مدخل إلى فكر هيغل
كان هيغل أول من أعمل قطع الحداثة مع الإيحاءات المعيارية للماضي الغريب عنها. لم تطرح الحداثة على نفسها مسألة العثور على ضماناتها الخاصة في ذاتها إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وتبلغ هذه المسألة من الحدة بحيث يمكن لـ هيغل أن يتناولها بوصفها مسألة فلسفية، لا بل يجعل منها “المسألة الأساسية” لفلسفته. إن الانشقاقات التي أحدثها فعل العصور الحديثة في الأزمنة السابقة وتراثها يراها هيغل منبع الحاجة إلى الفلسفة التي باتت وعي الحداثة لذاتها. يكتشف هيغل، أولاً ، “المبدأ الذاتي للأزمنة الحديثة”. أي ترجمة الأزمنة الحديثة إلى أفكار. ووعي هذه الترجمة. ما يزال، الفكر الحديث كله ناتج عن هيغل بشكل من الأشكال. وقد استطاع هذا الفيلسوف العبقري أن يشكل نسقاً فلسفياً متكاملاً سماه “نسق العلم” System of Science، حيث يشـــمل: 1- المنطق 2- الطبيعة 3- الروح/ العقل . كذلك فقد درس هيغل الدين والأخلاق الفردية والحياة الأخلاقية والسياسة والدولة والمجتمع المدني الخ… لم يترك شيئاً إلا وتحدث عنه، كالجمال والفن. ولهذا السبب كان آخر فيلسوف شمولي في التاريخ. إنه أرسطو العصور الحديثة، وكما أن المعلم الأول [أرسطو] تحدث عن الفيزيقا والميتافيزيقا والمنطق والبلاغة والشعر والسياسة والأخلاق والدين الخ…. كذلك، فعل هيغل الشيء ذاته في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ولذلك اعتبره البعض بأنه ذروة الفلسفة المثالية الألمانية. يقول هولغيت:” لقد تأثر هيغل بـ كانط بدون شك، حيث كان كانط أستاذاً لكل مثقفي ألمانيا في ذلك الزمان، ولكنه حاول أن يتجاوز أستاذه، وقد تجاوزه في أشياء عديدة من هنا بعض من عظمته”.
وأما الأحداث الأساسية التي أثرت على فكر هيغل وفلسفته في التاريخ فهي الثورة الفرنسية التي اندلعت وعمره تسعة عشر عاماً، ثم شخصية نابليون بونابرت الذي غزا ألمانيا ورآه لأول مرة على حصان، ثم الثورة الصناعية الإنجليزية التي غيرت وجه العالم.
وأما عن حياته، فيقول هولغيت: ولد جورج ويلهلم فريدريك هيغل بتاريخ 27 آب/ أغسطس عام 1770 في عائلة بروسية تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة. كان والده موظفاً في الدولة البروسية. وبعد أن أنهى دراساته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت دخل إلى كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين. وهناك درس التاريخ وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه هولدرلين الذي سيصبح شاعراً كبيراً فيما بعد. وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة. وهناك قرأ كتب جان جاك روسو و كانط على ضوء أحداث الثورة الفرنسية.
ثم التحق به شاب آخر سوف يصبح فيلسوفاً كبيراً فيما بعد هو شيلِنغ . وقد حصل تنافس بينهما أدى إلى نوع من الخصومة وسوء التفاهم. وفي عام 1790 نال هيغل شهادة التفوق في الفلسفة. وبعدئذ أصبح مربّي أطفال لدى عائلة غنية في مدينة بيرن بسويسرا. وقد بقي هناك حتى عام 1796. وفي عام 1795 ألّف أول كتاب له تحت عنوان «حياة يسوع». ثم راح يدرس بشكل منهجي منتظم مؤلفات كانط و فيخته في مدينة فرانكفورت بين عامي 1797 - 1800. وفي عام 1801 انتقل إلى مدينة «يّينا» التي تحتوي على جامعة مهمة، حيث حلّ شيلنغ محل فيخته كأستاذ جامعي، بعد أن أبعد هذا الأخير لاتهامه بالإلحاد atheism. وهناك انخرط في الكتابة والبحث والمناقشات الفلسفية إلى أقصى حد. ثم أصبح أستاذاً مساعداً في نفس الجامعة. حيث كان يتقاضى راتباً زهيداً.
