ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    حديث (إنما الأعمال بالنيات...)

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16791
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39117
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    حديث (إنما الأعمال بالنيات...) Empty حديث (إنما الأعمال بالنيات...)

    مُساهمة من طرف أحمد السبت أغسطس 17, 2013 11:44 am

    عن أميرِ المؤمنينَ أبي حفصٍ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
    رواه إماما المحدِّثينَ: أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ المغيرةِ ابنِ بَرْدِزْبَه البُخاريُّ.
    وأبو الحُسَيْنِ مسلِمُ بنُ الحجَّاجِ بنِ مُسلمٍ القُشيْريُّ النَّيْسَابوريُّ في (صحيحيهما) اللَّذين هما أصحُّ الكتُبِ الْمُصَنَّفةِ.
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16791
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39117
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    حديث (إنما الأعمال بالنيات...) Empty رد: حديث (إنما الأعمال بالنيات...)

    مُساهمة من طرف أحمد السبت أغسطس 17, 2013 11:45 am

    شرح الأربعين النووية للشيخ المحدث: محمد حياة السندي

    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الحمدُ للهِ حَمْدًا يَلِيقُ بهِ، والصلاةُ والسلامُ على حَبِيبِهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، أَمَّا بَعْدُ:
    فهذا شرحٌ لطيفٌ على (الأربعينَ) الأحاديثِ التي جَمَعَهَا الفقيهُ مُحْيِي الدينِ أبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ شَرَفٍ النَّوَوِيُّ الشافعيُّ الزاهِدُ الوَرِعُ.

    تَرْجَمَةُ الصَّحابيِّ رَاوِي الحَديثِ:
    أميرُ المؤمنينَ أَبو حَفْصٍ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضيَ اللهُ تَعالى عنْهُ-، ابنِ نُفَيْلِ بنِ عبْدِ العُزَّى العَدَوِيُّ القُرَشِيُّ.
    يَجْتَمِعُ معَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كعبِ بنِ لُؤَيٍّ.
    كُنْيَتُهُ: أبو حَفْصٍ.وَلَقَبُهُ: الفاروقُ لِفُرْقَانِهِ بينَ الحقِّ والباطلِ بإِسْلاَمِهِ؛ إِذْ أَمْرُ المسلِمينَ كانَ قبْلَهُ على غايةِ الخَفَاءِ، وبعدَهُ على غايةِ الظُّهُورِ.
    أَسْلَمَ بعدَ أربعينَ رَجُلاً وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً سَنَةَ ستٍّ منَ النُّبُوَّةِ.
    وَبُويِعَ لَهُ بالخلاَفةِ يومَ موتِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يومَ الثُّلاَثَاءِ، لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ ثلاثَ عَشْرَةَ مِنَ الهجرةِ.
    وَمَاتَ شَهِيدًا في المدينَةِ، يومَ الأربِعاءِ لأربعٍ من ذِي الحِجَّةِ سنَةَ ثَلاثٍ وعِشْرِينَ منَ الهِجْرَةِ، وهُوَ ابنُ ثلاثٍ وستِّينَ على الصَّحِيحِ.

    الشَّرحُ:
    قالَ مُنْفَرِدًا عنْ غَيرِهِ بهذَا الحديثِ : سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حالَ كَوْنِهِ يَقُولُ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) أَيْ: لا عِبْرَةَ للأعمالِ التي يُمْكِنُ أَنْ تكونَ مَحَلاًّ لِلثَّوَابِ عندَ اللهِ تَعَالَى إلاَّ بالنِّيَّاتِ.
    فالمطْلُوبَاتُ:
    - إنْ عُمِلَتْ للهِ تَعَالَى قُبِلَتْ.
    - وإنْ عُمِلَتْ لغيرِهِ رُدَّتْ، وَرُبَّمَا اسْتَحَقَّ عامِلُها العِقَابَ.
    - وإِنْ خَلَتْ عَن النِّيَّةِ صَارَتْ عَبَثًا.
    والمُباحاتُ التي يُمْكِنُ أنْ يُتَوَصَّلَ بِهَا إلى الخَيْرات:
    - إنْ فُعِلَتْ للتَّوصُّلِ إلى الشَّرِّ كانَتْ وَبَالاً على أَرْبَابِهَا.
    - وإنْ خَلَتْ عنِ النِّيِّةِ كانَتْ عَبَثًا.
    والمَنْهِيَّاتُ:

    - إنْ تُرِكَتْ للهِ كانتْ حَسَنَاتٍ.
    - وإنْ تُرِكَتْ لِغَيْرِهِ كانتْ مُهْمَلَةً.

    - وإنْ فُعِلَتْ للهِ يُخَافُ على فَاعِلِهَا ذَنْبٌ عظيمٌ.
    (( وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) لا مَا نَوَى غَيْرُهُ؛ لأنَّ عَمَلَ كلِّ عاملٍ مُعْتَبَرٌ بِنِيَّتِهِ لا بِنِيَّةِ غَيْرِهِ.
    فمِنْ هُنَا إذا عَرفْتَ ما تَقَدَّمَ، فَاعْلَمْ أنَّ: ((مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ)) تَرْكُهُ دارَ الكُفرِ والعصْيَانِ، للتَّوَجُّهِ ((إِلَى-مَحَلِّ رِضَا- اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)) لا إلى غَيْرِهَا، وهُو مَمْدُوحٌ على ذلكَ في الأُولَى والعُقْبَى، وَمُثَابٌ عليْهَا جَزَاءً حَسَنًا.
    (( وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا))
    -مِنْ غيرِ تَنْوِينٍ- ((دُنْيَا يُصِيبُهَا)) أيْ: يَقْصِدُ حُصُولَهَا أَصَابَهَا، أو لمْ يُصِبْهَا.
    (( أَوْ)): كانَتْ هِجْرَتُهُ ((لاِمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا)) يُرِيدُ نِكَاحَهَا أَوْ لاَ، وإنَّمَا خَصَّ نِكَاحَ المرأةِ مع أنَّهُ منَ الدُّنيا؛ لأنَّه من أعظمِ أُمورِهَا ومَقَاصِدِهَا، وهذا مِن بابِ التخصيصِ بعدَ التعميمِ.
    ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) من الدُّنْيَا والمَرْأَةِ، لا إلى اللهِ ورسولِهِ، وهوَ مَلُومٌ عليها غيرُ مُثَابٍ.
    وهذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الدينِ، يَنْبَغِي لكلِّ عبدٍ أنْ يُرِيدَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى في أعمالِهِ مُجَانِبًا عَمَّا سِوَاهُ؛ إِذ المُخْلِصُ رابحٌ والمُرَائِي خَاسِرٌ، ولا يَتَأَتَّى الإخلاصُ إلاَّ مِمَّنْ يَعْلَمُ عَظَمَةَ اللهِ تَعَالى وَمُرَاقَبَتَهُ عَلى خَلْقِهِ.
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16791
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39117
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    حديث (إنما الأعمال بالنيات...) Empty رد: حديث (إنما الأعمال بالنيات...)

    مُساهمة من طرف أحمد السبت أغسطس 17, 2013 11:45 am

    المنن الربانية لفضيلة الشيخ: سعد بن سعيد الحجري

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    الْمُقَدِّمَةُ
    الحمدُ للَّهِ الذي علَّمَ بالقلمِ، علَّمَ الإنسانَ ما لمْ يَعْلَمْ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، الذي أسبغَ علينا النِّعَمَ وجعَلَنَا منْ خيرِ الأُممِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنَا مُحَمَّداً عبْدُهُ ورسُولُهُ، رفَعَ اللَّهُ بهِ عن الأُمَّةِ السَّقَمَ، وأزالَ الصَّمَمَ، صَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عليهِ كُلَّمَا زادَ العِلْمُ وقلَّ الجَهْلُ، وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ ومَن اتَّبَعَ هُدَاهُ إلى يومِ الدِّينِ.
    أمَّا بعدُ:
    فإنَّ حاجةَ الناسِ اليومَ إلى العلمِ الشَّرْعِيِّ الذي يُنَوِّرُ البصائرَ، ويُلِينُ القلوبَ، ويَهْدِي إلى الصراطِ المستقيمِ، فهوَ زادُ الأرواحِ، وخيرُ الأرباحِ، والدليلُ على الفلاحِ.
    وقدْ أنزلَ اللَّهُ الكُتُبَ للعلمِ والتعليمِ، وأرسلَ الرُّسلَ مُعَلِّمِينَ، ورفَعَ قَدْرَ العلماءِ، قالَ تعالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المُجَادَلَة: 11].
    وخيرُ المَعادنِ مَعادِنُ العُلماءِ، قالَ صلى الله عليه وسلم: ((... فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا)).
    وقالَ: ((مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
    وتعليمُ العلمِ مِنْ أعظمِ القُرُبَاتِ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ الإنسانَ يَنَالُ بهِ الخشيَةَ، قالَ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28].
    ويَكْثُرُ بهِ الأجرُ، قالَ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ تَبِعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً)).
    ويَدومُ بهِ العملُ، قالَ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لهُ)).
    ولأهَمِّيَّةِ العلمِ والتعليمِ سَاهَمْتُ بجُهْدِ المُقِلِّ، إذْ قُمْتُ بشرحِ (الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ) في دَوْرَاتٍ علميَّةٍ في أَبْهَا ومُحَافَظَاتِهَا، وقدْ طَلَبَ مِنِّي الكَثِيرُ منْ طُلاَّبِ العلمِ إخراجَ هذا الشرحِ في كتابٍ؛ ليكونَ أحفظَ للعلمِ وأَدْعَى إلى نَشْرِهِ وتيسيرِ الحصولِ عليهِ، فَأَجَبْتُ لذلكَ، وسَمَّيْتُهُ: (الْمِنَنُ الرَّبَّانِيَّةُ فِي شَرْحِ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ).
    أَسْأَلُ اللَّهَ أنْ يَنْفَعَ بهذا العلمِ، وأنْ يَجْعَلَهُ خالصاً لوجْهِهِ الكريمِ، وأنْ يجْعَلَهُ من العملِ الذي لا يَنْقطِعُ، وصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ.
    قالَه بِلِسَانِهِ وكَتَبَهُ بقَلَمِهِ الفقيرُ إلى عَفْوِ رَبِّهِ سَعْدُ بنُ سَعِيدٍ الحَجَرِيُّ

