أحسب أننا نتفق على أن الكلمة أمانــة، وهــي عمــار أو دمار: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 81] و {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 01] و {قُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} [الأحزاب: 07]، فالكلمة رسالة، ومن خلالها نقل الرسل رسالاتهم إلى الناس كافة، ويختص الدين الإسلامي بأن معجزته كلامية، ورسالته محفوظة إلى أن تقوم الساعة.
إذا كـنا متفـقين علـى هـذا، وإذا كـانت أهمية الكلمة من المسلَّمات والثوابت؛ فإن الناقد الأدبي: عربياً أو إسلامياً، مطـالب بأن يمارس الدور الإصلاحي، الدور التوعوي، الدور التصـحيحي لكل انحراف فكري أو سقوط أخلاقي، أو أي إخـلال فـي شـرط الفـن والـلغة بـوصـفها وعـاء الأدب الرفيع.
والنقاد الذين يحملون همّاً إسلامياً يشعرون بالدور الأهم في اقتفاء أثر الكلمة الإبداعية، لتنقيتها من كل الشوائب. ويقيني أن الناقد الإسلامي وغيره من سائر النقاد لا يختلفون حول فنيات الإبداع وسلامة اللغة، ولكنهم قد يختلفون حول القيم الدلالية، بحيث يتحفظ الناقد الإسلامي على كل شطحة تمس القيم الأخلاقيــة أو الفكرية، دون أن يحجر على الفن أو يسلبه شيئاً من خــصوصــياته الفنية أو اللغوية.
فالأديب له رسالة تختلف عن رسالة الفقيه والواعظ والخطيب. نعم! الكل يلتقون حول بث القيم النبيلة، والكل يسـعون لإشـاعة الكلمة الطيـبة؛ ولكن للمـبدع لغـته وأسلوبه وفنه ومجالاته، وللناقد رسالته في اقتفاء أثر الكلمة. وإذا كانت اللغة العربية وعاء الثقافة والحضارة فإنها تستوعب كل الخطابات المتنوعة بمعارفها وفنونها ودلالاتها، ومن ثم فإنها مـع الإبــداع الأدبـي غيـرُها مــع الكتــابة التاريخية أو الفقهية. والناقد الإسلامي يعي هذه الفوارق، ويحـافظ عليها، ويسعى جهده لنهوض اللغة الأدبية بمهمتها الإبداعية، بحيث لا تقصر في استكمال مكونات الإبداع.
والمتداول عند النقاد مقولة: شرف اللفظ وشرف المعنى، ولكل شرف مكوناته. والناقد الإسلامي أحرص الناس على استكمال الشرفين في النص الإبداعي، وهو الساعي لحمل المبدع الشعري أو السردي على الأخذ بعصم الشرفين؛ فإذا فقد المبدع شرف المعنى حاول الناقد الإسلامي ثنيه عن مساره، وإذا أخفق المبدع في اللفظ حاول الناقد الإسلامي إقالة عثرته. ولهذا فإن دور الناقد الإسلامي في تشكيل الأدب العربي المعاصر لا يختلف عن دور أي ناقد، إلا أن همه الأول ينصبُّ على شرف المعنى لأهمية الكلمة في نظره، وهي أهمية إنسانية، فلا أحد يستخف بأثر الكلمة ودورها في دمار العالم أو إعماره.
والذين يتصورون (النقد الإسلامي) نقداً قاصراً على المضامين، حاثّاً على أسلمة الخطــاب الأدبـي؛ إمّا جهلــة أو مغرضون. والمصداقية تفرض على الحاكم أن يتصور الشيء كما هو عند ذويه، ثم يقول رأيه.
الإشكالية أن كثيراً من النقاد يحصرون النقد الإسلامي في البعد الموضوعي، وهذا مكمن الخطأ، ومصدر الخلاف الذي لا ينتهي.
لهذا لا بد من تصوّر المفهوم؛ فالنقد الإسلامي نقد مكتمل المناهج والآليات والمقاصد، له همه اللغوي، وهمه الفني، وتطلعه إلى إشاعة الكلمة الطيبة، وقمع الكلمة الخبيثة. وإذا قصَّر ناقدٌ أو أكثر، أو اضطربت المفاهيم عند البعض، فإن الأدب الإسلامي ونقده لا يحملان أخطاء المطبقين.
الأدب الإسلامي كالإسلام؛ أدب شمولي يعي مطالب الحياة الدنيا والآخرة، ويسعى جهده لحفظ التوازن بين حاجة الروح والجسد. ومن تصور الأدب الإسلامي ونقده على خلاف ذلك فقد ظلمه، وظلم ذويه.
ولقد قلت، ولَـمَّا أزل أقول: إن الإشكالية في اضطراب المفاهيم.
ومتى التقى المتجادلون على أمر قد قُدر، انحسمت المشاكل، واستوت القضايا على سوقها.
لهذا؛ فإننا نود من كل الخصوم أن يزيلوا غبش المفاهيم، وأن يأخذوها من مصادرها. وأي تساؤل حول دور النقد الإسلامي لن يصدر بالجواب القاطع إلا إذا عرف أن النقد العربي وعاء النقد الإسلامي. وإن كان ثمة اختلاف فإنه حول شرف المعنى الذي قد لا يهتم به كثير من نقاد الأدب العربي؛ بل قد يدعو بعضهم إلى التحلل معتبراً الفن في معزلٍ عن ضوابط الدين وقيمه الأخلاقية.
ومع أن حسم الموقف سهل وممكن إلا أن بعض الخصوم لا يودون السماع للناقد الإسلامي؛ إذ لو سمعوا له لأخذوا برؤيته. إنه ناقد كأي ناقد عربي؛ ولكنه، كما أشرت، يضع كل الاعتبار لشرف المعنى الذي قد لا يكون من أولويات الناقد العربي. وكل ناقد يصنع قيمة لشرف المعنى هو ناقد إسلامي؛ شاء ذلك أم أبى.
والذين يظنون أن الأدب الإسلامي ونقده خلقٌ آخر يُبعِدون النُّجعة، ويحمِّلون الأدب الإسلامي ما لا يحتمل.إنه أدب عربي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إلا أنه يحمل هَمَّ إشاعة الكلمة الطيبة وقمع الكلمة الخبيثة؛ فهل من مُدَّكر؟