"...وكم بليت الرواية العربية بروايات لا تحمل من القيمة الفنية شيئاً، ولكنها في المقابل تتضمن أفكار التحرر والفساد والانحلال والنظرة المعادية للدين وأهله، ثم يأخذ لوبي النقاد العلماني دوره في نفخ الرواية وصاحبها وتلميعها حتى يصبح حديث المجالس والمنتديات والفضائيات ... "
تعتبر الرواية أكثر الفنون الأدبية انتشاراً في زماننا، وكتبها تتصدر دائماً قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وسحر الرواية يكمن في القص والحكاية التي تضفي متعة للقارئ، وتخرجه من حال السأم والملل والرتابة، وتلهب خياله بأحداث الرواية وشخصياتها فيعيش في عالمها الخاص ويتخلص ولو مؤقتاً من خشونة الواقع المعاش.
فالرواية تبني عوالم خيالية ينتقل إليها القارئ بوجدانه وأحاسيسه و مخيلته، وتصور له حياة متكاملة لا يستطيع أن يلملم أطرافها في حياته القصيرة التي يعيشها جزءاً جزءاً، بل كثيراً ما يكون هناك تشابه بين القارئ وبين بعض شخصيات الرواية في ظروف حياته وتطلعاته فيتتبع القارئ مسيرة هذه الشخصية بشغف ويرافقه شعور بالسعادة عند تحقيقها لطموحها أو يعي الدرس عند فشلها في اتباع نفس طريقه وطموحه.
ولا تقتصر فائدتها عند هذا الحد، بل تمنح القارئ فوائد متنوعة لا يستطيعها أي فن أدبي آخر لعذوبتها وسيولتها وقدرتها على الولوج في كل باب والمشي على الأشواك والقفز فوق الحواجز.
كذلك تمنح الرواية قارئها ثراءً لغوياً خاصة إذا كان الكاتب يتمتع بقدرة على انتقاء الألفاظ ووضعها في مكانها المناسب.
كما أنها قد تلخص تجربة شخصيته، فالروايات معظمها سير شخصية تقولب في قوالب متنوعة ويضفي عليها الروائي من رؤاه وأفكاره وتجاربه، وتختلف صعوداً وهبوطاً بحسب حياة وتجربة الروائي.
كما أنها قد تنقل تجربة تاريخية فالمؤرخ يطرز أحداثاً وأرقاماً جامدة ويقفز قفزاً ولا ينقل للقارئ التفاعل الاجتماعي والنفسي لتلك الأحداث الواقعة في زمان أو مكان لم يعشه القارئ، فينقل إليه الحدث بتفاعلاته النفسية والاجتماعية، بل ويدخله في الحدث ويجعله يعيش تفصيلاته اليومية والتغيرات التدريجية التي تتشوف نفسه إليها عند قراءة الحدث على أن الرواية التاريخية ليست مصدراً موثوقاً للتاريخ وقد تحشى بالزيف والمبالغة، وإيجاد شخصيات وهمية وخلفيات يكمل بها فجوات الحدث التاريخي وإعادة بناء الحدث التاريخي وتأثيثه حتى يستطيع الروائي تقديم حياة متكاملة.
ومما تتميز به الرواية عن التاريخ أنها تؤرخ للحدث اليومي وللشخصيات المهمشة في التاريخ حيث لا يمكن أن يكون لها حضور على مستوى الحوادث الكبرى وفعلها في الحدث جانبي وغير ملحوظ للمؤرخ فيغفلها عند تسجيله للحدث بعكس الروائي الذي يستحضرها ويجد نفسه مضطراً لها عند بناءه الروائي.
كما أن الرواية قد تنقل لقارئها الحياة الداخلية لفئة أو طبقة لا يستطيع الاتصال بها أو معايشتها، وهناك مقولة لأحد الزعماء الأوروبيين يقول: لقد فهمت أوروبا من روايات بلزاك أكثر مما فهمتها من كتب التاريخ الفرنسي، فهي الفن الوحيد الخالي من القيود الفنية المنفتح على كافة مجالات الحياة، على حد تعبير إبراهيم نصر الله: (ذلك الفن المشرع على الحياة بكافة تجلياتها الإنسانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والقادر على الخروج بجرأة إلى كل ما ينتجه البشر من أنواع إبداعية ليتمثلها كما لا يتمثلها أي فن أدبي).
فالرواية لها أثرها البعيد سلباً أو إيجاباً وكثيراً ما يتسرب أثرها غير المباشر إلى مكنونات عقل القارئ ونفسه ووجدانه فيتبنى ما فيها من رؤى وأفكار ويتمثل ما بها من مشاعر.