    أَبْهَا آلُ غَلِيظٍ 11/5/1422هـ

    وأُحِيطُ القارئَ عِلْماً أَنَّنِي لمْ أُورِدْ إلاَّ حديثاً صحيحاً، وإنْ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ حَذَفْتُهُ أوْ بَيَّنْتُ عِلَّتَهُ، وقد اجْتَهَدْتُ في ذلكَ ما اسْتَطَعْتُ، وما تَوْفِيقِي إلاَّ باللَّهِ عليهِ تَوَكَّلْتُ وإليهِ أُنِيبُ.
    بِسْمِ اللَّهِ الَّرحْمَنِ الرَّحِيمِ(المِنَنُ الرَّبَّانِيَّةُ في شرحِ الأربعينَ النَّوَوِيَّةِ)
    سُمِّيَت (الأربعينَ النَّوَوِيَّةَ)؛ لأنَّها جُمِعَتْ من اثْنَيْنِ وأربعينَ حديثاً، والذي دَعَا المُؤَلِّفَ إلى جَعْلِهَا أربعينَ فقطْ؛ إشارةً إلى حديثٍ ضعيفٍ، وهوَ: ((مَنْ حَفِظَ مِنْ أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثاً مِنْ أَمْرِ دِينِهَا بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زُمْرَةِ الْفُقَهَاءِ)).
    واعْتَذَرَ بعدَ ذلكَ لضعفِ الحديثِ، وقالَ: (مَا فَعَلْتُ ذلكَ إلاَّ لحديثِ: ((لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)).
    ولحديثِ: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءاً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا)).
    وقدْ زادَ عليها ابنُ رَجَبٍ ثمانيَةَ أحاديثَ في (جَامِعِ العُلُومِ والحِكَمِ)؛ ليكونَ المجموعُ خمسينَ حَدِيثاً.
    ترجمةُ الإمامِ النَّوَوِيِّ:
    هوَأَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ شَرَفِ بنِ مَقْرِي بنِ حسنٍ النَّوَوِيُّ نسبةً إلى نَوَى، وهيَ قريَةٌ منْ قُرَى حَوْرَانَ في سُورِيَّا، وُلِدَ في شهرِالمُحَرَّمِ من العامِ الواحدِ والثلاثينَ بعدَ السِّتِّمِائَةِ لِلْهِجْرَةِ منْ أَبَوَيْنِ صَالحيْنِ، وقدْ جدَّ في الطلبِ حتَّى حازَ قَصَبَ السَّبْقِ في ذلكَ.
    وقدْ تَمَيَّزَتْ حَيَاتُهُ بثلاثةِ أُمُورٍ:
    أَوَّلاً: العلمُ.
    وتَمَيَّزَ عِلْمُهُ بثلاثةِ أُمُورٍ:
    1- الجِدُّ في طلبِ العلمِ قِراءةً وسماعاً وتِرْحَالاً، حتَّى وَجَدَ لَذَّاتِهِ، وكانَ لهُ في اليومِ اثْنَا عشرَ دَرْساً.
    2- سَعَةُ عِلْمِهِ وثَقَافَتِهِ؛ إذْ إنَّ لهُ دُرُوساً في مُخْتَلَفِ الفُنونِ.
    3- غَزَارَةُ إِنْتَاجِهِ وتَأْلِيفِهِ، فَلَهُ (شَرْحُ مُسْلِمٍ)، و(المجْمُوعُ)، و(رِيَاضُ الصالحِينَ)، و(الأرْبَعِينَ)، وغَيْرُها.
    ثانياً: الزُّهْدُ في الدُّنيا بجميعِ ما فيها والعملُ للآخرةِ.
    ثالثاً: الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ والدعوةُ إلى اللَّهِ تعالى.
    وَفَاتُهُ:
    تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ بعدَ السِّتِّمِائَةِ لِلْهِجْرَةِ، فلمْ يُعَمَّرْ سِوَى خمسٍ وأربعينَ سنةً.
    ***
    الحديثُ الأوَّلُ
    عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))، مُتَّفَقٌ عليهِ.
    مَكَانَةُ الحديثِ ومَنْزِلَتُهُ في الدِّينِ:
    قِيلَ: هذا الحديثُ نِصْفُ الدِّينِ، والآخرُ حَدِيثُ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))؛ لأنَّ هذا الحديثَ يَتَعَلَّقُ بالباطنِ، وحديثَ عائشةَ -رَضِيَ اللَّهُ- عَنْهَا يَتَعَلَّقُ بالظاهرِ.
    وقيلَ: بلْ هوَ ثُلُثُ الدِّينِ معَ حديثِ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ...))الحديثَ.
    وقيلَ: رُبْعُهُ
    معَ حديثِ: ((يُجْمَعُ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً...)) الحديثَ.
    وقيلَ غيرُ ذلكَ.
    وهذا الحديثُ يُمَثِّلُ الشرطَ الأَوَّلَ منْ شُرُوطِ قَبُولِ العملِ، وهوَ الإخلاصُ للَّهِ ربِّ العالمينَ.
    تَرْجَمَةُ الرَّاوِي:
    هوَ أميرُ المؤمنينَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ بنِ نُفَيْلٍ القُرَشِيُّ العَدَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهُ، أسلمَ في السنةِ السادسةِ مِن البَعْثةِ بعدَ حمزةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ منْ تَأَثُّرِهِ بالقرآنِ، وَحَسُنَ إِسْلامُهُ، وكانَ وَرِعاً تَقِيًّا شُجاعاً.
    وافقَ رَبَّهُ في ثلاثةِ مَوَاضِعَ:
    - في المَقَامِ.
    - والحِجابِ.
    - وأَسْرَى بَدْرٍ.
    وقيلَ: في قولِهِ تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ}الآيَةَ [التحريم: 5].
    تولَّى الخلافةَ بعدَ أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ. وهوَ:
    - أَوَّلُ خليفةٍ دُعِيَ بأميرِ المؤمنينَ.
    - وأَوَّلُ مَنْ أرَّخَ بالهجرةِ.
    - وأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الناسَ على صلاةِ التراويحِ.
    - وأَوَّلُ مَنْ عَسَّ (وَهِيَ: حراسةُ المدينَةِ).
    - وأَوَّلُ مَنْ حملَ الدِّرَّةَ وأدَّبَ بها، وفتحَ الفتوحَ ودَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، ومَنَاقِبُهُ كثيرةٌ.
    اسْتُشْهِدَ في العامِ الثالثِ والعشرينَ من الهجرةِ على يَدِ المَجُوسِيِّ أبي لُؤْلُؤَة.
    موضوعُ الحديثِ:
    أَهَمِّيَّةُ النِّيَّةِ في العملِ.
    المُفْرَدَاتُ:
    (أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ) لَقَبٌ يُلَقَّبُ بهِ الخليفةُ الذي يَتَوَلَّى إِمْرَةَ المؤمنينَ.
    ويُقالُ:
    - هِرَقْلُ لِمَلِكِ الرُّومِ.
    - وكِسْرَى لِمَلِكِ الفُرْسِ.
    - وفِرْعَوْنُ لِمَلِكِ مِصْرَ.
    - والنَّجَاشِيُّ لِمَلِكِ الحبشةِ.
    - وتُبَّعٌ لِمَلِكِ اليمنِ.
    (أبي حَفْصٍ) الحفصُ هوَ: الأَسَدُ، ويُقالُ لهُ: أبو الحارثِ، وهوَ كُنْيَةٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ؛ لِشَجَاعَتِهِ وإِقْدَامِهِ؛ إذْ حَتَّى الجِنُّ تَهَابُهُ وتَفِرُّ منهُ وتَسْلُكُ غيرَ سَبِيلِهِ.
    (رَضِيَ اللَّهُ عنهُ) هذا خبرٌ بِرِضْوَانِ اللَّهِ تعالى عليهِ:
    - لأنَّهُ مُبَشَّرٌ بالجَنَّةِ.
    - ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى قَصْرَهُ في الجَنَّةِ.
    - ولأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ...} الآيَةَ [الفتح: 18]، وكانَ عمرُ منهم.
    (سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ)
    (سَمِعْتُ) إِحْدَى صِيَغِ أداءِ الحديثِ، بلْ هيَ أَعْلاها وأقْوَاها وأَثْبَتُها، ومِثْلُها حَدَّثني.
    - ويَلِيهَا: قَرَأْتُ على الشيخِ ، وأَخْبَرَنِي قراءةً عليهِ وأَخْبَرَنِي.
    - ويَلِيهَا: قرأَ عليهِ وأنا أَسْمَعُ وقَرَأْنَا عليهِ وأَخْبَرَنَا.
    - ويَلِيهَا: أَخْبَرَنِي إِجَازَةً وحَدَّثَنِي إجازةً وأَنْبَأَنِي عنْ فلانٍ...
    (إِنَّمَا): أداةُ حصرٍ تفيدُ ثبوتَ الحكمِ في المحصورِ وتُقَوِّي الحكمَ المذكورَ بعْدَها وتُؤَكِّدُهُ.
    والحصرُ: هوَ تخصيصُ شيءٍ بشيءٍ.
    (الأعمالُ): جَمْعُ عملٍ، و(أَلْ) للجِنْسِ؛ أيْ: جنسِ الأعمالِ، فَتَدْخُلُ فيهِ جميعُ الأعمالِ.
    والعملُ: هوَ ما يَقومُ بهِ الإنسانُ مِنْ قولٍ أوْ فعلٍ أوْ تَرْكٍ مقصودٍ، مثلُ قراءةِ القرآنِ، والوضوءِ، وتركِ السرقةِ قَصْداً.
    (بِالنِّيَّاتِ): جمعُ نِيَّةٍ.
    والنِّيَّةُ: هيَ القصدُ؛ أيْ: يَقْصِدُ الشيءَ مُقْتَرِناً بعَمَلِهِ، فقدْ يَقْصِدُ بالعملِ رِيَاءً أوْ سُمْعَةً أوْ مَالاً أوْ مَنْصِباً أوْ دُنْيَا أوْ غَيْرَها.
    ومَحَلُّ النِّيَّةِ القلبُ، فلا تَخْرُجُ من القلبِ، ولوْ تَلَفَّظَ بها لكانَ مُبْتَدِعاً، فلا يقولُ: نَوَيْتُ الصلاةَ أوِ الزكاةَ أوْ نَحْوَهَا.
    والباءُ للمُصَاحَبَةِ؛ أيْ: أنَّ النِّيَّةَ تُصَاحِبُ العملَ.
    فلا يُرادُ من الوضوءِ النظافةُ بل العبادةُ، وأنْ يكونَ لِلَّهِ.
    ولا يريدُ بالصلاةِ الرياضةَ.
    ولا بالصومِ التخفيفَ من الوزنِ.
    ولا بالحَجِّ السياحةَ والنُّزْهةَ، وإنَّما لأجلِ اللَّهِ تعالى.
    وقدْ رُوِيَت (بِالنِّيَّةِ) بلفظِ الإفرادِ، و(أَلْ) فيها للجنسِ، وليسَ المرادُ بها العهدَ ولا التعريفَ بمعنى الجمعِ.
