمل نفس الاسم ونفس الكنية وهو أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، وكان من كبار الروافض، وقد صنف كتبًا كثيرة في ضلالات التشيع مثل كتاب «المسترشد في الإمامة» و«الرواة عن أهل البيت»، وقد أدى هذا التشابه العجيب لخلط الناس بين الرجلين، وشتان ما بينهما، ولقد أحسن الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ صنعًا عندما أورد ترجمة الطبري الرافضي مباشرة خلف ترجمة جبل السنة ابن جرير الطبري، حتى لا يختلط الأمر على الناس، وللتمييز بين الرجلين.
3ـ الأمر الثالث هو قيام الإمام ابن جرير الطبري بتأليف كتاب ضخم في اختلاف العلماء، ولم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل على أساس أنه من كبار المحدثين، فظن الحنابلة أن الطبري قد تعمد ذلك للتقليل من شأن فقه الحنابلة، فشعبوا عليه، وأطلقوا بحقه العظائم والفظائع، ولعل ذلك هو السبب الرئيس في محنة الطبري واضطهاد الحنابلة له.
هذه الأمور وغيرها جعلت فصول المحنة تستحكم، وتضيق حلقاتها على الإمام الطبري؛ فبعد هجمة شرسة من الشناعات والأباطيل والأكاذيب بحق هذا العالم الجليل قام الحنابلة بالتشويش على الطبري في مجالسه، وتنفير الطلبة من مجالسه، ومع ذلك ظل الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته.
نقل الطبري دروسه إلى بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلو والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إن كل طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يرووا عنه شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن علي دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطبري، وعندما علم أستاذه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه «حسنيك»: (ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلت الحنابلة بحقه).
ظل الطبري حبيسًا في بيته يعاني من الاضطهاد الشديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصته، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين وأنهكته السنون، ورحلات طلب العلم في شتى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردهم شيء، لا مكانة علمية ولا كبر سن، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة محاصرين لبيت الطبري حتى حان وقت الرحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظل الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة.
وبلغت المحنة أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصلاة عليه حتى إن الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا.
رحل الطبري عن دنيانا الفانية محاصرًا مظلومًا مضطهدًا من الجهلة والمتعصبين، وراح ضحية محنة مقيتة، وإن كان خصومه قد نالوا من دنياه، فإنه ولا شك قد نال من آخرتهم، وقد رفع الله عز وجل ذكره بين الناس وقام له سوق الثناء والفضل والدعاء ولم ينفض، في حين باء الجهلة والمتعصبون بالخسران والنكران في الدنيا والآخرة.
عدل سابقا من قبل أحمد في الأربعاء مايو 13, 2009 12:17 pm عدل 1 مرات