والرواية العربية تأثرت بالرواية الغربية، بل سارت على نسقها ولا نريد أن ندخل في خلاف أهل الاختصاص حول:
هل الرواية فن عربي أصيل أم مستورد من الغرب؟
ولكن الذي لا يختلف عليه أن التقليد للروائيين الغربيين والسير على سننهم في صياغة الرواية واضح في الرواية العربية، وهذه أول رواية عربية"زينب"لمحمد حسين هيكل كان الموضوع الذي تعالجه أقرب ما يكون إلى الموضوعات التي تستهوي الروائيين الرومانسيين في فرنسا ومثلها "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران(1).
يلاحظ كذلك اهتمام التيارات العلمانية في البلاد العربية بالرواية حتى لا تكاد تعرف رواية إلا لهم، ولعل السبب كون الروائي ينشر ما يشاء من الأفكار في الرواية ويتخلص من تبعتها، فهي تنسب لأشخاص الرواية لا له لذلك كانت مجالاً خصباً لنشر أفكارهم المصادمة للدين والمخالفة له مخالفة ً تامة، والتي تحاول بناء مجتمع على أنقاض المجتمع المسلم بعد تحطيم ثوابته وأخلاقه ومسخه مسخا ً كاملا ً.
والحقيقة المؤكدة: أنه لا يوجد كاتب محايد ولا متجرد من الأهواء وسيطرة رؤى معينة عليه ينظر للحياة من خلالها ويفسر الأحداث على ضوئها، وسوف يفرغ ما في عقله من أفكار وتصورات في نسيج الرواية ويصوغها وفق ثقافته ورؤيته للحياة، والنتيجة كما ذكرنا خروج روايات تحمل أفكاراً ورؤى فاسدة وتطرح حلولا ً أكثر فساداً، والشيء من مستنبته لا يستغرب، فالمتأمل في أفكار وحياة وتوجهات هؤلاء الذين صدرت عنهم هذه الروايات لا يجد غرابة بعد ذلك، فهم مقطوعو الصلة بأمتهم، والكراهية بينهم وبين مجتمعاتهم متبادلة ينفرون من مجتمعاتهم ويكرهونها وينبذونها ومجتمعاتهم تبادلهم نفس الشعور هذا إن عرفتهـم و إلا هم غالباً مجهولون ويعيشون في دوائر مغلقة هي كل مجتمعهم ويظنون أنها كل الدنيا ويصورون من خلالها الحياة.
وتنظر في الرواية تجدها خالية من المبادئ والقيم وكثيراً ما تخلوا حتى من القيمة الفنية وما أكثر الروايات التي من هذا الطراز.
فهذا محمد شكري في روايته الهابطة "الخبز الحافي " وهي سيرة ذاتية يصور فيها مدينته وكأنها ماخور كبير تكثر فيه البغايا وينتشر فيه الشذوذ بأنواعه وعلب الليل والخمور والمخدرات وكل آفة ورذيلة ولا نستغرب بعد ذلك الاحتفاء الغربي بالرواية وترجمتها لأكثر من لغة، كما لا نستغرب صدور هذه الرواية من رجل كانت حياته كلها في الفسق والضياع باعترافه هو، ولكن نستغرب احتفاء المثقفين العرب به.
وبروايته التي تعطي صورة مشوهة عن تلك المدينة العربية الإسلامية وناسها الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا جميعا ً بتلك الصورة المشينة التي صورها الكاتب، وتعال إليه وهو يحطم صورة الأب ويسمه بالإجرام والنذالة وتشويه صورة الأب سنة دارجة عند كثير منهم ليقضوا على كل خلق وقيمة ونظام وهذه يمثلها ويحافظ عليها عادة الأب.
وهذا نجيب محفوظ في " خان الخليلي " يصف المرأة البغي بأنها هي المرأة الحقيقية لأنها خلعت عن وجهها قناع الرياء وظهرت بطبيعتها وحقيقتها فلم يعد هناك داع لإدعاء العفاف والطهر والشرف والوفاء، وكأن الشرف والطهر عندهم دائما زيف ونفاق، وهم إذا لم يعرفوه فهناك من يعرفه وهم كثير بفضل الله - تعالى -.
أما تركي الحمد في ثلاثيته فيقدم مجتمعاً منافقا يتدثر بالعفاف، ولكنه في حقيقته يمارس الرذيلة بأبشع صورها، ثم قام بحشر الجنس في روايته حشراً بمناسبة وغير مناسبة، كما أنه ملأ روايته بالألفاظ المقززة المتعفنة وكأنك تعيش في مزبلة حقيقة ومعنى.