    والنِّيَّةُ تقعُ في كلامِ العلماءِ بمَعْنَيَيْنِ:
    أَوَّلاً: تمييزُ العباداتِ بَعْضِها عنْ بعضٍ؛ كَتَمْيِيزِ الظُّهْرِ عن العَصْرِ، والفرضِ عن النفلِ، ونحوِ ذلكَ.
    ثانياً: تمييزُ المقصودِ بالعملِ هلْ هوَ للَّهِ وَحْدَهُ أمْ لغَيْرِهِ؟
    (وإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى)
    (امْرِئٍ) أيْ: إنسانٍ، فيَشْملُ الذَّكَرَ والأُنْثَى.
    ولا يَخْتَصُّ بالذَّكَرِ؛ لأنَّ الأحكامَ عامَّةٌ للمُكَلَّفِينَ.
    (مَا نَوَى): أي: الذي نَوَى وقصدَ، فإنْ أرادَ عبادةً كانتْ عبادةً، وإنْ أرادَ غيرَ ذلكَ فهوَ بِنِيَّتِهِ.
    (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ)
    الهِجرةُ في اللُّغةِ: التَّرْكُ،مِنْ قَوْلِكَ: هَجَرْتُ كذا؛ أيْ: تَرَكْتُهُ.
    وشَرْعاً: مُفَارَقَةُ دارِ الكُفْرِ إلى دارِ الإسلامِ خوفَ الفتنةِ على الدِّينِ.
    وأقسامُ الهجرةِ ثلاثةُ أقسامٍ:
    أَوَّلاً: هجرةُ المَكانِ، إذا انتقلَ المسلمُ منْ بلدِ الكفرِ أوْ بلدِ الفسوقِ والعصيانِ إلى بلدٍ لا يكونُ فيهِ شيءٌ منْ ذلكَ.
    وتكونُ واجبةً إذا كانَ الإنسانُ لا يَسْتَطِيعُ إظهارَ دِينِهِ.
    أَمَّا إذا كانَ يستطيعُ فلا تَجِبُ، بلْ تكونُ مُسْتَحَبَّةً.
    وأَمَّا عكسُ الهجرةِ وهوَ الانتقالُ منْ بلدِ الإسلامِ إلى بلدِ الكفرِ
    فَيَجُوزُ بثلاثةِ شروطٍ:
    (أ) أنْ يكونَ عِنْدَهُ علمٌ يَدْفَعُ بهِ الشُّبُهَاتِ، ويَدْحَضُ بهِ حُجَجَ الأعداءِ، ويُظْهِرُ بهِ دِينَ الحقِّ.
    (ب) أنْ يكونَ عِنْدَهُ دِينٌ يَحْمِيهِ من الشَّهَوَاتِ.
    (ج) أنْ يكونَ في حاجةٍ إلى ذلكَ؛ كالمرضِ أوْ عِلْمٍ لا يُوجَدُ إلاَّ في بلدِ الكفرِ والحَاجَةُ تَدْعُو لهُ، أوْ ما شَابَهَ ذلكَ.
    ثانياً: هِجْرةُ العملِ، وهوَ أنْ يَهْجُرَ الإنسانُ ما نَهَى اللَّهُ عنهُ مِن المعاصي والفُسوقِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ)).
    ثالثاً: هِجْرةُ العاملِ؛ أيْ: هَجْرُ الإنسانِ لأهلِ المعاصي.
    وهذهِ قدْ تَجِبُ إذا تَرَتَّبَ عليها مَصْلَحَةٌ
    كهجرِ أهلِ الفسوقِ والعصيانِ الذينَ يُجَاهِرُونَ بالمعصيَةِ، وأَمَّا إذا لمْ يَتَرَتَّبْ مصلحةٌ فلا.
    والمُهَاجِرُ أقسامٌ:
    (أ) مَنْ هاجَرَ مِنْ بَلَدِ الكُفْرِ إلى بلدِ الإسلامِ يريدُ اللَّهَ والدارَ الآخرةَ،
    فهوَ المؤمنُ باللَّهِ حَقًّا والمُخْلِصُ في هِجْرَتِهِ.
    (ب) مَنْ هاجرَ لأجلِ مالٍ؛ إذْ سَمِعَ بِوُجُودِ رِبْحٍ في بلدِ الإسلامِ، فَهِجْرَتُهُ للمالِ.
    (ج) مَنْ هَاجَرَ لأجلِ امرأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ للنِّكَاحِ.
    (إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ): أيْ: إلى دِينِ اللَّهِ تعالى والوصولِ إلى رِضْوَانِهِ والجَنَّةِ.
    (وَرَسُولِهِ): المرادُ بهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
    ومعنى الهجرةِ لهُ:
    - في حَيَاتِهِ: أيْ: صُحْبَتُهُ والتَّعَلُّمُ منهُ والاقتداءُ بهِ ونُصْرَتُهُ.
    - وأَمَّا بعدَ مَوْتِهِ: فالهجرةُ إلى اتِّبَاعِهِ ومكانِ إقامةِ شَرْعِهِ.
    (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)
    أيْ: قدْ بَلَغَ الغايَةَ التي لا أَسْمَى منها ولا أجلَّ، وهيَ الوصولُ إلى اللَّهِ ورسُولِهِ.
    وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ مَنْ أرادَ اللَّهَ ورسُولَهُ فهوَ بِنِيَّتِهِ، ومَنْ أرادَ غيرَ اللَّهِ فهوَ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ.
    (دُنْيَا يُصِيبُهَا) الدُّنْيَا: هيَ الحياةُ الأُولَى مِنْ حياةِ الإنسانِ.
    ولهُ حَيَاتَانِ:
    حياةٌ أُولَى: وهيَ الدُّنْيَا وهيَ دارُ العملِ، وَمَنْ سَخَّرَهَا للآخرةِ نَجَا، وَمَن اغْتَرَّ بها هَلَكَ؛ لأنَّها مَتاعُ الغُرُورِ، ولأنَّها لَعِبٌ ولَهْوٌ، ولأنَّها كَالسَّرَابِ، وهيَ مَعْبَرٌ وَمَمَرٌّ.
    وسُمِّيَتْ دُنْيَا:
    - من الدُّنُوِّ: وهوَ القُرْبُ.
    - أوْ لِدَنَاءَتِهَا؛ إذْ هيَ كَظِلِّ شجرةٍ أوْ كسحابةِ صَيْفٍ.
    وهيَ سِتَّةُ أشياءَ:
    - طَعَامٌ.
    - وشَرَابٌ.
    - ولِبَاسٌ.
    - ومَشْمُومٌ.
    - ومَنْكُوحٌ.
    - ومَرْكُوبٌ.
    ومعنى (يُصِيبُهَا) أيْ: يَنالُ منها مالاً أوْ شَرَفاً أوْ رِيَاسَةً أوْ غيرَ ذلكَ.
    (أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا): المرأةُ: هيَ الأُنْثَى مِن البَشَرِ.
    والنكاحُ: هوَ الزَّوَاجُ.
    وهوَ لُغَةً: الضَّمُّ والجمعُ بينَ الشَّيْئَيْنِ، ويُطْلَقُ:
    - على العَقْدِ.
    - وعلى الوَطْءِ.
    وكلُّ نِكَاحٍ في القرآنِ فهوَ بمَعْنَى العَقْدِ، إلاَّ قَوْلَهُ تعالَى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ}[البقرة: 230]، فالمُرَادُ بهِ الوَطْءُ.
    وَاصْطِلاحاً: عَقْدُ الزَّوْجِيَّةِ الصحيحُ.
    وخَصَّ المرأةَ معَ أنَّها مِنْ مَتاعِ الدُّنْيَا؛ لكثرةِ تَعَلُّقِ الرغباتِ فيها، فكأنَّها هيَ في كِفَّةٍ وسائرَ متاعِ الدُّنيا في كِفَّةٍ.
    (فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هاجرَ إِلَيْهِ): أيْ: فَهِجْرَتُهُ إلى الدُّنيا والمَرْأةِ.
    ولَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُمَا كذِكْرِ الهجرةِ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ؛ تَحْقِيراً لشَأْنِهِمَا في أنْ يَكُونَا مُرَادَ المهاجرِ، وبَيَاناً لانحطاطِ مَرْتَبَةِ مُرِيدِهِما بالهجرةِ.
    الفوائدُ:
    1- جَوَازُ التَّكَنِّي ببعضِ الحيواناتِ التي تَحْمِلُ صفاتٍ حَمِيدةً.
    2- مَشْرُوعِيَّةُ التَّرَضِّي عن الصَّحَابَةِ خَبَراً، وعنْ غَيْرِهِم إِنْشَاءً.
    3- وجوبُ إتقانِ الرَّاوِي في رِوَايَتِهِ.
    4- النِّيَّةُ رُكْنٌ في جميعِ الأعمالِ.
    5- أنَّ النِّيَّةَ بالقصدِ فقطْ لا باللفظِ.
    6- النهيُ عن التَّلَفُّظِ بالنِّيَّةِ؛ لأنَّ ذلكَ مِن البِدَعِ.
    7- الحَثُّ على إِخْلاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
    8- الإِخْلاصُ عَلامَةٌ مِنْ علاماتِ قَبُولِ العملِ.
    9- عدمُ الإخلاصِ علامةٌ على رَدِّ العملِ.
    10- التحذيرُ منْ إرادةِ الدُّنيا بعملِ الآخرةِ.
    11- الناسُ يَتَفَاوَتُونَ في نِيَّاتِهِمْ، ولِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.
    12- أفضلُ الهجرةِ ما كانَ مِنْ أَجْلِ اللَّهِ.
    13- فَضْلُ شَدِّ الرِّحَالِ لِنَيْلِ رِضْوَانِ اللَّهِ.
    14- مَشْرُوعِيَّةُ الانتقالِ إلى أهلِ العلمِ والأخذِ عنهم.
    15- هَجْرُ أَمَاكِنِ الفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
    16- الحَذَرُ مِن السفرِ إلى بلادِ الانحلالِ.
    17- جَوَازُ هَجْرِ أهلِ المَعَاصِي.
    18- الحذرُ مِن الاغترارِ بالدُّنْيَا.
    19- الأمرُ بِغَضِّ الأبْصَارِ عن المُحَرَّمَاتِ.
    20- مِنْ أعظمِ الفِتَنِ على الرجالِ النساءُ.
    21- الإخلاصُ شَرْطٌ مِنْ شروطِ قَبُولِ العملِ.
    22- حُسْنُ تعليمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكمالُ بَلاغَتِهِ؛ حيثُ يَذْكُرُ الأصولَ والقواعدَ الكُلِّيَّةَ ثمَّ يُوَضِّحُها بالمثالِ.
    فائدةٌ:
    أعمالُ القلوبِ أَرْبَعَةٌ:
    1- الهَاجِسُ.
    2- الخَاطِرُ،
    وهُمَا لا يُكْتَبَانِ حسنةً ولا سَيِّئَةً.
    3- حديثُ النفسِ، ويُكْتَبُ أجراً ولا يُكْتَبُ وِزْراً.
    4- العَزْمُ والتَّصْمِيمُ، ويُكْتَبُ حَسَنَةً وسَيِّئَةً، والدليلُ الحديثُ: ((إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ...)) الحديثَ.
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16791
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39117
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    حديث (إنما الأعمال بالنيات...) Empty رد: حديث (إنما الأعمال بالنيات...)