وفي عام 1807 أنهى هيغل تأليف كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح (أو علم ظواهر الروح/ العقل). ثم أصبح رئيس تحرير لإحدى الجرائد الألمانية. لكنه طُرد من هذا المنصب بعد سنة واحدة لأسباب سياسية. فقد كانت أفكاره ثورية أو تقدمية أكثر من اللازم. ثم ألّف كتاباً مدرسياً في عدة أجزاء بين عامي 1812-1816 تحت عنوان «علم المنطق». وهو ما يسمى أيضاً بـ “المنطق الكبير” مقابل “المنطق الصغير” أو “موسوعة العلوم الفلسفية”
تزوج هيغل عام 1811 وولد له طفلان: الأول سيصبح أستاذ تاريخ، والثاني أصبح قساً بروتستانتياً.. نال هيغل منصباً جامعياً مهماً في جامعة هايدلبرغ عام 1816. وفي عام 1817 نشر كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية”. أو “المنطق الصغير” وعندما مات فيخته الذي كان يحتل كرسي الفلسفة في جامعة برلين حل هيغل محله عام 1818. وكان ذلك أكبر منصب يمكن أن يحلم به فيلسوف في ذلك الزمان. وعندئذ ازدادت شهرته وأصبحت عالمية تقريباً. ولكن البعض أخذوا عليه موقفه السياسي المحافظ واعتبروه بمثابة المفكر الرسمي للنظام الملكيّ البْروسيّ. وهكذا هاجمه الليبراليون الذين كانوا ما يزالون تقدميين في ذلك الزمان. ولكن بعد فترة من الزمن راح النظام نفسه يشتبه به. وعندئذ أصبح يتلقى الضربات من كلا الطرفين. وفي عام 1821 نشر هيغل كتابه «مبادئ فلسفة الحق”. وفي عام 1827 سافر إلى منطقة فايمار حيث استقبله غوتّه ، ثم سافر بعدئذ إلى باريس حيث رحّب به فيكتور كوزات وبعض المثقفين الفرنسيين الآخرين.
مات هيغل بمرض الكوليرا عام 1831 و كان عمره واحداً وستين عاماً فقط. وبالتالي فإن كتبه عن الجماليات، وفلسفة الدين، وفلسفة التاريخ، لم تنشر إلا بعد موته. يقول هولغيت: إن تلخيص فلسفة ضخمة كفلسفة هيغل أمر صعب جداً. فالمرء يخشى أن يشوه فكره إذا ما بسَّطه أكثر من اللزوم. كان هيغل يرى أن ما يتحقق في التاريخ عبر الصراعات الدامية والأهواء البشرية المتعارضة والهائجة هو الروح/ العقل: أي العقلانية العميقة. فالتاريخ عقلانيّ على الرغم من أنه يبدو لنا فوضوياً، مليئاً بالحروب والظلم والقهر. وذلك لأن العقل هو الذي يحكم العالم والتاريخ بحسب النظرة الديالكتيكية لـ هيغل. فالتاريخ كان عقلانياً وسيبقى على الرغم من كل المظاهر الخادعة والتي تقول العكس. والتاريخ لا يمكن أن يفهمه إلا عقل الفيلسوف. كان هيغل يقول بالحرف الواحد: ” ينبغي أن ننظر إلى التاريخ بعين العقل التي هي وحدها القادرة على اختراق السطح المبرقش للأحداث اليومية.” التاريخ يتقدم نحو المزيد من وعي الذات، هذا الوعي الذي يجعل الإنسان متحرراً من الضرورات. التاريخ يتقدم باتجاه المزيد من العقلانية، والأخلاق، والحرية. هذا هو طموح التاريخ النهائي والأخير. إنه يهدف إلى تحقيق السعادة للبشر على هذه الأرض، وكذلك تحقيق التقدم المادي والمعنوي. ليس هذا بعيداً عن البشر، بل بفعل البشر أنفسهم. البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، لكن ليس على هواهم، بل وفق ضرورات وشروط مادية عليهم وعيها وتجاوزها. حسب ما أضاف ماركس لاحقاً.
هل ينبغي أن نستنتج من ذلك أن الناس في عصرنا أكثر عقلانية وأخلاقية وحرية مما كانوا عليه في الماضي؟ لا. ولكن ما هو مضاد للعقلانية والأخلاق والحرية ما عادوا يتحملونه كما في السابق، وإنما أصبحوا يشجبونه أكثر فأكثر. لنضرب على ذلك المثل التالي: عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية تحاكم المفكرين في القرون الوسطى أو حتى في عصر النهضة وتعدمهم كما حصل لـ جيوردانو برونو وآخرين ما كان أحد يحتج على ذلك.
كانوا يعتبرونه شيئاً طبيعياً أو عادياً لأن الكنيسة معصومة ولا تناقش. ولكن عندما قتلوا المفكرين أو حتى الناس العاديين في القرن الثامن عشر احتج فولتير على ذلك ومعه كوكبة من المثقفين. وأما في القرن التاسع عشر فعندما أدانوا الضابط درايفوس بتهمة الخيانة العظمى وهو بريء فإن إميل زولا احتج على ذلك ومعه ليس فقط المثقفين وإنما جزء لا يستهان به من الرأي العام.. وهكذا نلاحظ أنه يوجد تطور على مدار التاريخ من قرن إلى قرن. واليوم أصبح الحكام في الدول الأوروبية يخشون رأيهم العام إلى حد كبير. وبالتالي فالذين يقولون بأنه لا يوجد تقدم في التاريخ مخطئون.