وفي رواية " التفكك " لرشيد بو جدرة: تثور المرأة على الوضع المتدني ـ في نظره ثورة عارمة كاسحة تزيح في طريقها الأعراف كلها وتحطم المواضعات وتتحدى الوضع البيولوجي للمرأة، فهو يحكي لنا عن سالمة المتعلمة التي تشرف على المكتبة الوطنية وتدخن علبتي سجائر في اليوم، وتطالع الكتب والمجلات وتحمل في يدها صفيحة من أقراص الحمل، تعشق ثم تندم، وتقطع العلاقة كلما شعرت بأن صاحبها قد بدأ يتعلق بها وبعد أن فقدت صديقها الطاهر الغمري صارت حرة طليقة، ترجع إلى البيت في ساعة متأخرة، تفكر في أن تمارس الجنس مع صديقها الوحيد، وتقول في عناد وتحد ومحاورة مع نفسها: أكره الأمومة، وكل النساء أمهات وضعن لهذا الدور منذ الطفولة، وأنا الطائشة لن أكون أما ً (2).
وهذا غيض من فيض، وكم بليت الرواية العربية بروايات لا تحمل من القيمة الفنية شيئاً، ولكنها في المقابل تتضمن أفكار التحرر والفساد والانحلال والنظرة المعادية للدين وأهله، ثم يأخذ لوبي النقاد العلماني دوره في نفخ الرواية وصاحبها وتلميعها حتى يصبح حديث المجالس والمنتديات والفضائيات، وتقدم الدراسة تلو الدراسة، والمقالة تلو المقالة لنقد هذه الرواية واعتبارها حدثاً ثقافياً متميزاً، وربما استثاروا العلماء والدعاة حتى تنقد أو تمنع فترة من الزمان ليتهافت عليها القراء ويبحثوا عن سر نقدها و منعها، فإذا حصلوها بعد عناء وجدوها أقل بكثير من التلميعات التي صدرت بحقها.
ولعلنا نتلمس سمات عامة مشتركة بين أكثر الروائيين العرب:
1- الهوس بالجنس وجعله محور الحياة وقاعدتها الذي تدور حوله واعتباره قمة الإبداع الروائي وأي رواية تخلو من الجنس تعتبر باردة عقيمة خالية من القيمة في نظرهم.
(إن دخول الجنس في العمل الإبداعي موجود لدى جميع الأمم، ولكنه كان مستقلاً بذاته أي أنه شريحة وجزء من ثقافة الأمة له قراؤه وله محبوه، كما أنه له منكريه، وهذا أمر طبيعي، ففي الغرب أدب جنسي ولكنه جزء من أدب شامل له طقوسه وله خلواته، فلم أر في حياتي في الغرب راكباً في القطار أو الباص أو الطائرة يقرأ كتاباً عن الجنس، بل لم أر أحداً يقرأ مجلة جنسية مع وفرتها وانتشارها.
إن للحياة الراقية أدباً راقياً إذ لا يمكن أن تتحول ساحة الثقافة إلى حمام عام ولا إلى مبولة عامة.
إذا لماذا نحن مهووسون بهذا الضرب أو بهذا اللون من الأدب؟ فالرواية لدينا كي تكون ناجحة فلا بد أن تبدأ بالتعري أمامك منذ صفحاتها الأولى، فتدخلها فصلاً فصلاً وهي تتعرى قطعة قطعة، وعند آخر فصل تكون قد ألقت آخر قطعة تغطي بدنها.... حتى أصبح هدف الكاتب ليس العمل الإبداعي وإنمــا استجداء وصــرف نظر مراهقي الثقافة في عالمنا العربي، وربما بحثاً عن الترجمة إلى لغة أخرى بهذه الوسيلة تماماً كما يحدث لبعض أفلامنا العربية حينما يحاول بعض المخرجين العرب ترويج بضاعتهم إلى الغرب للحصول على أوسمة وجوائز حتى ولو كان عمله هابطاً إلى درجة التقزز، فالجسد العربي الذي يظهر أسمراً، طرياً، بضاً، أصبح يباع رخيصاً في سوق نخاسة السينما الغربية... عيب هذا الفن، وعيب هذا النقد، دعوا الأشياء تأخذ حجمها الطبيعي ولا تضيفوا عليها هذا التبجيل، ولا ترقصوا كالدراويش والمصابين بالزار على ضوء فتيلة بائسة، لا شيء فيها إلا أنها تضيء مساحة لممارسة ما هو محرم.