    مُساهمة من طرف أحمد السبت أغسطس 17, 2013 11:46 am

    قواعد وفوائد من الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: ناظم بن سلطان المسباح

    (1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
    هذا الْحَدِيثُ مِن جَوامعِ كَلِمهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَنْهُ الإمامُ الشَّافعيُّ رحِمَهُ اللَّهُ: (حديثُ النِّيَّةِ يَدْخُلُ فِي سبعينَ بابًا مِن الفقهِ، وَمَا تَرَكَ لِمُبْطِلٍ، وَلا مُضَارٍّ، وَلا مُحتالٍ حُجَّةً إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى).

    وَقَد قَالَ النَّوَوِيُّ: (لَم يُرِدِ الشَّافعيُّ رحمَهُ اللَّهُ انْحِصَارَ أبوابِهِ فِي هَذَا الْعَدَدِ، فإنَّها أَكْثَرُ مِن ذَلِكَ).

    وَقَالَ الشـَّوكانيُّ رحمَهُ اللَّهُ: (وَهَذَا الْحَدِيثُ قاعدةٌ مِن قواعدِ الإِسْلامِ؛ حتَّى قِيلَ: إنَّهُ ثُلُثُ العِلْمِ).

    وَقَالَ كَذلِكَ:(وَهُو علَى انفرادِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُفْرَدَ لَه مُصَنَّفٌ مُستقِلٌّ).
    ومِنْ تعظيمِ العُلماءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ رَأَوُا البَداءَةَ بِه فِي مُصنَّفَاتِهِم؛ وَذَلِكَ تَنبيهًا لطالبِ العِلْمِ إِلَى تصحِيحِهِ نيَّتَهُ.
    قَالَ عَبْدُ الرَّحمنِ بْنُ مَهدِيٍّ: (مـَنْ أرادَ أَنْ يُصَنِّفَ كِتابًا فلْيَبْدَأْ بِهَذَا الْحَدِيثِ).
    عَمِلَ بِهَذِهِ النَّصيحةِ:
    - البخاريُّ رحمهُ اللَّهُ بدأَ بِهِ فِي (صحيحِهِ).
    - وكذلِكَ: تقيُّ الدِّينِ المقْدِسِيُّ فِي كتابِهِ (عُمْدَةِ الأَحْكَامِ).
    - وَكَذَلِكَ: السُّيوطِيُّ فِي (جامِعِهِ الصَّغِيرِ).
    - والنَّووِيُّ فِي (المجموعِ).
    وَقَالَ أَبُو عُبيدٍ: (لَيْسَ فِي الأَحَادِيثِ أجمعُ، وَلا أغنَى، وَلا أنفعُ، وَلا أَكْثَرُ فائدةً منْهُ).
    هلِ الْحَدِيثُ سِيقَ بِسَبَبِ مُهاجرِ أُمِّ قَيْسٍ؟
    ظنَّ قَوْمٌ أنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ بِسَبَبِ رجلٍ أرادَ الزَّواجَ مِن امرأةٍ يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فهاجَرَ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ، وَلَم يَبْتَغِ بِهِجْرَتِهِ فضيلةَ الهجرةِ، واسْتَدَلُّوا بالآتي:
    - عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مـَنْ هاجرَ يبتغِي شيئًا فإنَّمَا لَهُ ذلِكَ، هاجَرَ رجلٌ ليتزوَّجَ امرأةً يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فَكَانَ يُقالُ لَهُ: مُهاجِرُ أمِّ قيسٍ).
    ورواهُ الطَّبرانيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخرَى عَنِ الأَعْمَشِ بلفظِ: (كَانَ فينَا رجلٌ خَطَبَ امرأةً يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حتَّى يُهاجِرَ، فهاجَرَ فتزوَّجَهَا، فكُنَّا نُسَمِّيهِ: مُهاجرَ أمِّ قيسٍ).
    قَالَ الحافظُ: (وَهَذَا إسنادٌ صحيحٌ عَلَى شرطِ الشَّيْخينِ، لكنْ لَيْسَ فِيهِ أنَّ حديثَ الأعمالِ سِيقَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَم أرَ فِي شَيْءٍ مِن الطُّرقِ مَا يَقْتَضِي التَّصريحَ بذلِكَ).
    فائدةٌ:
    وسببُ بحثِ الْعُلَمَاءِ عَنْ سَبَبِ صدورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ هَذَا يُعِينُ علَى فَهْمِ النَّصِّ، كمَا حَرَصَ المفسِّرونَ علَى مَعْرِفةِ أسبابِ النُّزولِ.
    قَالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (بَيَانُ سَبَبِ النُّزولِ طَرِيقٌ قويٌّ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ).
    وَقَالَ ابنُ تيمِيَّةَ كذلِكَ: (مَعْرِفةُ سَبَبِ النُّزولِ تُعينُ عَلَى مَعْرِفةِ الآيَةِ؛ فإنَّ العِلْمَ بالسَّببِ عِلْمٌ بالمُسَبَّبِ).
    وَكَذَلِكَ معرفةُ سَبَبِ صدورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعِينٌ عَلَى فَهْمِهِ.
    معنَى الْحَدِيثِ:
    1 - قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّما الأَعْمَالُ)) هَذَا التـَّركيبُ يفيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ لوُجودِ (إنـَّما)حَيْثُ هِيَ مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ؛ ولأنَّ (الأعمالَ)جَمْعٌ مُحَلًّى باللامِ، وهذَا يُفيدُ الاستغراقَ المُستَلْزِمَ للقَصْرِ.
    وهذَا فَهْمُ ابنِ عباسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّراكيبِ، كمَا فِي: ((إِنَّـمَا الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ))، وَلَم يـُعارَضْ مِن قِبَلِ الصَّحابةِ فِي فَهْمِهِ لِهَذَا التَّركيبِ للحَصْرِ، وإنَّمَا عُورِضَ بدليلٍ آخَرَ يَقْتَضِي التَّحريمَ.
    - قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (وَفِي ذَلِكَ اتِّفَاقٌ علَى أنَّهَا للحَصْرِ).
    ومعنَى الْحَصْرِ فِيهَا:
    (إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي المذكورِ، ونفيُهُ عمَّا عدَاهُ).
    2 - تأتي (إِنَّما) فتفيدُ: - الْحَصْرَ الْمُطْلقَ.
    - وتارةً تَقْتَضِي حَصْرًا مخصوصًا.
    ويُفهَمُ ذَلِكَ بالقرائنِ والسِّياقِ.
    فمَثَلاً: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}الظَّاهرُ مِنَ الآيَةِ: حَصْرُ مِهْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنَّذارةِ، وَالأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فالرَّسولُ لا تَنْحَصِرُ مهمَّتُهُ بالنَّذارَةِ، بَلْ لَهُ أوصافٌ أخرَى، كالْبِشارةِ وغيرِهَا.
    وَكَذَلِكَ: قولُهُ: ((إِنَّما أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ))، فمعناهُ: حَصْرُ البشرِيَّةِ مِن حَيْثُ الاطِّلاعُ عَلَى بَوَاطِنِ الأُمُورِ، لا فِي كلِّ شَيْءٍ.
    وَكَذَلِكَ: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} والْحَصْرُ هُنَا مِن حَيْثُ آثارُهَا، وإلا قَد تَكُونُ سببًا إِلَى الخيراتِ، أَو يَكُونُ مِن بابِ التَّغليبِ للأكثرِ فِي الْحُكْمِ.
    قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (فَإِذَا وَرَدَتْ إنَّمَا فاعْتَبِرْهَا، فَإِنْ دلَّ السِّياقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلامِ عَلَى الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ فقُلْ بِهِ، وَإِنْ لَم يَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ فاحْمِل الْحَصْرَ عَلَى الإِطْلاقِ).
    وهذَا الْحُكْمُ مَعَ كلِّ أدواتِ القَصْرِ المعروفةِ.
    3 - والحديثُ يَشْمَلُ جَمِيعَ أفعالِ الْجَوَارِحِ: الأفعالِ والأقوالِ؛ لأنَّ البعضَ خصَّصَ الأعمالَ بِمَا لا يَكُونُ قولاً، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، كَمَا قَالَ ابنُ دقيقِ العيد.
    كَمَا أنَّ ابنَ عباسٍ يَرَى الْقَوْلَ مِن الْعَمَلِ، وَلَم يُخْرِجْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرينَ.
    قَالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}: إنـَّهُ قَوْلُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ).
    كَمَا أنَّ التَّرْكَ مِن الأعمالِ؛ لأنَّهُ عملٌ اختياريٌّ، وَهُو يَخْتَلِفُ باختلافِ النِّيَّاتِ، فَإِنْ تَرَكَ الشَّرَّ
    لِلَّهِ، يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ، وَإِنْ تَرَكَ الْخَيْرَ الْوَاجِبَ بِلا عُذْرٍ فَهُو شرٌّ ويُلامُ.
    ويَشهدُ لِمَا قُلْتُ قَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: ((إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً -إِلَى قولِهِ- وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً)).
    ومفهومُهُ: إِذَا لَم يَتْرُكْ مِن أَجْلِ اللَّهِ لَم تُكتَبْ حَسَنَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا مِن أَجْلِ الخوفِ مِن الْخَلْقِ يَأْثَمُ.وَلَكِنْ يُستَثْنَى مِن التَّرْكِ بَعْضُ الأعمالِ ، كَمَا بَيَّنَ العُلماءُ، مِثْلُ:
    - إزالةِ النَّجاساتِ.
