المنتقى من كلام ونقول الشيخ البشير عصام المراكشي

أتعجب من الذي يدعي الحنكة السياسية، والبراعة في فهم الواقع، ثم تراه يجهل أو يتجاهل بعض ما لا يخفى على لبيب، مطلع على الدسائس التي تحاك للإسلام ليل نهار!
مثال ذلك:
المنع القانوني لزواج القاصرين وتعدد الزوجات، وإلغاء مؤسسة الولي في النكاح، وتعسير إجراءات الطلاق؛ كل هذا لا يمكن الغفلة عن الخيط الجامع الذي ينتظمه، وهو: تحطيم مؤسسة الزواج، وضرب الأسرة، وتشجيع الفساد الأخلاقي.
ونحن لا ننكر أن هنالك بعض السذج من عوام المسلمين، يرون في بعض هذه القرارات دفعا لبعض المفاسد، وتحصيلا لبعض المصالح، مما لا يتنافى مع أحكام الشريعة.
ولكن الدعاة ينبغي أن يكون لهم ما يكفي من الحصافة، ليفهموا بواطن هذه الدعوات، ومآلها الحتمي.
أما تركيز خطابهم على تلك المفاسد والمصالح، التي يروّجها الإعلام، وينخدع بها البسطاء، فإنه بعيد جدا عن ''فقه الواقع'' الذي يزعمون التمكن منه، وينكرون على غيرهم الجهل به.

يقول: أنت بكلامك هذا تنفّرني من الدين الصحيح!
أقول: أنت تعرف إذن أن ما أقوله هو الحق، ثم تنفر منه بسبب أسلوب كلامي. أفتراك معذورا؟!
إنما يُعذر الذي لا يميز الحق من الباطل، فينفر من الحق - جاهلا أنه حق – بسبب خطاب المنتسبين إليه.
فهنا إذن مقامان:
مقام تنبيه الدعاة على عدم التنفير في الخطاب. وهذا صواب لا ريب فيه.
ومقام احتجاج بعض الناس بالتنفير على ترك الحق، بعد أن اتضح لهم. وهذا تخليط لا معنى له.
وهكذا انتقلنا من حرص الدعاة على ألا ينفِّروا، إلى حرص المدعوّين على ألا يُنَفّروا!

ذكر الغزالي في (الإحياء) من وظائف المتعلم:
(.. منها ألا يدع طالب العلوم فنا من العلوم المحمودة، ولا نوعا من أنواعه إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته. ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه، وإلا اشتغل بالأهم منه فاستوفاه، فإن العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط بالبعض).
قلت: يؤسفني أن كثيرا من الطلبة في هذا العصر لا يعملون بهذه النصيحة النفيسة. وأكثر ما يدخله الضيم من العلوم عند طلبة العصر: علوم العربية، من نحو وصرف وبلاغة ولغة وإملاء وعروض وأدب.
وينتج من هذا أن الطالب يصل إلى مرتبة التصدر في مجالس الدعوة، في المساجد والفضائيات، ورصيده من علوم العربية ضعيف جدا. فحدث عن اللحن ولا حرج!
أما الذين يتصدون من هؤلاء لتصنيف الكتب العلمية، أو تدبيج المقالات الدعوية، أو تحقيق كتب التراث، فـ(ظن ''شرا'' ولا تسأل عن الخبر).

من أسباب السعادة في هذه الحياة الدنيا أن تجد لبيبا أديبا تجالسه، فتشاطره مباحث الفكر، وتذاكره بمسائل العلم، وتنتقي معه أطايب الشعر والأدب.
من وجد صديقا يحقق له هذه السعادة، فليحرص عليه حرص الشحيح على ماله!