إن مقومات إبداع هؤلاء تكمن في ثلاثة:
النيل من الدين، النيل من الأخلاق، الحديث الفاضح عن الجنس.
هذا الثالوث المقدس في جراية أهل هذا الفن أو العفن، وهو وسيلة البروز والنجاح، لقد أصبحت الخسة، والرقاعة، والهبوط إلى أقبية الرذيلة الطرق الناجحة نحو الشهرة ودخول عالم حمير الثقافة، بل صارت هذه الروايات الساقطة إحدى معجزات زماننا الثقافي المهيمن)(3).
فالغرب وجد ضالته في هؤلاء الباحثين عن الشهرة بأي ثمن حتى لو على حساب دينه وأخلاقه ومبادئه فأبرز كتاب الجنس الفاضح وأصبحت الترجمة والجوائز الأدبية الممنوحة لهذا الأدب المتعري تسيل لعاب هؤلاء، فازدادوا عريا وعربدة في رواياتهم، ولعل احتفاء الغرب برواية محمد شكري أكبر دليل على هذا.
2- إعلاء قيمة العشق المذموم، وتصوير الحياة بدونه جافة كريهة لا روح فيها، ومن لا يعرف العشق لا يعرف الحياة، بل لا يعتبر إنسانا في نظرهم وقد ملئوا رواياتهم بقصص الحب المحرم بين فتى وفتاة لا تربطهم علاقة، وحتى بين امرأة متزوجة مع رجل غريب والعكس، ورسخوا في عقول بعض الشباب استحالة الزواج من دون سابق علاقة، وشرعوا للزوجة إذا لم تكّن الحب لزوجها خيانته.
وقد يصبح الكتاب موضع نقد في نظرهم إذا خلا منه، فهذا إحسان عباس في سيرته " غربة الراعي " ينتقد أحمد أمين في سيرته الذاتية " حياتي " كيف أنه قرأها فوجدها خالية من الحب فطالبه بإعادة النظر في هذا الجانب.
كيف أصبح العشق المذموم والعلاقات المحرمة والخيانة الزوجية تعلن على رؤوس الملأ من غير نكير، بل أصبحت عرفاً مستساغاً، لا تنكره حتى القلوب في أدنى درجات الإيمان؟
3- نشر أفكار الإلحاد والعلمنة والاستهزاء بالدين، ومحاولة تسويقها عبر السرد الروائي بعدما فشلت ونبذها الناس.
4- تحطيم صورة الأب في محاولة لتحطيم كل عرف وخلق وانضباط ونظام يمثله الأب، فصوروا الأب في كثير من رواياتهم على أنه رمز للاستبداد والطغيان وكبت الحريات والأنانية ولابد من تحطيم هذا الرمز لتحقيق حلم الحرية، وهي دعوة للتمرد على الأب والخروج من طاعته، والتمرد على القيم المتوارثة التي يحملها الأب ويحرص عليها ويسعى جاهداً لغرسها في أبنائه، فإذا تحطم هذا الرمز نشأ جيل منبت عن ماضيه ولا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
والناظر في ثلاثية نجيب محفوظ وروايات محمد شكري والطاهر بن جلون وغيرهم يرى الصورة المظلمة التي رسموها للأب.
5- الثورة على جميع الأعراف والقيم والتقاليد الموروثة واعتبارها بالية ورمزاً للتخلف والقهر والاستبداد.
وهذا توفيق عواد في " طواحين الهواء " يقول على لسان بطلته: سأحارب تحت كل سماء، ضد كل الشرائع والتقاليد التي ارتضاها المجتمع؛ لأنه باسمها أنكر علي حق الحياة تحت سماء بلادي.
6- رسم صورة مشرقة للبغايا والساقطات، فلا تشعر الفتاة بالعار والعيب وهي تقرأ عنهن بل ربما حصروا الخير فيها، فنجيب محفوظ في " اللص والكلاب " حينما يصور مجتمعاً ظالماً أنانياً و حين تُسد الطرق أمام بطل الرواية يجعل الجانب المشرق في الرواية عند بغي دافعت عن هذا المظلوم وسعت لحمايته.
7- احتقار الأمومة ونعتها بالمهمة الحقيرة التي ينبغي للمرأة العصرية المتحررة الراقية أن تتعالى عن هذه الوظيفة التي تشبه في نظرهم الدجاجة المعدة للبيض أو البقرة المعدة للحلب، وتقتصر وظيفتها في الحياة بعد ذلك على الولادة وتربية الأولاد، ولكن يا ترى ما الوظيفة العظيمة والمهمة الراقية التي يعدون بها المرأة؛ إنها الضياع والفساد، وجعلها سلعة رخيصة لا ترد يد لامس.