    - ورَدِّ الْمَضْمُوناتِ، فإنَّها لا تَتَوَقَّفُ صحَّتُها عَلَى النِّيَّةِ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ الثَّوابُ فِيهَا عَلَى نيَّةِ التَّقرُّبِ.
    4- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنـِّيـَّاتِ)).
    هُنَا لا بدَّ مِن تقديرِ المضافِ المحذوفِ، واختُلِفَ فِي تقديرِهِ:
    فالَّذينَ اشْتَرَطُوا وُجوبَ النِّيَّةِ قدَّرُوهُ بصحَّةِ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ أَو مَا يُقارِبُهَا.
    والَّذِينَ لَم يَشْتَرطُوا النِّيَّةَ، قدَّرُوهُ بِكَمَالِ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ ، وَهَذَا يُرَدُّ؛ لأنَّ النِّيَّةَ شرطٌ فِي قَبولِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ الصَّنعانيُّ، فالقولُ الأوَّلُ أَرْجَحُ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ لُزومًا للحقيقةِ مِنَ الكمالِ، فالعملُ عَلَيْهَا أَوْلَى، وبهذا قَالَ ابنُ دقيقٍ.
    5 - قولُهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)).
    مِنْ نَوَى شيئـًا يَحْصُلُ لَه، سَوَاءٌ عَمِلَهُ أَو مَنَعَهُ عَنْه مَانِعٌ يُعذَرُ بِهِ شَرْعًا.
    ويَشهدُ لِذَلِكَ أحاديثُ كَثِيرَةٌ، لِمَنْ نَوَى خيرًا وَلَم يَعْمَلْهُ، مِنْهَا:
    حديثُ: ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ فِي مَالِهِ وَيُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالاً فَهُو يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُ، فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ))وكلُّ مَا لَم يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَه.
    وَلَكِنْ يُستثنَى مِن ذَلِك بَعْضُ المسائلِ المعروفةِ لِمَنْ تَتَبَّعَها ، مِثْلُ مَنْ نَوَى الْحَجَّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ فإنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى عُمْرَةٍ.
    والْخُلاصةُ كَمَا قَالَ ابنُ رجبٍ : (فالعملُ فِي نفسِهِ صلاحُهُ وفسادُهُ وإباحتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الحاملةِ عَلَيْهِ، الْمُقْتَضِيَةِ لوجودِهِ، وثوابُ العاملِ وعقابُهُ وسلامتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الَّتي صَارَ بِهَا الْعَمَلُ صالحًا، أَو فاسدًا، أَو مُبَاحًا).
    6- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَـنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
    قَالَ ابنُ رجبٍ فِي شرحِ هَذَا باختصارٍ وبِتَدَخُّلٍ منِّي: لَمَّا ذَكرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الأعمالَ بِحَسَبِ النِّيَّاتِ، وأنَّ حظَّ العاملِ مِن عملِهِ نيتُّهُ مِن خَيْرٍ أَو شرٍّ، وهاتانِ كلمتَانِ جامعتَانِ، وقاعدَتانِ كلِّيَّتانِ، لا يَخْرُجُ عنهما شَيْءٌ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَثَلاً مِن الأمثالِ عَلَى الأعمالِ الَّتي صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ ويَخْتَلِفُ صلاحُهَا وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ، وكأنَّهُ يَقُولُ: سَائِرُ الأعمالِ عَلَى حَذْوِ هَذَا الْمِثالِ.
    والهجرةُ حقيقتُهَا: التَّرْكُ.
    والهجرةُ إِلَى الشَّيءِ: الانتقالُ إِلَيْهِ عَن غيرِهِ.
    - فتَرْكُ بِلادِ الكُفْرِ إِلَى دَارِ الإِسْلامِ يُسمَّى هِجرةً وَهَذِه باقيَةٌ.
    - وتَرْكُ مكَّةَ إِلَى الحبشةِ سُمِّيَ هجرةً.
    - وتَرْكُ مكَّةَ أَو غيرِهَا إِلَى المدينةِ سُمِّيَ هِجرةً.
    - وتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْه وزَجَرَ سُمِّيَ هجرةً كَذَلِكَ.
    فبَيَّنَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ: أنَّ الهجرةَ تَخْتَلِفُ باختلافِ مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِ.
    فمَنْ هاجرَ حُبًّا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ولرسولِهِ، ورَغبةً فِي التَّفقُّهِ فِي دينِهِ وإظهارِهِ حَيْثُ كَانَ يَعْجَزُ عَن ذَلِكَ فِي دِيَارِ الكُفرِ، فهذا هُو المهاجرُ لِلَّهِ ولرسولِهِ بحقٍّ.
    ومَنْ كَانَ مَقْصِدُ هجرتِهِ حُظوظَ الدُّنيَا، وشهواتِها مِن: نساءٍ، ومالٍ، وجاهٍ، وَغَيْرِ ذَلِك، فحظُّهُ مِن هِجرتِهِ الدُّنيَا وحُظوظُهَا الفانيَةُ.
    وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِلَى مـَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) فِيهِ تحقيرٌ واستهانةٌ لِمَا طَلبَهُ مِن الدُّنيا، حَيْثُ لَم يَذْكُرْهُ بلفظٍ.
    ويُقاسُ عَلَى الهجرةِ سَائِرُ الأعمالِ مِن: حَجٍّ، وعُمرةٍ، وجِهادٍ، وغيرِها، فصلاحُهَا وفسادُهَا بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا.
    7- كَلامُ الْعُلَمَاءِ حولَ النِّيَّةِ يَقعُ فِي وجهينِ:
    أ- تَمَيُّزِ العباداتِ عَن العاداتِ، فالإمساكُ عَن الأَكْلِ:
    - يَكُونُ حِمْيَةً للتَّطْبِيبِ.
    - وَقَد يَكُونُ لعَدَمِ القُدرةِ عَلَى الأَكْلِ.
    - وَقَدْ يَكُونُ تَرْكًا للشهواتِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
    فالصَّومُ يَحتاجُ إِلَى نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ عَنْ غيرِهِ.
    وَكَذَلِك غُسْلُ الْجَنابةِ بحاجةٍ إِلَى نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ مِن غُسْلِ التَّبرُّدِ والنَّظافةِ.
    تَتميَّزُ العِباداتُ عَن بعضِهَا البعضُ، فالصَّلاةُ بحاجةٍ إِلَى نيَّةٍ حتَّى تَتميَّزَ عَن غيرِهَا مِن النَّافلةِ.
    والصِّيامُ مِنْه الفرضُ، الفرضُ مِنْه: صومُ رمضانَ، والنَّذْرُ، والكفَّاراتُ.
    ومنه النَّافلةُ: كصومِ يومِ عَرَفَةَ، وعاشوراءَ، وصومِ الاثنينِ والخميسِ.
    فَلا بُدَّ مِن نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ كلُّ نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ.
    والصَّدقةُ مِنْهَا: الفرضُ، والكفَّاراتُ، والنَّافلةُ، وَكَذَلِك لا بُدَّ مِن نِيَّةٍ حتَّى تَتميَّزَ.
    ب- تَميُّزِ الْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ، هَل هُو اللَّهُ عزَّ وجلَّ وحدَهُ، أَمْ مَعَه غيرُهُ؟
    وَهَذِه النِّيَّةُ الَّتي خاضَ بِهَا عُلَمَاءُ السُّلوكِ، لِذَلِك صنَّفَ أَبُو بكرِ بْنُ أَبِي الدُّنيا مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: (كِتَابَ الإخلاصِ والنِّيَّةِ).
    تعريفُ النِّيَّةِ:
    أ- فِي اللغةِ: استخدَمَ العربُ النِّيَّةَ بِمَعْنَى: القَصْدِ.
    لِذَلِكَ يقولونَ: نوَى الشَّيءَ يَنويهِ نيَّةً ونِيَةً، وانْتَواهُ: قَصَدَهُ ونوَى الْمَنْزِلَ، وانْتَوَاهُ كذلِكَ.
    ويقولونَ: نواكَ اللَّهُ بالخيرِ: قصدَكَ بِهِ وأَوْصَلَكَ إِلَيْهِ، وَقَالَ أعرابيٌّ مِن بني سُلَيْمٍ لابنٍ لَه سمَّاهُ (إبراهيمَ): نَاوَيـْتُ بِه إبراهيمَ، أَيْ: قَصَدْتُ قَصْدَهُ، فَتَبَرَّكْتُ باسمِهِ.
    - استُخْدِمَت النِّيَّةُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الشَّيءِ الْمَقْصُودِ إِلَيْهِ (والنـِّيـَّةُ الْوَجْهُ الَّذِي يُذهَبُ فِيهِ)، وَقَدْ يُرادُ بِهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُصاحِبُهُ القصدُ أَو يَسْبِقُهُ.
    - وكذلك استُخدِمَت النِّيَّةُ بِمَعْنَى:العَزْمِ.
    - يَقُولُ صَاحِبُ (الْمِصْبَاحِ الْمُنيرِ): (خـُصـَّت النـِّيـَّةُ فِي غالبِ الاستعمالِ بعَزْمِ القلبِ عَلَى أَمَرٍ مِن الأُمُورِ).
    - وَكَذَلِك: فِي (لسانِ العربِ): (نوَيـْتُ نيَّةً ونواةً: أَيْ عَزَمْتُ، وانتويْتُ مثلَهُ).
    ب- فِي الشَّرْعِ: لَم يضَعِ الشَّرعُ للنِّيَّةِ تعريفًا خاصًّا بِهَا، ومَنْ وَضَعَ لَهَا تعريفًا خاصًّا بِهَا يَخْتَلِفُ عَن معناها اللغويِّ لَم تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ قويَّةٌ يُسْتَنَدُ عَلَيْهَا، كَمَا بَيَّنَ ذَلِك الدُّكتورُ عمرُ الأشْقَرُ.
    لذلك ذهبَ جَمْعٌ مِن الْعُلَمَاءِ إِلَى تعريفِها بِمَدْلولِها اللغويِّ :
