عرف بشر بن الحارث في بادئ حياته باللهو واللعب والانشغال عن العبادات والطاعات وقضائه معظم وقته مع أقرانه، لا يردعهم رادع ولا يقفون عند وازع، وكأنما صُرف عنهم الهدى فليس له إليهم سبيل، ولكن إذا أراد الله صارت ذرات الهواء له جنودا. وها هنا حكاية بشر فتى التصوف من ملأ سمع الدنيا برقته وشفافيته ومعرفته الطريق، لقد كان التحول الذي أصاب بشراً انتفاضة حقيقية أصابت مكامن وعيه فغيرت رؤيته إلى واقع حاله، وانقلب على كل ما شأنه أن يكشف عوار معصيته.
وكشفت له هذه الرؤية أن ما يجب أن يقوم به من أعمال صالحة ما هي إلا تجريد لمعرفة أكبر حريٌّ به أن يفقه معناها، ويعي كنهها ومحتواها، وحتى يكون العمل مكتملا تاما يستحق به رضا الله وجنانه، والمعرفة الكبرى التي يجب أن تدرك هي معرفة الطريق القويم والمنهج السديد الذي يجب أن يقارب كل الأعمال ويحاكمها للغاية الربانية فيتخير أعلى مدارجها فيسير فيها فيصل إلى التحقق. هذه الطريقة التي اختارها عن وعي وفكر وإدراك لا تتأتى إلا من أمثال بشر الذين نوّر بصائرهم بنور الإيمان والوعي، ولنبدأ الحكاية من أول مشهد التوبة والتحول.
حر أم عبد؟
يروى في هذا أن بشرا كان يلهو مع بعض أقرانه في بيته، فدق رجل باب بيته فخرجت جاريته فقال: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: حر، قال: صدقت لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو، ثم ولّى الرجل فدخلت الجارية فأخبرت بشراً فكأن الكلم وقع في نفسه وأخذ بمجامع قلبه وفكره، غير أنه أراد التحقق فلحق بالرجل حافي القدمين ومن هنا جاء لقبه الحافي- فلم يزل به حتى أدركه، وسأله عن قوله فأعاد عليه مقالته الأولى، وهنا تصيب بشراً رعشة انتفضت لها أركان نفسه وكأننا نسمع قعقعتها، وكأننا نسمع ترنيمات بكائه وعبراته، تلكم العبرات التي روّت مناجم الخير في نفسه فتفتقت عيون وعيه، ولتظل صفتا الرقة والبكاء ملازمتين له حتى كانوا يقولون ظل بشر يبكي حتى ذهبت أشفار عينيه، وكأن هذه الدموع روت وعياً ظل يثمر حتى انصرمت روحه وفاضت إلى بارئها.
صحيح أن بشراً خط لنفسه بهذا منهج تصوف عُرف به، ولكنه تصوف موغل في العقل والفهم والتجرد، تصوف يتصل بصدق الباطن لا بملابسات الظاهر، تصوف تكتمل به ملامح صفات الرجولة والصلاح والتقوى والورع والزهد، ليس تصوف فقدان العقل، وإهمال النفس وقطع وشائجها مع كل ما حولها، بل هو كما قال لسان حال بشر، ولسان مقال الإمام أبي حامد الغزالي:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه
ولا بكاؤك إن غنّى المغنّونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدرٍ
وتتبع الحق والقرآن والدينا
الإخلاص وحسن الطوية
ها هنا مع بشر قبالة جبل كما يقول الإمام الدار قطني- نُفخ فيه الوعي فبه علّم ورشّد ونصح، ها هنا مع لمحات وعيه، وعي العمل ووعي القلب ووعي الفكر والتفكر.
أمّا وعي العمل الذي نلمحه فهو تأكيده الدائم على الإخلاص وحسن الطوية التي يجب على الإنسان أن يستبطنها، قال يوماً لأصحابه: “لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس”. لأنه إن فعل فستشوبه- بلا شك- آفة الرياء، والرياء هو الشرك الأصغر فأنى يجد الإنسان بعدها لذة العمل؟ وقال أيضا: أقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة “وقد ترجم هذه المعرفة عملاً حتى قال أحمد بن حنبل من بيت بشر خرج الورع. وكان بشر يوصي صاحبه فيقول: “انظر إلى خبزك من أين هو، ولا تُعرّض لحمك للنار” إنها قمة الوعي الذي يجب أن يستبصره الإنسان في حياته، وضوح لا شية فيه وعمل مؤكد لا تتعارض فيه الرغبة والهوى.