تعتبر الرواية أكثر الفنون الأدبية انتشاراً في زماننا، وكتبها تتصدر دائماً قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وسحر الرواية يكمن في القص والحكاية التي تضفي متعة للقارئ، وتخرجه من حال السأم والملل والرتابة، وتلهب خياله بأحداث الرواية وشخصياتها فيعيش في عالمها الخاص ويتخلص ولو مؤقتاً من خشونة الواقع المعاش.
فالرواية تبني عوالم خيالية ينتقل إليها القارئ بوجدانه وأحاسيسه و مخيلته، وتصور له حياة متكاملة لا يستطيع أن يلملم أطرافها في حياته القصيرة التي يعيشها جزءاً جزءاً، بل كثيراً ما يكون هناك تشابه بين القارئ وبين بعض شخصيات الرواية في ظروف حياته وتطلعاته فيتتبع القارئ مسيرة هذه الشخصية بشغف ويرافقه شعور بالسعادة عند تحقيقها لطموحها أو يعي الدرس عند فشلها في اتباع نفس طريقه وطموحه.
ولا تقتصر فائدتها عند هذا الحد، بل تمنح القارئ فوائد متنوعة لا يستطيعها أي فن أدبي آخر لعذوبتها وسيولتها وقدرتها على الولوج في كل باب والمشي على الأشواك والقفز فوق الحواجز.
كذلك تمنح الرواية قارئها ثراءً لغوياً خاصة إذا كان الكاتب يتمتع بقدرة على انتقاء الألفاظ ووضعها في مكانها المناسب.
كما أنها قد تلخص تجربة شخصيته، فالروايات معظمها سير شخصية تقولب في قوالب متنوعة ويضفي عليها الروائي من رؤاه وأفكاره وتجاربه، وتختلف صعوداً وهبوطاً بحسب حياة وتجربة الروائي.
كما أنها قد تنقل تجربة تاريخية فالمؤرخ يطرز أحداثاً وأرقاماً جامدة ويقفز قفزاً ولا ينقل للقارئ التفاعل الاجتماعي والنفسي لتلك الأحداث الواقعة في زمان أو مكان لم يعشه القارئ، فينقل إليه الحدث بتفاعلاته النفسية والاجتماعية، بل ويدخله في الحدث ويجعله يعيش تفصيلاته اليومية والتغيرات التدريجية التي تتشوف نفسه إليها عند قراءة الحدث على أن الرواية التاريخية ليست مصدراً موثوقاً للتاريخ وقد تحشى بالزيف والمبالغة، وإيجاد شخصيات وهمية وخلفيات يكمل بها فجوات الحدث التاريخي وإعادة بناء الحدث التاريخي وتأثيثه حتى يستطيع الروائي تقديم حياة متكاملة.
ومما تتميز به الرواية عن التاريخ أنها تؤرخ للحدث اليومي وللشخصيات المهمشة في التاريخ حيث لا يمكن أن يكون لها حضور على مستوى الحوادث الكبرى وفعلها في الحدث جانبي وغير ملحوظ للمؤرخ فيغفلها عند تسجيله للحدث بعكس الروائي الذي يستحضرها ويجد نفسه مضطراً لها عند بناءه الروائي.
كما أن الرواية قد تنقل لقارئها الحياة الداخلية لفئة أو طبقة لا يستطيع الاتصال بها أو معايشتها، وهناك مقولة لأحد الزعماء الأوروبيين يقول: لقد فهمت أوروبا من روايات بلزاك أكثر مما فهمتها من كتب التاريخ الفرنسي، فهي الفن الوحيد الخالي من القيود الفنية المنفتح على كافة مجالات الحياة، على حد تعبير إبراهيم نصر الله: (ذلك الفن المشرع على الحياة بكافة تجلياتها الإنسانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والقادر على الخروج بجرأة إلى كل ما ينتجه البشر من أنواع إبداعية ليتمثلها كما لا يتمثلها أي فن أدبي).
فالرواية لها أثرها البعيد سلباً أو إيجاباً وكثيراً ما يتسرب أثرها غير المباشر إلى مكنونات عقل القارئ ونفسه ووجدانه فيتبنى ما فيها من رؤى وأفكار ويتمثل ما بها من مشاعر.