    منهُم: النَّوويُّ رحمَهُ اللَّهُ قَالَ: (النـِّيـَّةُ هِي: القصدُ إِلَى الشَّيءِ، والعزيمةُ عَلَى فعلِهِ، ومنه قَوْلُ الجاهليَّةِ: نواكَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، أَيْ: قَصَدَكَ بِهِ).
    ومنهم: الْقَرَافِيُّ قَالَ رحمهُ اللَّهُ: (هِي قَصْدُ الإِنْسَانِ بقلبِهِ مَا يُريدُهُ بفعلِهِ).
    ومنهم: الْخَطَّابِيُّ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ: (النـِّيـَّةُ: قَصْدُكَ الشَّيءَ بقلبِكَ، وتَحَرِّي الطَّلبِ منكَ لَهُ، وقِيلَ: عزيمةُ القلبِ).
    قالَ الدُّكتورُ عمرُ الأشقرُ: (وتعريفُ النِّيَّةِ بالقَصْدِ والعَزْمِ مَذْهَبٌ قويٌّ يَدُلُّ عَلَى مدلولِ الْكَلِمَةِ فِي لغةِ العربِ).
    ومنهُمْ: مَن عرَّفَها (بالإخلاصِ)كَمَا قَالَ بعضُهم:(وإخلاصُ الدِّينِ هُو النِّيَّةُ)؛ لأنَّ النِّيَّةَ تُطْلَقُ:
    - ويُرادُ بِهَا قَصْدُ العِبادةِ.
    - ويُرادُ بِهَا قَصْدُ المعبودِ ، وَهَذَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللغةُ كَمَا قَدَّمْتُ آنِفًا.
    العَزْمُ والقصدُ، والفارقُ بينَهُمَا:
    فالعزمُ: بالفعلِ الْمُستَقْبَلِ، والقصدُ: بالفعلِ الْحَاضِرِ الْمُتحقِّقِ.
    وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ إمامُ الحرمينِ رحمهُ اللَّهُ: (النـِّيـَّةُ إِنْ تَعلَّقتْ بفعلٍ مُستقبَلٍ فَهِي: عَزْمٌ، وَإِن تَعلَّقتْ بفِعْلٍ حاضرٍ سُمِّيَتْ: قَصْدًا تَحقيقًا).
    أمَّا العلامةُ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللَّهُ فيَرَى أنَّ النِّيَّةَ هِي: القَصْدُ بعينِهِ، إِلا أنَّ هُنَاك فرقًا بينَهما:
    1- القصدُ عندَهُ: معلَّقٌ بفعلِ الفاعلِ نفسِهِ وبفعلِ غيرِهِ.
    والنِّيَّةُ: متعلِّقَةٌ بفعلِ الفاعلِ نفسِهِ.
    وَعَلَى هَذَا يَكُونُ القصدُ عِنْدَهُ أعمَّ مِن النِّيَّةِ.
    2- القصدُ:يَكُونُ بِمَا هُو مقدورٌ عَلَى تحقيقِهِ.
    والنِّيَّةُ:بِمَا هُو مقدورٌ وَغَيْرُ مقدورٍ عَلَى تحقيقِهِ.
    وبناءً عَلَى هَذَا تَكُونُ النِّيَّةُ عندَهُ مِن هَذَا الْحَدِيثِ أعمَّ مِن الْقَصْدِ.
    حكْمُ التَّلفُّظِ بالنِّيَّةِ:
    الْجَهْرُ بالنِّيَّةِ بِدْعةٌ مُنْكَرَةٌ ؛ لأنَّهُ لَم يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشروعِيَّتِها.
    وممَّا هُو مَعْلُومٌ أنَّ الأَصْلَ فِي العباداتِ التَّحريمُ ، وَلا تَثْبُتُ العِبادةُ إِلا بِنَصٍّ.
    قالَ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الرَّبيعِ سليمانُ بْنُ عمرَ الشافعيُّ: (الجهرُ بالنِّيَّةِ وبالقراءةِ خلفَ الإمامِ لَيْسَ مِن السُّنَّةِ، بَل مَكروهٌ، فَإِنْ حَصَلَ بِه تَشويشٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ فحرامٌ، ومَنْ قَالَ بأنَّ الْجَهْرَ بلفظِ النِّيَّةِ مِنَ السُّنَّةِ فَهُو مُخْطِئٌ، وَلا يَحِلُّ لَه وَلا لغيرِهِ أَنْ يَقُولَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ).
    وقالَ الشَّيخُ عَلاءُ الدِّينِ العَطَّارُ:(ورَفْعُ الصَّوتِ بالنِّيَّةِ مَعَ التَّشويشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ حرامٌ إجماعًا، وَمَعَ عَدَمِهِ بِدعةٌ قبيحةٌ، فَإِنْ قُصِدَ بِه الرِّيَاءُ كَانَ حرامًا مِن وجهينِ، وكبيرةً مِن الكبائرِ، والْمُنْكِرُ عَلَى مَن قَالَ بأنَّ ذَلِكَ مِن السُّنَّةِ مُصيبٌ، ومُصَوِّبُهُ مُخْطِئٌ، ونِسبَتُهُ إِلَى دِينِ اللَّهِ اعتقادًا كُفْرٌ، وَغَيْرَ اعتقادٍ مَعْصِيَةٌ، ويَجِبُ عَلَى كلِّ مُؤْمِنٍ تَمَكَّنَ مِن زجرِهِ؛ زَجْرُهُ ومَنْعُهُ ورَدْعُهُ، وَلَم يُنقَلْ هَذَا النقلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا عَن أَحَدٍ مِن أصحابِهِ، وَلا عَن أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِه مِن عُلَمَاءِ الإِسْلامِ).
    وبذلك أفتَى العلامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ الحريريِّ الأنصاريُّ، وابنُ رجبٍ، وغيرُهُم.
    ممَّا تقدَّمَ نَخْلُصُ أنَّ: الجهرَ بالنِّيَّةِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ بعيدةٌ عَن هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    أَثَرُ النِّيَّةِ الصالحةِ عَلَى الْمُباحاتِ:
    يُعَرِّفُ عُلماءُ الأصولِ المباحَ بالآتي: هُو الَّذِي لا يُثابُ فاعلُهُ وَلا يعاقَبُ تارِكُهُ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ وتَرْكُهُ سِيَّيْنِ.
    ولكنَّ المباحَ إِذَا خالطَتْهُ النِّيَّةُ الصَّالحةُ يَكُونُ بِذَلِك قربةً ويُثابُ فاعلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
    - فمَنْ أكلَ أَو شرِبَ ونوَى التَّقَوِّيَ عَلَى طاعةِ اللَّهِ ورسولِهِ يُثابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ.
    - وَكَذَلِكَ مَنْ نوَى بكسبِهِ كفَّ وجهِهِ عَن المسألةِ والإنفاقَ عَلَى نفسِهِ وعيالِهِ، وَهَكَذَا.
    ذهبَ إِلَى الْقَوْلِ بِهَذَا جمعٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ:
    مِنْهُمْ: ابنُ قيِّمِ الجوزيَّةِ ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ: (إنَّ خواصَّ المقرَّبينَ هُمُ الَّذِين انقلبَت المباحاتُ فِي حقِّهم إِلَى طاعاتٍ وقرباتٍ بالنِّيَّةِ، فليسَ فِي حقِّهِم مباحٌ متساوِي الطَّرَفينِ، بَلْ كلُّ أعمالِهِم راجحةٌ).
    ومنهم: ابنُ الحاجِّ المالكيُّ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(المباحُ ينتقلُ بالنِّيَّةِ إِلَى النَّدبِ، وَإِن استطعْنَا أَنْ ننويَ بالفعلِ نيَّةَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ نيَّةِ النَّدبِ، للحديثِ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ)) ).
    ومنهم: العلامةُ النَّوويُّ قَالَ رحمَهُ اللَّهُ مُعَقِّبًا عَلَى الْحَدِيثِ الْخَامِسِ والعشرينَ مِن أَربعينِهِ: (وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ المباحاتِ تَصيرُ طاعاتٍ بالنِّيَّاتِ الصَّالحاتِ، فالْجِماعُ يَكُونُ عِبادةً إِذَا نَوَى بِهِ قَضاءَ حقِّ الزَّوجةِ ومُعاشرَتَها بالمعروفِ الَّذي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، أَو طَلَبَ وَلَدٍ صالحٍ، أَو إعفافَ نفسِهِ، أَو إعفافَ الزَّوجةِ ومَنْعَهُما جَميعًا مِن النَّظرِ إِلَى الحرامِ، أَو الفِكْرِ فِيهِ، أَو الْهَمِّ بِهِ، أَو غَيْرِ ذلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ).
    ويَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءُ الأجلاءُ -عَلَيْهِم سحائبُ الرَّحمةِ-:
    1- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: ((إِنـَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ)).
    - قَالَ النَّوويُّ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: (وَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فمِ الزَّوجةِ يَقَعُ غالبًا فِي حَالِ الْمُدَاعَبَةِ، ولِشَهْوَةِ النَّفسِ فِي ذَلِك مَدْخَلٌ ظاهِرٌ، وَمَعَ ذلِكَ إِذَا وَجَّهَ القَصْدَ فِي تِلْك الْحَالِ إِلَى ابتغاءِ الثَّوابِ حَصَلَ لَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ).
    - وقالَ السَّيوطيُّ: (ومِن أَحْسَنِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أنَّ الْعَبْدَ يَنالُ أَجْرًا بالنِّيَّةِ الصَّالحةِ فِي المباحاتِ والعاداتِ، قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))، فهذه يُـثَابُ فاعلُها إِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقرُّبَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ لَم يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلا ثَوابَ لَهُ...).
    2- وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)).
    قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهْوتَهُ وَيَكُونُ لَه أَجْرٌ ؟
    قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَلَيْسَ كَانَ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ لَهُ أَجْرٌ)).