كنت قد ذكرت في خاطرة سابقة، وجوب اعتناء الطالب بقراءة كتب السيرة والتاريخ الأصلية، وعدم الاكتفاء بما يكتبه المعاصرون.
ويظن الكثيرون أن تقوية الملكة اللغوية لا تكون إلا بالقرآن والأدب القديم. والحق أن حفظ السنة النبوية – بمعناها العام الشامل للسيرة المطهرة - وإدمان النظر في كتبها يقوي هذه الملكة أيضا. وليس المراد كلام سيد الفصحاء صلى الله عليه وسلم فقط، ولكن أيضا كلام الرواة من الصحابة فمن دونهم.
وتمر عليّ عند تدريس السيرة أو الحديث نماذج من التعبير العربي الفصيح، لا تكاد توجد في كلام المعاصرين؛ طوبى لمن اقتفاها في كتابته أو خطابته!
تأمل مثلا قصة كعب بن مالك رضي الله عنه في ذكر الثلاثة الذين خلفوا، أو تدبر دعاء سعد بن معاذ حين أصيب في غزوة الأحزاب:
(اللّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها).
واقرأ في قصة محاورة عمر للخليفة أبي بكر رضي الله عنهما، قول عمر:
(فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر ، رضي الله عنه ، بالقتال فعرفت أنه الحق).
وهكذا في أمثلة كثيرة تجمع جزالة اللفظ وجمال التركيب وصحة المعاني، لا يقارن بها كلام العصريين أبدا، بل لا يغنيك عن النظر فيها ومحاكاتها إتقانُ علوم العربية التأصيلية، من نحو وصرف وبلاغة – على عظيم نفع هذه العلوم.

تأمل هذا الكلام النفيس، فإنه مما تشد الرحال في طلبه، ويستفاد منه اليوم غاية الفائدة في مجال الدعوة إلى الله، كأن المتكلم به من أهل عصرنا، وينتقد ظواهر نعيشها ونراها!
يقول ابن القيم رحمه الله عن أهل السماع البدعي:
(ولا ريب أنهم معذورون، إذ لم يجدوا من يخاطبهم بأذواقهم، ويكلمهم على مقتضى أحوالهم، ويشاركهم في وجدهم وشأنهم، فيناديهم من مكان قريب، وإنما يبتلون بجاف جلف أبعد شيء عن معاملات القلوب وأحوالها ومنازلاتها، كثيف الطباع، موكل بإنكار ما لم يحط بعلمه، غليظ الحجاب عن شأن القوم، وما تعلقت به هممهم، فينكر عليهم إنكار من لم يذق ما ذاقوه ولا باشر ما باشروه، ولا ذاق من الشراب الذي شربوه، فأعمال القلوب عندهم كأنها شريعة منسوخة، أو كأنها لم تشرع قط، فتولدت المحنة بين قسوة هؤلاء وجمودهم، وميعان هؤلاء وانحلالهم، فإذا جمعهما مجلس كانا كما قيل:
سارت مشَرقة وسرت مُغَرّبا = شتان بين مشرق ومغرب
فكل من الطائفتين تنادي الأخرى من مكان بعيد، وصاحب الذوق المحمدي والوجد الإبراهيمي يحكم على الطائفتين ..)
ويقول في موضع آخر:
(فهذه النكتة التي أوجبت للقوم حضور السماع، ولم يأخذهم فيه لومة لائم، ولم يصادفوا من حلها ولا شفى بكلامه فيها، بل صادفوا: هذا بدعة، وهذا حرام، وهذا لا يجوز، ومن فعل ذلك فهو سفيه، ونحو هذا من القول الذي لم يصل به قائله إلى باطن الداء، ولم يضع فيه الدواء على ما يناسبه من الداء، بل داوى الداء بغير دوائه، فلم يزد المرض إلا قوة).

هذه رسالة إلى بعض طلبتنا الذين لا يعرفون كيف يشغلون أوقات فراغهم.
في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (9/129):
(وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحا للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط.
وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض. فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع).

عجيب أمر كثير من ''المتحجبات'' في هذا الزمان!
يحسبن أن الحجاب خرقة توضع على شعر الرأس، وكفى!
ما هذه العجائب التي صرنا نراها في صفوف ''الملتزمات المتدينات'': تطرية على الوجه واليدين، وسراويل ضيقة تحدد العورة، وثياب مزركشة أو شفافة تنضح بالإغواء وتتفجر منها الفتنة، ومخالطة للرجال في كل مكان، وضحك عال وتسكع في الطرقات.
ما شرع الحجاب إلا لدرء الفتنة بين الجنسين. فتغطية شعر الرأس، مع وجود هذه الظواهر الشنيعة مناقض لهذه الحكمة الشرعية أشد المناقضة.