والرواية العربية تأثرت بالرواية الغربية، بل سارت على نسقها ولا نريد أن ندخل في خلاف أهل الاختصاص حول:
هل الرواية فن عربي أصيل أم مستورد من الغرب؟
ولكن الذي لا يختلف عليه أن التقليد للروائيين الغربيين والسير على سننهم في صياغة الرواية واضح في الرواية العربية، وهذه أول رواية عربية"زينب"لمحمد حسين هيكل كان الموضوع الذي تعالجه أقرب ما يكون إلى الموضوعات التي تستهوي الروائيين الرومانسيين في فرنسا ومثلها "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران(1).
يلاحظ كذلك اهتمام التيارات العلمانية في البلاد العربية بالرواية حتى لا تكاد تعرف رواية إلا لهم، ولعل السبب كون الروائي ينشر ما يشاء من الأفكار في الرواية ويتخلص من تبعتها، فهي تنسب لأشخاص الرواية لا له لذلك كانت مجالاً خصباً لنشر أفكارهم المصادمة للدين والمخالفة له مخالفة ً تامة، والتي تحاول بناء مجتمع على أنقاض المجتمع المسلم بعد تحطيم ثوابته وأخلاقه ومسخه مسخا ً كاملا ً.
والحقيقة المؤكدة: أنه لا يوجد كاتب محايد ولا متجرد من الأهواء وسيطرة رؤى معينة عليه ينظر للحياة من خلالها ويفسر الأحداث على ضوئها، وسوف يفرغ ما في عقله من أفكار وتصورات في نسيج الرواية ويصوغها وفق ثقافته ورؤيته للحياة، والنتيجة كما ذكرنا خروج روايات تحمل أفكاراً ورؤى فاسدة وتطرح حلولا ً أكثر فساداً، والشيء من مستنبته لا يستغرب، فالمتأمل في أفكار وحياة وتوجهات هؤلاء الذين صدرت عنهم هذه الروايات لا يجد غرابة بعد ذلك، فهم مقطوعو الصلة بأمتهم، والكراهية بينهم وبين مجتمعاتهم متبادلة ينفرون من مجتمعاتهم ويكرهونها وينبذونها ومجتمعاتهم تبادلهم نفس الشعور هذا إن عرفتهـم و إلا هم غالباً مجهولون ويعيشون في دوائر مغلقة هي كل مجتمعهم ويظنون أنها كل الدنيا ويصورون من خلالها الحياة.
وتنظر في الرواية تجدها خالية من المبادئ والقيم وكثيراً ما تخلوا حتى من القيمة الفنية وما أكثر الروايات التي من هذا الطراز.
فهذا محمد شكري في روايته الهابطة "الخبز الحافي " وهي سيرة ذاتية يصور فيها مدينته وكأنها ماخور كبير تكثر فيه البغايا وينتشر فيه الشذوذ بأنواعه وعلب الليل والخمور والمخدرات وكل آفة ورذيلة ولا نستغرب بعد ذلك الاحتفاء الغربي بالرواية وترجمتها لأكثر من لغة، كما لا نستغرب صدور هذه الرواية من رجل كانت حياته كلها في الفسق والضياع باعترافه هو، ولكن نستغرب احتفاء المثقفين العرب به.
وبروايته التي تعطي صورة مشوهة عن تلك المدينة العربية الإسلامية وناسها الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا جميعا ً بتلك الصورة المشينة التي صورها الكاتب، وتعال إليه وهو يحطم صورة الأب ويسمه بالإجرام والنذالة وتشويه صورة الأب سنة دارجة عند كثير منهم ليقضوا على كل خلق وقيمة ونظام وهذه يمثلها ويحافظ عليها عادة الأب.
وهذا نجيب محفوظ في " خان الخليلي " يصف المرأة البغي بأنها هي المرأة الحقيقية لأنها خلعت عن وجهها قناع الرياء وظهرت بطبيعتها وحقيقتها فلم يعد هناك داع لإدعاء العفاف والطهر والشرف والوفاء، وكأن الشرف والطهر عندهم دائما زيف ونفاق، وهم إذا لم يعرفوه فهناك من يعرفه وهم كثير بفضل الله - تعالى -.
أما تركي الحمد في ثلاثيته فيقدم مجتمعاً منافقا يتدثر بالعفاف، ولكنه في حقيقته يمارس الرذيلة بأبشع صورها، ثم قام بحشر الجنس في روايته حشراً بمناسبة وغير مناسبة، كما أنه ملأ روايته بالألفاظ المقززة المتعفنة وكأنك تعيش في مزبلة حقيقة ومعنى.