يقول هولغيت: بالنسبة لـ هيغل فإن التاريخ الكوني أو تاريخ العالم لا يهتم بالأشخاص الفرديين وإنما يهتم بالفرد الكوني أي بالشعب ككل وبروح هذا الشعب. وهذا ما ندعوه الآن بخصوصية الشعب الألماني، أو الفرنسي، أو العربي الخ… فكل شعب له روح جماعية هي شروط هذا الشعب وموقعه في جدلية التاريخ العالمي. وجاءت الماركسية ومعها، الفهم المادي للتاريخ أو ما سمي لاحقاً بـ “المادية التاريخية” لتطرح إشكالية، “دور الفرد في التاريخ”.
منطق هيغل أو الديالكتيك الهيغليّ هو ما يسميه هيغل نفسه بـ”نسق العلم” أو “منظومة العلم” والذي يشتمل على ثلاثـــة وجـوه: 1- المنـطق ، 2- الطبيعة، 3- الروح/ العقل. والمنطق يتضمن ثلاثة وجوه:
1- اللوغوس أو المفهوم وهو ما يسمى بـ “الكلمة” في الفكر الديني 2- الكينونة أو الكائن 3- الماهية . تشمل مقولة الطبيعة ثلاثة وجوه :
1- الطبيعة الميكانيكية 2- الطبيعة الفيزيقية أو الفيزيائية 3- الطبيعة العضوية. أما مقولة الروح/ العقل فتشمل: 1- الروح/ العقل الذاتي 2- الروح/ العقل الموضوعي 3- الروح / العقل المطلق(العرفاني) أو نفس الأمر إذا استعرنا التعبير الصوفي .
الكينونة أو الكائن كما لاحظنا أحد مقولات المنطق وتشمل مقولة الكائن: 1- التحديد 2- القَدْر 3- القياس. الماهية وهي تأتي من ســؤال: ما هو ؟ وهي المقولة الثانية للمنطق الهيغليّ وتشمل:
1- الانعكاس إلى النفس وفيها. 2- المظهر 3- الفِعلية أو الواقع الفعلي.
المقولة الثالثة من مقولات المنطق الهيغليّ هي اللوغوس (الكلمة الصوتية) أو المفهوم ، وهو أيضاً العقل أو المبدأ العقلاني في الكون حسب الفلسفة اليونانية القديمة، وهو كلمة الله وهو المسيح في الفكر اللاهوتي: في البدء كانت الكلمة. جاء في سورة آل عمران: “إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ” [آل عمران/45]. وفي سورة النساء: “وكلّم الله موسى تكليما” [النساء/164] وفيها أيضاً: “إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته” [النساء/171]. والكلمة نوعان: كلمة طيبة، وهي نفس الأمر أو معنى حقيقة الواقع . وكلمة خبيثة هي ضرب من الهوى والضلال؛ “ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة ” [إبراهيم/24 “]. ومثل كلمة خبيثة كشــجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض” [إبراهيم/ 26 ]. و يتكون اللوغوس أو المفهوم أو ناموس الكون من ثلاث مقولات هي:
1- الذاتية 2- الموضوعية 3- الفكرة . أما مقولة الروح/ العقل فتشمل: 1- الـروح / العقل الذاتـــي 2- الروح/ العقل الموضوعي 3- الروح/ العقل المطلق أو نفس الأمر.
الطبيعة الميكانيكية تشتمل على ثلاث مقولات هــي: 1- الامتداد المجرّد 2- الميكانيكا المتناهية 3- ميكانيكا الأجرام السماوية. الطبيعة الفيزيائية تشتمل على ثلاث مقولات هــي: 1- المادة المفردة 2- المفرد الخاص 3- الجسم . الطبيعة العضوية وتشــمل: 1- الأرض 2- حياة النبات 3- حياة الحيوان .
لقد لاحظنا أن مقولة الروح/ العقل تشتمل على ثلاث مقولات هي الروح/ العقل الذاتي، والروح/العقل الموضوعي والروح/ العقل المطلق. يشتمل الروح/ العقل الذاتي على ثلاث مقولات هي : 1- النفــــس؛ الروح soul (الأنثروبولوجيا) 2- الوعي (الفينومينولوجيا) 3- السيكولوجيا أو علم النفس. بينما يشتمل الروح/ العقل الموضوعي على ثلاث مقولات هي: 1- الحق المجرد 2- المبدأ الأخلاقيّ أو قواعد السلوك الفردي 3- الحياة الأخلاقية. الروح/ العقل المطلق أو نفـس الأمر أو العرفان و يشتمل على ثلاث مقولات: 1- الفن (التعبير عن الحقيقة) 2- الدين (تمثيل الحقيقة) 3- الفلسفة (تفكير الحقيقة)..منقووووووووووووووول - نهاية الجزء الاول
حــــــسين الــــــخزاعـــــي (الـــــفوهــــــــرر) - الـــــــــعراق