من آداب التواصل عموما وعلى مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا – وهو شيء جربته وانتفعت به:
ألا تجيب من أساء إليك مباشرة بعد اطلاعك على كلامه، ولكن أجّل الجواب إلى أن تهدأ نفسك. وستجد أنك ستُعرض عن الإساءة رأسا، أو تجيب بكلام موزون منضبط بقيود الشرع والأخلاق.

من أفضل الكتب المختصرة الميسرة في علم الفرائض:
(تسهيل الفرائض) للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.
أسلوب سهل + دقة منهجية + أمثلة كثيرة.

كثير من الطلبة لا يطيقون الخلاف الفقهي، فإذا حدثتهم بخلاف العلماء في مسألة ما، سارع إلى سؤالك: وما الراجح؟ كأن ''مذهب الراجح'' يراد به إلغاء الخلاف القديم، أو كأن للمعاصرين من العلم ما فاقوا به الأولين، وامتلكوا العصا السحرية التي تحسم اختلافهم.
وتنبه إلى أن هم السلف الصالح لم يتجه قط إلى حسم الخلاف، ولكن إلى آداب الاختلاف وضوابطه. فيسعنا ما وسعهم، وبئس الطريق طريق يخالف نهجهم.
وراجع لهذا المعنى: (الثوابت والمتغيرات للصاوي) ص31 وما بعدها.

لا يكون الكلام فصيحا إلا إن سلمت مفرداته من الغرابة، وهي كون الكلمة وحشية غير ظاهرة الدلالة على المعنى، بحيث يحتاج إلى التنقيب عنها في المعاجم المختصة، لعدم تداولها في لغة العرب الفصحاء.
والمرجع في معرفة ذلك إلى القرآن الكريم والسنة الثابتة، ثم إلى كلام البلغاء وأهل الأدب الرفيع. فقد تكون الكلمة الفصيحة مجهولة عند عامة أهل عصرنا، لقلة ممارستهم للكلام العربي البليغ، فتعدّ عندهم من الغريب، وليست منه!
وما يزال بعض شداة الأدب اليوم يتعمدون استعمال الغريب في كتاباتهم، لإظهار البراعة اللغوية. وما تفطنوا إلى أنهم يأتون بعكس مرادهم، إذ يحكم أهل الاختصاص على ما يكتبونه بأنه مخالف لقواعد الفصاحة!
وقد أحسن صفي الدين الحِلي حين قال:
إنّما الحَيزَبونُ والدّردَبيسُ = والطَّخَا والنُّقاخُ والعَطلَبيسُ
وَالسَبنَتى وَالـحَقصُ وَالـهِيقُ وَالهِجرِسُ وَالطِرقسانُ وَالعَسطـوس
لُغَـــــةٌ تَنفرُ المَســـــامِعُ مِنهـا = حـينَ تُـروى وَتَشمَئِزُّ النُفـــــوسُ
وَقَبيــــحٌ أَن يُذكَرَ النـــافِرُ الوَحـــشِي مِنهــــا وَيُتـــرَكَ المَــــأنوسُ
أَيــنَ قَــــولـي هَــذا كَثيـبٌ قَـديـــــمٌ = وَمَقــالي عَقَـنـــقَـلٌ قَــــدمــوسُ
لَم نَــجِـد شــــادِياً يُغَـنّي ''قِفا نَبـــكِ'' عَلى الــــعودِ إِذ تُدارُ الـــكُؤوسُ
لا وَلا مَن شَــــدا ''أَقيموا بَنـــي أُمي'' إِذا ما أُديـــرَتِ الــــخَندَريــسُ
أَتُراني إِن قُـــــلتُ لِلحِـــبِّ: ''يا عِلــق'' دَرى أَنَّهُ الــــعَزيـزُ النَـفيــــسُ؟
أَو إِذا قُـــــلتُ لِلقِيـــامِ جُــــلوسٌ = عَلِمَ النــــاسُ مــا يَكونُ الجُـــلوسُ؟
خَلِّ لِلأَصمَـــعيِّ جَوبَ الفَيــافي = في نَشــــافٍ تَخِــــفُّ فيهِ الــرُؤوسُ
وَسُــــؤالَ الأَعرابِ عَن ضَيعَــةِ اللَفــظِ إِذا أشـكلَت عَليهِ الأُســوسُ
دَرَسَـــت تِلكُمُ اللُغــاتُ وَأَمســى = مَذهَبُ النـــاسِ ما يَقــولُ الرَئـــيسُ
إِنَّمــــا هَــــذِهِ الـقُلـــوبُ حَــــديـدٌ = وَلَـــذيذُ الأَلـــفـــــاظِ مِغنـــــاطيـسُ
وقد عقد صاحب (صبح الأعشى) فصلا طيبا لهذا الباب، وأورد فيه أمثلة كثيرة من متعمدي الغريب. أتحفكم منها بواحدة:
(كانت امرأة تأكل الطين، فحصل لها بسببه إسهال مرضت منه. وكان لها ولد يتكلم بالغريب، فكتب رقاعا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام فيها:
'' صِينَ امرُؤ ورُعي دعا لامرأة إنقَحْلَة مُقْسئنة قد مُنيت بأكل الطرموق فأصابها من أجله الاستمصالُ أن يَمُن الله عليها بالاطْرِغشاش''
فكل من قرأ رقعته دعا عليه ولعنه ولعن أمه!).