ومن وعي قلبه نرتشف هذه الرشفات، كان يقول: “خصلتان تقسيّان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل، كثرة الكلام تورث كثرة الخطأ فتنكت على قلب الإنسان فيصبح كالكوز المجخّي لا يحل حلالا ولا يحرم حراما، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لمعاذ وقد سأله: أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو قال: “على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟”. لقد وعى قلب بشر أيضا أن الزهد ليس في التقلل من المال وإنما الزهد كما يعيد تعريفه “ أن تجعل الدنيا في يدك لا في قلبك وكان يقول دائما: الزهد ملك لا يسكن إلا قلبا خالياً”.
لذة الطاعة
ومن لمحات وعي التفكر والفكر لديه أنه كان يقول: “لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه” وكان يقول: “هب أنك لا تخاف ألا تشتاق؟” ومن أقواله: “من حُرم المعرفة لا يجد للطاعة حلاوة”، إن العرفان حالة ذهنية شديدة التحسس، وهي لهذا تستشعر لذة الطاعة؛ لأنها تتأتى عن الوعي الموصول بمكامن الحقيقة، لقد عرف عن بشر وفرة عقله حتى كان إبراهيم الحربي يقول:” رأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءاً عقلاً”، وكان أحمد بن حنبل لفضله وعقله يذهب إليه مع أبنائه ليستفيد منه نصيحة وإرشادا وكان يكثر في وعظه من قول: “الصبر هو الصمت، والصمت من الصبر ولا يكون المتكلم أروع من الصامت إلا رجل عالم يتكلم في موضعه ويسكت في موضعه”.
مع بشرٍ يأتيك الوعي تترى من تفاصيل اكتسابه اليومي في حياته الطافحة، مُثُلاً وفكراً وفقهاً كانت توبته انتفاضة لوعيه، ارتقت به فوق الأُلى فضلاً وعلما حتى صار النجم، والسائرون الذين يريدون قربه والوصول أنّى لهم ذلك، إلا مع طاعة عاقلة وطلاق للدنيا وخوف من الفتن وابتعاد عنها وتحر شديد للمطعم والمشرب والمسكن والكلام وسلامة للصدر على المسلمين، وقائمة طويلة لا تحصى من الأعمال الصالحة المتناثرة في حياة بشر، وكلها مسيجة بسياج الوعي والصبر والإدراك والمعرفة والعقل، أرأيت؟ أنّى السبيل إلى إدراكها؟
رحم الله العارف بالله بشر بن الحارث فقد عبد الله عن عقل فطين، فطيب الله اسمه في الدنيا وأعلى في الآخرة درجته.
إبراهيم العوضي
منقول من جريدة الخليج
الإمارات
وكشفت له هذه الرؤية أن ما يجب أن يقوم به من أعمال صالحة ما هي إلا تجريد لمعرفة أكبر حريٌّ به أن يفقه معناها، ويعي كنهها ومحتواها، وحتى يكون العمل مكتملا تاما يستحق به رضا الله وجنانه، والمعرفة الكبرى التي يجب أن تدرك هي معرفة الطريق القويم والمنهج السديد الذي يجب أن يقارب كل الأعمال ويحاكمها للغاية الربانية فيتخير أعلى مدارجها فيسير فيها فيصل إلى التحقق. هذه الطريقة التي اختارها عن وعي وفكر وإدراك لا تتأتى إلا من أمثال بشر الذين نوّر بصائرهم بنور الإيمان والوعي، ولنبدأ الحكاية من أول مشهد التوبة والتحول.
حر أم عبد؟
يروى في هذا أن بشرا كان يلهو مع بعض أقرانه في بيته، فدق رجل باب بيته فخرجت جاريته فقال: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: حر، قال: صدقت لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو، ثم ولّى الرجل فدخلت الجارية فأخبرت بشراً فكأن الكلم وقع في نفسه وأخذ بمجامع قلبه وفكره، غير أنه أراد التحقق فلحق بالرجل حافي القدمين ومن هنا جاء لقبه الحافي- فلم يزل به حتى أدركه، وسأله عن قوله فأعاد عليه مقالته الأولى، وهنا تصيب بشراً رعشة انتفضت لها أركان نفسه وكأننا نسمع قعقعتها، وكأننا نسمع ترنيمات بكائه وعبراته، تلكم العبرات التي روّت مناجم الخير في نفسه فتفتقت عيون وعيه، ولتظل صفتا الرقة والبكاء ملازمتين له حتى كانوا يقولون ظل بشر يبكي حتى ذهبت أشفار عينيه، وكأن هذه الدموع روت وعياً ظل يثمر حتى انصرمت روحه وفاضت إلى بارئها.