    ضوابطُ تحويلِ الْمُباحِ إِلَى قُرْبَةٍ:
    1- لا يَجوزُ أَنْ تُتَّخَذَ المباحاتُ قُرْبةً فِي صورتِها وذاتِها، كمَنْ يَظُنُّ أنَّ الْمَشيَ أَو الأَكْلَ أَو الوقوفَ أَو اللِّبَاسَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ فِي ذاتِهِ، لِذَلِك أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي إسرائيلَ عندَما رآهُ قائمًا فِي الشَّمسِ، فسألَ عَن سَبَبِ وُقوفِهِ فَقِيلَ لَهُ: (هَذَا أَبُو إسرائيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ ويَصُومَ).
    قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، ولْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)).
    2- أَنْ يَكُونَ الْمُباحُ وَسِيلَةً إِلَى العِبادةِ: قالَ ابنُ الشَّاطِ: (إِذَا قـُصِدَ بالمباحاتِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعاتِ، أَو التَّوصُّلُ إِلَيْهَا كَانَتْ عِبادةً، كالأكلِ والنَّومِ واكتسابِ المالِ...).
    ويَرَى العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ أنَّ المسلِمَ يُثابُ فِي هَذِه الْحَالَةِ عَلَى القَصْدِ دُونَ الفعلِ.
    وقالَ ابنُ تَيميَّةَ: (يَنبغِي ألا يَفعلَ مِن المباحاتِ إِلا مَا يَستعينُ بِهِ عَلَى الطَّاعةِ، ويَقْصِدُ الاستعانةَ بِهَا عَلَى الطَّاعةِ).
    3- أَنْ يَكُونَ الأَخْذُ بِهِ عَلَى أنَّهُ تشريعٌ إلهيٌّ: يَنبغِي للمسلِمِ أَنْ يَأْخُذَ المباحَ مُعتقِدًا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أباحَهُ لَه، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ تُؤتَى رُخَصُهُ، كَمَا تُؤتَى عزائمُهُ، كَمَا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لا يَرْضَى بالتَّرَهْبُنِ، والغلوِّ والتَّشدُّدِ.
    وَعَلَى هَذَا يُظهِرُ المسلمُ عُبوديَّتَهُ لربِّهِ، فَهُو يَسيرُ وَفْقَ نظامٍ متكاملٍ، فالحلالُ مَا أحلَّ اللَّهُ، والحرامُ مَا حرَّمَ، والمباحُ مَا أباحَهُ، فالَّذي يَنْظُرُ للمباحِ عَلَى هَذَا الأساسِ يُثابُ، إِنْ شاءَ اللَّهُ.
    4- أَنْ يَكُونَ المباحُ مباحًا بالجزءِ، ولكنَّهُ مَطْلُوبٌ بالكلِّ، سَوَاءٌ عَلَى النَّدبِ أَو الْوُجُوبِ.
    فمَثَلاً يُباحُ للعبدِ أَنْ يَتْرُكَ الطَّعامَ والشَّرابَ أحيانًا، ويُجْهِدُ نفسَهُ بذلِكَ، وَلَكِنْ لا يَجوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى فِي ذَلِك حتَّى يُهْلِكَ نفسَهُ، ففي هَذِه الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ ويَشْرَبَ بِمَا يُنْقِذُ بِهِ نفسَهُ، وَإِذَا لَم يَفعلْ يَستوجِبُ الوَعيدَ فِي ذلِكَ.
    ولو قُدِّرَ للنَّاسِ أَنِ امتنعُوا عَن الزَّواجِ، والتِّجارةِ، والزِّراعةِ، والصِّناعةِ، يُعَدُّونَ بِذَلِك آثمينَ؛ لأنَّ هَذِه الأَشْيَاءَ مطلوبةٌ بالكلِّ.
    مِنْ فوائدِ الْحَدِيثِ:
    1- فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ النِّيَّةَ مِن الإيمانِ؛ لأنَّهَا عملُ القلبِ، وَالإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: تصديقٌ بالْجَنَانِ، ونُطْقٌ باللسانِ، وعملٌ بالأركانِ.
    لِذَلِك ساقَ الإمامُ البخاريُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الإيمانِ.
    2- كَمَا فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّهُ يَجِبُ عَلَى المسلمِ قَبْلَ القُدومِ عَلَى الْعَمَلِ أَنْ يَعْرِفَ حُكْمَهُ: هَل هُو مشروعٌ أَمْ لا ؟ هَل هُو واجبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ ؟ لأنَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْعَمَلُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا إِذَا خلا مِنَ النِّيَّةِ المشروعةِ فِيهِ.
    3- والحديثُ يَدُلُّ عَلَى اشتراطِ النِّيَّةِ فِي أعمالِ الطَّاعاتِ، وأنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الأعمالِ بدونِهَا غَيْرُ مُعتَدٍّ بِهِ.
    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16791
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39117
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    حديث (إنما الأعمال بالنيات...) Empty رد: حديث (إنما الأعمال بالنيات...)