تدبر قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله).

يشترط في المجتهد العلم بآيات الأحكام، واشتهر عند الأصوليين أنها نحو خمسمائة آية.
لكن قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير:
(وكأنهم أرادوا ما هو مقصود به الأحكام بدلالة المطابقة، أما بدلالة الالتزام: فغالب القرآن، بل كله؛ لأنه لا يخلو شيء منه عن حكم يستنبط منه).
ولذلك، فعلى الرغم من هذا التقدير النظري، فإنه لا يمكن - من الناحية العملية - أن يكون المجتهد غير عالم بآيات القرآن جميعها. وهذا الذي عليه الأئمة في تاريخ الأمة كلها.
وبطل بهذا شيء مما يستند إليه بعض المتصدرين اليوم للفتوى والاجتهاد قبل التأهل التام.

لا أعرف في متون علمي العروض والقوافي أفضل من منظومة (مجدد العوافي من رسمي العروض والقوافي) للشيخ محمد بن عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي.
وميزتها:
- الاختصار: فإنها في أقل من مائتي بيت، خلافا لنحو نظم ابن عبدم أو ألفية الآثاري.
- الشمول: فإنها لم تهمل شيئا من مباحث الفن، حتى ما كان منها من الزوائد التي قد لا يحتاجها الطالب، مثل ذكر الدوائر العروضية.
- جمال التعبير وسلاسة النظم: وهذا في فن جاف كالعروض أمر نادر.
وعيبها: أنني لا أعرف لها شرحا مطبوعا. وعليها طرة مختصرة جدا للناظم، موجودة على الشبكة. ولي عليها شرح صوتي في أربعة عشر درسا.
وأنا الآن أشتغل على شرح مكتوب لها، يسر الله إتمامه ونشره.

ودعائي في هذه اللحظة – على حد قول أخينا الشيخ خالد الأزهري السلفي – لشيخي أحمد مزيد البوني الشنقيطي، فإن له الفضل – بعد الله عز وجل - في التعريف بهذا النظم، ونشره على الشبكة مع طرته، بعد أن كان مغمورا لا يكاد يعرفه أحد خارج شنقيط.

هل سبق لك أن اختصرت كتابا علميا؟
إن لم تفعل قط، فإنك تضيع على نفسك علما كثيرا، فإن اختصار الكتب من أفضل وسائل التعلم، لما ينتجه من ترسيخ الفوائد في الأذهان، واستخلاص زبدة العلم من بين ركام الاستطرادات والزوائد التي لا يكاد يخلو منها كتاب.
وليس المقصود نشر مختصرك بين الناس، وإنما هو لك خاصة. ولتعتن بالكتب المجمع على فضلها وغزارة علمها.