وفي رواية " التفكك " لرشيد بو جدرة: تثور المرأة على الوضع المتدني ـ في نظره ثورة عارمة كاسحة تزيح في طريقها الأعراف كلها وتحطم المواضعات وتتحدى الوضع البيولوجي للمرأة، فهو يحكي لنا عن سالمة المتعلمة التي تشرف على المكتبة الوطنية وتدخن علبتي سجائر في اليوم، وتطالع الكتب والمجلات وتحمل في يدها صفيحة من أقراص الحمل، تعشق ثم تندم، وتقطع العلاقة كلما شعرت بأن صاحبها قد بدأ يتعلق بها وبعد أن فقدت صديقها الطاهر الغمري صارت حرة طليقة، ترجع إلى البيت في ساعة متأخرة، تفكر في أن تمارس الجنس مع صديقها الوحيد، وتقول في عناد وتحد ومحاورة مع نفسها: أكره الأمومة، وكل النساء أمهات وضعن لهذا الدور منذ الطفولة، وأنا الطائشة لن أكون أما ً (2).
وهذا غيض من فيض، وكم بليت الرواية العربية بروايات لا تحمل من القيمة الفنية شيئاً، ولكنها في المقابل تتضمن أفكار التحرر والفساد والانحلال والنظرة المعادية للدين وأهله، ثم يأخذ لوبي النقاد العلماني دوره في نفخ الرواية وصاحبها وتلميعها حتى يصبح حديث المجالس والمنتديات والفضائيات، وتقدم الدراسة تلو الدراسة، والمقالة تلو المقالة لنقد هذه الرواية واعتبارها حدثاً ثقافياً متميزاً، وربما استثاروا العلماء والدعاة حتى تنقد أو تمنع فترة من الزمان ليتهافت عليها القراء ويبحثوا عن سر نقدها و منعها، فإذا حصلوها بعد عناء وجدوها أقل بكثير من التلميعات التي صدرت بحقها.
ولعلنا نتلمس سمات عامة مشتركة بين أكثر الروائيين العرب:
1- الهوس بالجنس وجعله محور الحياة وقاعدتها الذي تدور حوله واعتباره قمة الإبداع الروائي وأي رواية تخلو من الجنس تعتبر باردة عقيمة خالية من القيمة في نظرهم.
(إن دخول الجنس في العمل الإبداعي موجود لدى جميع الأمم، ولكنه كان مستقلاً بذاته أي أنه شريحة وجزء من ثقافة الأمة له قراؤه وله محبوه، كما أنه له منكريه، وهذا أمر طبيعي، ففي الغرب أدب جنسي ولكنه جزء من أدب شامل له طقوسه وله خلواته، فلم أر في حياتي في الغرب راكباً في القطار أو الباص أو الطائرة يقرأ كتاباً عن الجنس، بل لم أر أحداً يقرأ مجلة جنسية مع وفرتها وانتشارها.
إن للحياة الراقية أدباً راقياً إذ لا يمكن أن تتحول ساحة الثقافة إلى حمام عام ولا إلى مبولة عامة.
إذا لماذا نحن مهووسون بهذا الضرب أو بهذا اللون من الأدب؟ فالرواية لدينا كي تكون ناجحة فلا بد أن تبدأ بالتعري أمامك منذ صفحاتها الأولى، فتدخلها فصلاً فصلاً وهي تتعرى قطعة قطعة، وعند آخر فصل تكون قد ألقت آخر قطعة تغطي بدنها.... حتى أصبح هدف الكاتب ليس العمل الإبداعي وإنمــا استجداء وصــرف نظر مراهقي الثقافة في عالمنا العربي، وربما بحثاً عن الترجمة إلى لغة أخرى بهذه الوسيلة تماماً كما يحدث لبعض أفلامنا العربية حينما يحاول بعض المخرجين العرب ترويج بضاعتهم إلى الغرب للحصول على أوسمة وجوائز حتى ولو كان عمله هابطاً إلى درجة التقزز، فالجسد العربي الذي يظهر أسمراً، طرياً، بضاً، أصبح يباع رخيصاً في سوق نخاسة السينما الغربية... عيب هذا الفن، وعيب هذا النقد، دعوا الأشياء تأخذ حجمها الطبيعي ولا تضيفوا عليها هذا التبجيل، ولا ترقصوا كالدراويش والمصابين بالزار على ضوء فتيلة بائسة، لا شيء فيها إلا أنها تضيء مساحة لممارسة ما هو محرم.
إن مقومات إبداع هؤلاء تكمن في ثلاثة:
النيل من الدين، النيل من الأخلاق، الحديث الفاضح عن الجنس.