صحيح أن بشراً خط لنفسه بهذا منهج تصوف عُرف به، ولكنه تصوف موغل في العقل والفهم والتجرد، تصوف يتصل بصدق الباطن لا بملابسات الظاهر، تصوف تكتمل به ملامح صفات الرجولة والصلاح والتقوى والورع والزهد، ليس تصوف فقدان العقل، وإهمال النفس وقطع وشائجها مع كل ما حولها، بل هو كما قال لسان حال بشر، ولسان مقال الإمام أبي حامد الغزالي:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه
ولا بكاؤك إن غنّى المغنّونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدرٍ
وتتبع الحق والقرآن والدينا
الإخلاص وحسن الطوية
ها هنا مع بشر قبالة جبل كما يقول الإمام الدار قطني- نُفخ فيه الوعي فبه علّم ورشّد ونصح، ها هنا مع لمحات وعيه، وعي العمل ووعي القلب ووعي الفكر والتفكر.
أمّا وعي العمل الذي نلمحه فهو تأكيده الدائم على الإخلاص وحسن الطوية التي يجب على الإنسان أن يستبطنها، قال يوماً لأصحابه: “لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس”. لأنه إن فعل فستشوبه- بلا شك- آفة الرياء، والرياء هو الشرك الأصغر فأنى يجد الإنسان بعدها لذة العمل؟ وقال أيضا: أقبح الرغبة أن تطلب الدنيا بعمل الآخرة “وقد ترجم هذه المعرفة عملاً حتى قال أحمد بن حنبل من بيت بشر خرج الورع. وكان بشر يوصي صاحبه فيقول: “انظر إلى خبزك من أين هو، ولا تُعرّض لحمك للنار” إنها قمة الوعي الذي يجب أن يستبصره الإنسان في حياته، وضوح لا شية فيه وعمل مؤكد لا تتعارض فيه الرغبة والهوى.
ومن وعي قلبه نرتشف هذه الرشفات، كان يقول: “خصلتان تقسيّان القلب كثرة الكلام وكثرة الأكل، كثرة الكلام تورث كثرة الخطأ فتنكت على قلب الإنسان فيصبح كالكوز المجخّي لا يحل حلالا ولا يحرم حراما، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لمعاذ وقد سأله: أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو قال: “على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟”. لقد وعى قلب بشر أيضا أن الزهد ليس في التقلل من المال وإنما الزهد كما يعيد تعريفه “ أن تجعل الدنيا في يدك لا في قلبك وكان يقول دائما: الزهد ملك لا يسكن إلا قلبا خالياً”.
لذة الطاعة
ومن لمحات وعي التفكر والفكر لديه أنه كان يقول: “لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه” وكان يقول: “هب أنك لا تخاف ألا تشتاق؟” ومن أقواله: “من حُرم المعرفة لا يجد للطاعة حلاوة”، إن العرفان حالة ذهنية شديدة التحسس، وهي لهذا تستشعر لذة الطاعة؛ لأنها تتأتى عن الوعي الموصول بمكامن الحقيقة، لقد عرف عن بشر وفرة عقله حتى كان إبراهيم الحربي يقول:” رأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءاً عقلاً”، وكان أحمد بن حنبل لفضله وعقله يذهب إليه مع أبنائه ليستفيد منه نصيحة وإرشادا وكان يكثر في وعظه من قول: “الصبر هو الصمت، والصمت من الصبر ولا يكون المتكلم أروع من الصامت إلا رجل عالم يتكلم في موضعه ويسكت في موضعه”.
مع بشرٍ يأتيك الوعي تترى من تفاصيل اكتسابه اليومي في حياته الطافحة، مُثُلاً وفكراً وفقهاً كانت توبته انتفاضة لوعيه، ارتقت به فوق الأُلى فضلاً وعلما حتى صار النجم، والسائرون الذين يريدون قربه والوصول أنّى لهم ذلك، إلا مع طاعة عاقلة وطلاق للدنيا وخوف من الفتن وابتعاد عنها وتحر شديد للمطعم والمشرب والمسكن والكلام وسلامة للصدر على المسلمين، وقائمة طويلة لا تحصى من الأعمال الصالحة المتناثرة في حياة بشر، وكلها مسيجة بسياج الوعي والصبر والإدراك والمعرفة والعقل، أرأيت؟ أنّى السبيل إلى إدراكها؟
رحم الله العارف بالله بشر بن الحارث فقد عبد الله عن عقل فطين، فطيب الله اسمه في الدنيا وأعلى في الآخرة درجته.
إبراهيم العوضي
منقول من جريدة الخليج
الإمارات