من أغلاط بعض المتصدرين لتدريس العلوم الشرعية:
أن الواحد منهم يَدرُس المتن ويتقنه، فيظن أنه قادر على تدريسه. والصواب أنك لا تستطيع تدريس متن ما، إلا إذا كنت متقنا لما فوقه ولو بمرحلة واحدة على الأقل، (فإن أتقنت الشذور أمكنك تدريس الأجرومية مثلا) وذلك لتكون قادرا على التفصيل عند الحاجة، والإجابة عن الاعتراضات التي تطرق أذهان الطلبة، وبيان ما يحتاج إلى تخصيص أو تقييد، ونحو ذلك.

من الخيانة العلمية أن ترد على طائفة بأدلة، تعرف أنهم يعلمونها جيدا وقد ردوا عليها مرارا. ثم أنت لا تتكلف الرد على ردودهم هذه، كأنها غير موجودة أصلا!
والداهية الشؤمى أن تنشر كلامك على عوام الناس على أنه إبداع منك في الاستدلال، وأن المردود عليهم لا يملكون جوابا.
واحذر أن تغتر بتصفيق هؤلاء العوام في مثل هذا الموقف، فإن وفاقهم كعدمه.
ولا يصح – في الختام – إلا الصحيح!

من أفضل الكتب المدرسية في علم البلاغة: (المنهاج الواضح للبلاغة) للاستاذ حامد عوني - من منشورات مكتبة العلوم والحكم بالمدينة (الناشر الأصلي: مكتبة الجامعة الأزهرية).
وكثير من الطلبة غافلون عنه، مع عظيم فائدته، خاصة من جهة الشرح المستفيض، والتمرينات الكثيرة.

ينبغي أن تحدد غايتك من القراءة: أهي الثقافة العامة أم التمكن العلمي؟
وعلى وفق هذه الغاية: يكون انتقاء الكتب، وتحديد مدة القراءة اليومية، واختيار طريقة القراءة.
- ومن الغلط البين: أن يجعل طالب العلم معظم قراءاته في الكتب التثقيفية السهلة، كالروايات والسير العصرية وما أشبهها. وطالب العلم أعلى همة من أن يختار السهل الميسور، وهو يعلم أن العلم لا ينال بالراحة.
- ومن الغلط أيضا: أن يجعل للقراءة فضولَ وقته، بعد أن ينتهي من مشاغله جميعها. والأصلُ أن تزاحم المطالعة هذه المشاغل، وتستأثر ببعض الوقت الذي لولاها لقُضي في الصوارف الحياتية اليومية.
- ومن الغلط أخيرا: أن يجعل قراءاته كلها من نوع القراءة الحرة السريعة، ولا يعتني بالقراءة العلمية البطيئة، المقرونة بالاختصار والمذاكرة والحفظ.

يسألني في المسائل الفقهية السهلة، سؤال الجاهل المسترشد ..
ثم أراه يتكلم في القضايا العقدية والفكرية والمنهجية، كلام المجتهد المجدد ..
أصارت هذه القضايا في أعراف الناس اليوم، أقرب منالا من أحكام الطهارة والصلاة، وما يلتحق بها؟

أتدري ما حال الذي يتقن قواعد النحو والصرف، لكنه لا يمارس اللغة قراءة وخطابة وكتابة؟
إنه كالذي يتقن قوانين كرة القدم، ولكنه لا يمارسها قط.
فهل يجعل منه ذلك لاعبا جيدا؟
قطعا: لا، فهو يحتاج لأمرين:
أولهما: موهبة فطرية (أو قل: توفيق من الله)، وهذا لا كلام لنا فيه.
والثاني: الممارسة الكثيرة.
وفي حال تعلم اللغة العربية، يحتاج إلى إدمان القراءة في كتب الأدب، والتمرس على النطق العربي الفصيح، والدربة على الكتابة البليغة السالمة من أدران اللحن والركاكة والعامية.
أما القواعد المجردة فإنها لا تكفي.