هذا الثالوث المقدس في جراية أهل هذا الفن أو العفن، وهو وسيلة البروز والنجاح، لقد أصبحت الخسة، والرقاعة، والهبوط إلى أقبية الرذيلة الطرق الناجحة نحو الشهرة ودخول عالم حمير الثقافة، بل صارت هذه الروايات الساقطة إحدى معجزات زماننا الثقافي المهيمن)(3).
فالغرب وجد ضالته في هؤلاء الباحثين عن الشهرة بأي ثمن حتى لو على حساب دينه وأخلاقه ومبادئه فأبرز كتاب الجنس الفاضح وأصبحت الترجمة والجوائز الأدبية الممنوحة لهذا الأدب المتعري تسيل لعاب هؤلاء، فازدادوا عريا وعربدة في رواياتهم، ولعل احتفاء الغرب برواية محمد شكري أكبر دليل على هذا.
2- إعلاء قيمة العشق المذموم، وتصوير الحياة بدونه جافة كريهة لا روح فيها، ومن لا يعرف العشق لا يعرف الحياة، بل لا يعتبر إنسانا في نظرهم وقد ملئوا رواياتهم بقصص الحب المحرم بين فتى وفتاة لا تربطهم علاقة، وحتى بين امرأة متزوجة مع رجل غريب والعكس، ورسخوا في عقول بعض الشباب استحالة الزواج من دون سابق علاقة، وشرعوا للزوجة إذا لم تكّن الحب لزوجها خيانته.
وقد يصبح الكتاب موضع نقد في نظرهم إذا خلا منه، فهذا إحسان عباس في سيرته " غربة الراعي " ينتقد أحمد أمين في سيرته الذاتية " حياتي " كيف أنه قرأها فوجدها خالية من الحب فطالبه بإعادة النظر في هذا الجانب.
كيف أصبح العشق المذموم والعلاقات المحرمة والخيانة الزوجية تعلن على رؤوس الملأ من غير نكير، بل أصبحت عرفاً مستساغاً، لا تنكره حتى القلوب في أدنى درجات الإيمان؟
3- نشر أفكار الإلحاد والعلمنة والاستهزاء بالدين، ومحاولة تسويقها عبر السرد الروائي بعدما فشلت ونبذها الناس.
4- تحطيم صورة الأب في محاولة لتحطيم كل عرف وخلق وانضباط ونظام يمثله الأب، فصوروا الأب في كثير من رواياتهم على أنه رمز للاستبداد والطغيان وكبت الحريات والأنانية ولابد من تحطيم هذا الرمز لتحقيق حلم الحرية، وهي دعوة للتمرد على الأب والخروج من طاعته، والتمرد على القيم المتوارثة التي يحملها الأب ويحرص عليها ويسعى جاهداً لغرسها في أبنائه، فإذا تحطم هذا الرمز نشأ جيل منبت عن ماضيه ولا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
والناظر في ثلاثية نجيب محفوظ وروايات محمد شكري والطاهر بن جلون وغيرهم يرى الصورة المظلمة التي رسموها للأب.
5- الثورة على جميع الأعراف والقيم والتقاليد الموروثة واعتبارها بالية ورمزاً للتخلف والقهر والاستبداد.
وهذا توفيق عواد في " طواحين الهواء " يقول على لسان بطلته: سأحارب تحت كل سماء، ضد كل الشرائع والتقاليد التي ارتضاها المجتمع؛ لأنه باسمها أنكر علي حق الحياة تحت سماء بلادي.
6- رسم صورة مشرقة للبغايا والساقطات، فلا تشعر الفتاة بالعار والعيب وهي تقرأ عنهن بل ربما حصروا الخير فيها، فنجيب محفوظ في " اللص والكلاب " حينما يصور مجتمعاً ظالماً أنانياً و حين تُسد الطرق أمام بطل الرواية يجعل الجانب المشرق في الرواية عند بغي دافعت عن هذا المظلوم وسعت لحمايته.
7- احتقار الأمومة ونعتها بالمهمة الحقيرة التي ينبغي للمرأة العصرية المتحررة الراقية أن تتعالى عن هذه الوظيفة التي تشبه في نظرهم الدجاجة المعدة للبيض أو البقرة المعدة للحلب، وتقتصر وظيفتها في الحياة بعد ذلك على الولادة وتربية الأولاد، ولكن يا ترى ما الوظيفة العظيمة والمهمة الراقية التي يعدون بها المرأة؛ إنها الضياع والفساد، وجعلها سلعة رخيصة لا ترد يد لامس.