من أصعب المتون حفظا زيادات الحسن بن زين على لامية الأفعال في الصرف، مع أن الفائدة في الأبيات التي فيها نظم الأفعال الشاذة عن قاعدة ما، ليست كبيرة بالمقارنة مع الجهد الذي يبذل في حفظها، لأن الطالب - وإن حفظ تلك الأفعال - لا يكون محيطا بجميع ما في اللغة من نظائرها. ولذلك احتاج جماعة من العلماء إلى نظم زيادات على تلك الزيادات!

لو كل كلب عوى ألقمته حجرا = لأصبح الصخر مثقالا بدينارِ
الحصافة الفكرية أن تعرف على من ترد، ومتى ترد عليه بالضبط.
وضدها أن ترد على كل متسلق باحث عن الشهرة، ولو كان في ذلك نشر الشبهة، وإقرار الحوار فيما لا يجوز أن يكون فيه حوار أصلا!

قال أبو العباس الناصري في كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى) 2/60 في وصف حال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله:

(وكان رحمه الله زاهدا في زينة الدنيا وزهرتها، ورعا متقشفا، لباسه الصوف، لم يلبس قط غيره. ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها، مقتصرا على ذلك، لم ينقل عنه مدة عمره – على ما منحه الله من سعة الملك وخوله من نعمة الدنيا. وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة، وأسقط ما دون الأحكام الشرعية. وكان يسير في أعماله بنفسه، فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة. وكان محبا للفقهاء وأهل العلم والفضل، مكرما لهم، صادرا عن رأيهم، يجري عليهم أرزاقهم من بيت المال. وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعا، كثير الحياء جامعا لخصال الخير. رحمه الله تعالى ورضي عنه).

وقال في الصحيفة نفسها:
(ولم ير في بلد من بلاده ولا عمل من أعماله على طول أيامه رسم مكس ولا خراج، لا في حاضرة ولا في بادية، إلا ما أمر الله به، وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار، وجزيات أهل الذمة، وأخماس الغنائم).

قلت: هذا الملك العادل المجاهد من مفاخر التاريخ الإسلامي كله، ولا يوازيه من الملوك بعد عصر التابعين إلا أفراد قلائل، هم أندر من الكبريت الأحمر.
فكيف إذا أضفت إلى ترجمته أنه كان على عقيدة السلف الصالح – رضوان الله عليهم- ما عرف الكلام ولا أهله؟ هذا شيء لا يكاد يعرف عن ملوك العدل بعد زمن السلف الصالح.
فإن احتاج الأمازيغ – وأنا منهم - إلى قدوة صالحة منهم، فلتكن في هذا الملك العادل الصالح، وفي أضرابه من أئمة الهدى – وما أكثرهم في تاريخ المغرب الإسلامي - لا في أمثال كسيلة والكاهنة، ممن حقهم أن يطمروا في مزابل التاريخ.
والله المستعان.

جرب أن تحصي عدد الأسطر أو الكلمات التي تقرأها كل يوم - في غير الكتب - ما بين الشبكة العنكبوتية (والفيسبوك خصوصا) والصحف والمجلات والمكتوب على جهاز التلفاز ونحو ذلك.

ستجد أن حجم ما تطالعه كبير جدا، وأنك لست صادقا عندما تدّعي أنك لا تستطيع ممارسة القراءة الكثيرة!

لكنني أدعوك ألا تقنع بهذه القراءة المتناثرة، فإنها لا تثمر إلا القليل، إذا قورنت بالقراءة المنهجية الواعية في الكتب، وهي القراءة التي تؤسس العقل، وتشحذ الذهن، وتنمي قدرة التفكير والإبداع.

إن كان الذي يحبب إليك هذه القراءة هو التنوع أو السهولة، ففي الكتب ما هو منوع سهل، يلائم ذوقك ومستواك المعرفي، لكنك لا تكلف نفسك عناء البحث عنها.

كم تخصص لزيارة المكتبات ومعارض الكتب والخزانات العامة من الجهد والوقت؟
كم تخصص لاقتناء الكتب من مال في الشهر أو السنة؟
كم تخصص من الوقت في اليوم للقراءة الواعية المثمرة؟
هذه الأسئلة - وغيرها كثير - تحتاج إلى أجوبة صريحة، تثمر عملا جديا، ينفع الفرد والأمة.