    مُساهمة من طرف أحمد السبت أغسطس 17, 2013 11:48 am

    جامع العلوم والحكم للحافظ: عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي

    بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ
    الحمدُ للَّهِ الَّذي أكْمَلَ لنَا الدِّينَ، وأَتَمَّ علينا النِّعْمَةَ، وجَعَلَ أُمَّتَنَا -وللَّهِ الحمدُ- خَيْرَ أُمَّةٍ، وبَعَثَ فِينا رَسولاً منَّا يَتْلُو عَلَيْنَا آياتِهِ، ويُزَكِّينَا ويُعَلِّمُنَا الكِتَابَ والحِكْمَةَ، أَحْمَدُهُ على نِعَمِهِ الجَمَّةِ.
    وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، شَهَادَةً تكونُ لِمَن اعْتَصَمَ بها خَيْرَ عِصْمَةٍ.
    وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، أرْسَلَهُ للعالَمِينَ رَحْمَةً، وفَوَّضَ إليهِ بيانَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنا، فأَوْضَحَ لَنا كُلَّ الأمورِ المُهِمَّةِ، وخَصَّهُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، فَرُبَّما جَمَعَ أَشْتَاتَ الْحِكَمِ والعُلومِ في كَلِمَةٍ، أوْ في شَطْرِ كَلِمَةٍ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ صلاةً تكونُ لنا نُورًا مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
    أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجَوَامِعِ الكَلِمِ، وخَصَّهُ ببَدَائِعِ الْحِكَمِ، كما في (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ)).
    قالَ الزُّهْرِيُّ: (جَوَامِعُ الكَلِمِ -فِيمَا بَلَغَنَا- أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الأُمورَ الكثيرةَ التي كانَتْ تُكْتَبُ في الكُتُبِ قبلَهُ في الأمْرِ الوَاحِدِ وَالأَمْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ).
    - وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالمُوَدِّعِ، فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ -قالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- وَلا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ))وذَكَرَ الحديثَ.
    - وخرَّجَ أبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ مِنْ حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا)).
    - وخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا)).
    - ورُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ إسحاقَ القُرَشِيِّ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي موسَى قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ)).
    فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ).
    - وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ سعيدِ بنِ أبي بُرْدَةَ بنِ أبي مُوسَى، عنْ أبِيهِ، عنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَن البِتْعِ وَالمِزْرِ، قَالَ: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ، فَقَالَ: ((أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاةِ)).
    ورَوَى هشامُ بنُ عمَّارٍ في كتابِ (المَبْعَثِ) بإسنادِهِ عنْ أبي سلامٍ الْحَبَشِيِّ قالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ، وَلا فَخْرَ))، فذَكَرَ مِنها قَالَ: ((وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا بِاللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ، فَجَمَعَهَا لِي رَبِّي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1].
    فجوامِعُ الكَلَمِ التي خُصَّ بها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ:
    أحَدُهُمَا: ما هوَ في القرآنِ، كقولِهِ عزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
    قالَ الحَسَنُ: (لمْ تَتْرُكْ هَذِهِ الآيَةُ خَيْرًا إلا أَمَرَتْ بِهِ، وَلا شَرًّا إِلا نَهَتْ عَنْهُ).
    والثَّاني: ما هوَ في كلامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ مُنْتَشِرٌ موجودٌ في السُّنَنِ المأثورَةِ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وقدْ جَمَعَ العُلَمَاءُ جُمُوعًا منْ كَلِمَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامِعَةِ.
    - فصنَّفَ الحافِظُ أبو بكرِ بنُ السُّنِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ: (الإيجازُ وجوامِعُ الكَلِمِ مِن السُّنَنِ المأْثُورَةِ).
    - وجَمَعَ القاضِي أبو عبدِ اللَّهِ القُضَاعِيُّ مِنْ جوامِعِ الكَلِمِ الوَجِيزَةِ كِتابًا سمَّاهُ: (الشِّهَابُ في الحِكَمِ والآدَابِ)، وصنَّفَ عَلَى مِنْوَالِهِ قَوْمٌ آخرونَ، فزادُوا على ما ذَكَرَهُ زيادَةً كثيرةً.
    - وأشارَ الخَطَّابِيُّ في أوَّلِ كتابِهِ (غريبِ الحديثِ) إلى يَسِيرٍ من الأحاديثِ الجامِعَةِ.
    - وأمْلَى الإمامُ الحافِظُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ مَجْلِسًا سَمَّاهُ (الأحاديثَ الكُلِّيَّةَ)، جَمَعَ فيهِ الأحادِيثَ الجوامِعَ الَّتي يُقالُ: إِنَّ مَدارَ الدِّينِ عليها، وما كانَ في معْنَاهَا مِن الكلماتِ الجامِعَةِ الوجيزةِ، فاشْتَمَلَ مجلِسُهُ هذا على سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حديثًا.
    ثمَّ إنَّ الفَقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَخَذَ هذهِ الأحاديثَ التي أَمْلاها ابنُ الصَّلاحِ وزَادَ عليها تَمَامَ اثنيْنِ وأربعينَ حَدِيثًا، وسَمَّى كتابَهُ (بالأرْبَعِينَ).
    واشْتُهِرَتْ هذهِ الأربعونَ التي جَمَعَها، وَكَثُرَ حِفْظُها، ونَفَعَ اللَّهُ بهَا بِبَرَكَةِ نِيَّةِ جامِعِها وحُسْنِ قَصْدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
    وقدْ تَكَرَّرَ سؤالُ جماعةٍ منْ طَلَبَةِ العِلْمِ والدِّينِ لتعليقِ شَرْحٍ لهذِهِ الأحاديثِ المُشارِ إليها، فاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سبحَانَهُ وتعالَى في جَمْعِ كتابٍ يَتَضَمَّنُ شَرْحَ ما يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تعالَى مِنْ مَعَانِيها، وتَقْييدَ ما يَفْتَحُ بِهِ سُبْحانَهُ منْ تَبْيِينِ قواعِدِها وَمَبَانِيهَا.
    وإيَّاهُ أَسألُ العَوْنَ على ما قَصَدْتُ، والتَّوْفِيقَ لصلاحِ النِّيَّةِ والقَصْدِ فيما أَرَدْتُ، وَأُعَوِّلُ في أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْهِ، وأَبْرَأُ مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ إِلا إِليهِ.
    وقدْ كانَ بعضُ مَنْ شَرَحَ هذِهِ الأربعينَ قدْ تَعَقَّبَ على جامِعِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْكَهُ لحديثِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ))، قالَ: (لأنَّهُ جامِعٌ لقواعِدِ الفرائِضِ التي هيَ نِصْفُ العِلْمِ، فكانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ في هذهِ الأحاديثِ الجامِعَةِ).
    كما ذَكَرَ حديثَ: ((الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ))؛ لجَمْعِهِ لأحكامِ القَضَاءِ.
    فرأيتُ أنا أنْ أَضُمَّ هذا الحديثَ إلى أحاديثِ الأربعينَ التي جَمَعَهَا الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وأنْ أَضُمَّ إلى ذلكَ كُلِّهِ أحاديثَ أُخَرَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الجَامِعَةِ لأنواعِ العُلومِ والحِكَمِ؛ حتَّى تَكْمُلَ عِدَّةُ الأحاديثِ كُلِّها خمسينَ حديثًا.
    وهذِهِ تسميَةُ الأحاديثِ المَزِيدَةِ على ما ذَكَرَهُ الشيخُ رحِمَهُ اللَّهُ في كتابِهِ:
    - حديثُ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا)).
    - حديثُ: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)).
    - حديثُ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)).
    - حديثُ:((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
    - حديثُ: ((مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)).
    - حديثُ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا)).
    - حديثُ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ)).
    - حديثُ: ((لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
    وسَمَّيْتُهُ:(جَامِعَ العُلُومِ والحِكَمِ في شَرْحِ خمسينَ حديثًا منْ جوامِعِ الكَلِمِ).
    واعْلَمْ أنَّهُ ليسَ غَرَضِي إلا شْرْحُ الألفاظِ النَّبَوِيَّةِ التي تَضَمَّنَتْهَا هذِهِ الأحاديثُ الكُلِّيَّةُ؛ فلذلكَ لا أَتَقَيَّدُ بألفاظِ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَرَاجِمِ رُوَاةِ هذِهِ الأحاديثِ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ولا بألْفَاظِهِ في العَزْوِ إلى الكُتُبِ التي يَعْزُو إليها، وإنَّما آتِي بالمَعْنَى الذي يَدُلُّ على ذلكَ؛ لأَنِّي قدْ أَعْلَمْتُكَ أنَّهُ ليسَ لي غَرَضٌ إلا في شَرْحِ معاني كلماتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجوامِعِ، وما تَضَمَّنَتْهُ مِن الآدَابِ وَالحِكَمِ وَالمَعَارِفِ وَالأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ.
    وأُشِيرُ إشارةً لطيفَةً قبلَ الكلامِ في شرحِ الحديثِ إلى إسنادِهِ ؛ لِيُعْلَمَ بذلكَ صِحَّتُهُ وقُوَّتُهُ وضَعْفُهُ.
    وأَذْكُرُ بعضَ ما رُوِيَ في معناهُ من الأحاديثِ إنْ كانَ في ذلكَ البابِ شَيْءٌ غيرُ الحديثِ الذي ذَكَرَهُ الشيخُ، وإنْ لمْ يكُنْ في البابِ غَيْرُهُ، أوْ لمْ يَكُنْ يَصِحُّ فيهِ غَيْرُهُ، نَبَّهْتُ على ذلكَ كُلِّهِ.
    وباللَّهِ المُسْتَعَانُ، وعليهِ التُّكْلانُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ.
    ***
    (1) هذا الحديثُ تَفَرَّدَ بروايَتِهِ يَحْيَى بنُ سعيدٍ الأنصارِيُّ عنْ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
    وليسَ لَهُ طريقٌ تَصِحُّ غيرُ هذِهِ الطريقِ ، كذا قالَهُ عليُّ بنُ المَدِينِيِّ وغيرُهُ.
    وقالَ الخَطَّابِيُّ: (لا أَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ الحديثِ في ذَلِكَ)، معَ أنَّهُ قدْ رُوِيَ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ وغيرِهِ.
    وقدْ قيلَ: إنَّهُ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كثيرةٍ، لكنْ لا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شيءٌ عندَ الحُفَّاظِ.
    ثمَّ رَوَاهُ عن الأنصاريِّ الخَلْقُ الكثيرُ والجَمُّ الغفيرُ.
    فقيلَ: رَوَاهُ عنهُ أكثرُ مِنْ مِائَتَيْ راوٍ.
    وقيلَ: رَواهُ عنهُ سبعُمِائَةِ راوٍ، ومِنْ أعيانِهم: مالِكٌ، والثَّورِيُّ، والأَوْزَاعِيُّ، وابنُ المُبَارَكِ، واللَّيثُ بنُ سَعْدٍ، وحمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وشُعْبَةُ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وغَيْرُهم.
    واتَّفَقَ العُلماءُ على صِحَّتِهِ وتَلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وبِهِ صَدَّرَ البُخَارِيُّ كِتَابَهُ (الصَّحيحَ)، وأَقَامَهُ مقامَ الخُطْبَةِ لَهُ؛ إشارةً مِنهُ إلى أنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا يُرادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فهوَ باطلٌ، لا ثَمَرَةَ لهُ في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ؛ ولهذا: قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: (لوْ صنَّفْتُ الأبوابَ لجَعَلْتُ حديثَ عُمَرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلِّ بابٍ).
    وعنهُ أنَّهُ قالَ: (مَنْ أرادَ أنْ يُصَنِّفَ كتابًا فلْيَبْدَأْ بحديثِ ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))).
    وهذا الحديثُ أَحَدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّينُ عليها :
    فَرُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: (هذا الحديثُ ثُلُثُ العِلْمِ، ويَدْخُلُ في سبعينَ بابًا مِن الفِقْهِ).
    وعَن الإِمامِ أحمدَ قالَ:(أُصُولُ الإِسلامِ على ثلاثةِ أحاديثَ:
    - حديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    - وحديثِ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
    - وحديثِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))
    وقالَالحاكِمُ: (حَدَّثُونَا عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ، عنْ أبيهِ، أنَّهُ ذَكَرَ قولَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    وقولَهُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).
    وقولَهُ:((مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
    فقالَ: يَنْبَغِي أنْ يُبْدَأَ بهذِهِ الأحاديثِ في كُلِّ تَصْنِيفٍ؛ فإنَّها أُصُولُ الحديثِ).
    وعن ْ إِسْحَاقَ بنِ رَاهُويَهْ قالَ: (أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ هيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ:
    - حديثُ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    - وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
    - وحديثُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
    - وحديثُ: ((مَنْ صَنَعَ فِي أَمْرِنَا شَيْئًا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))).
    ورَوَى عثمانُ بنُ سعيدٍ عنْ أبي عُبَيْدٍ قالَ: (جَمَعَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ جَمِيعَ أَمْرِ الآخِرَةِ في كَلِمَةٍ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
    وجَمَعَ أمْرَ الدُّنْيَا كُلَّهُ في كَلِمَةٍ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، يدْخُلانِ في كلِّ بابٍ).
    وعنْ أبي دَاودَ قالَ: (نَظَرْتُ في الحديثِ المُسْنَدِ، فإذا هوَ أَرْبَعَةُ آلافِ حديثٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذا مَدَارُ الأربَعَةِ آلافِ حديثٍ على أربعةِ أحاديثَ:
    - حديثِ النُّعْمَانِ بنِ بشيرٍ:((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
    - وحديثِ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    - وحديثِ أبي هُريرةَ: ((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ)) الحديثَ.
    - وحديثِ:((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
    قالَ: فَكُلُّ حديثٍ مِنْ هذِهِ رُبْعُ العِلْمِ).
    وعنْ أبي دَاودَ أيضًا قالَ: (كَتَبْتُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَديثٍ، انْتَخَبْتُ مِنها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكِتَابَ -يَعْنِي كِتَابَ (السُّنَنِ)- جَمَعْتُ فيهِ أربعةَ آلافٍ وثَمَانَمِائَةِ حديثٍ، ويَكْفِي الإِنسانَ لدينِهِ مِنْ ذَلِكَ أربعةُ أحاديثَ:
    أحدُها:قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    والثَّاني: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
    والثالِثُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَكُونُ الْمُؤمِنُ مُؤْمِنًا حتَّى لا يَرْضَى لأَِخِيهِ إِلا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ)).
    والرَّابِعُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))).
    وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنهُ، أنَّهُ قالَ: (الفِقْهُ يَدُورُ على خَمْسَةِ أحاديثَ:
    ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بيِّنٌ)). وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ، وَلا ضِرَارَ)). وقولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). وقولِهِ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).
    وقولِهِ: ((وَمَا نَهْيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمْرتُكُمْ بِهِ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))).
    وفي روايَةٍ عنهُ قالَ: (أُصُولُ السُّنَنِ في كُلِّ فَنٍّ أربَعَةُ أحاديثَ:
    - حديثُ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    - وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
    - وحديثُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
    - وحديثُ:((ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ))).
    وللحافِظِ أبي الحَسَنِ طاهِرِ بنِ مُفَوِّزٍ المَعَافِرِيِّ الأنْدُلُسِيِّ:


    عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنَا كَلِمَاتٌ أَرْبعٌ = مِنْ كلامِ خـَيـْرِ البـَرِيَّهْ
    اتَّقِ الـشُّبـُهَاتِ وازْهَدْ وَدَعْ = مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ واعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ
    فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) وفي روايَةٍ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    وكلاهُمَا يَقْتَضِي الحَصْرَ على الصَّحيحِ ، وليسَ غَرَضُنا هَا هُنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ، ولا بَسْطَ القَوْلِ فيهِ.
    وقد اخْتُلِفَ في تقديرِ قولِهِ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)): فكثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ
    يَزعُمُ أنَّ تقديرَهُ: الأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أوْ مُعْتَبَرَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ بالنِّيَّاتِ.
    وعلى هذا، فالأعمالُ إنَّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرْعِيَّةُ المُفْتَقِرةُ إلى النِّيَّةِ.
    فأمَّا ما لا يَفْتَقِرُ إلى النِّيَّةِ كالعاداتِ مِن الأكلِ والشُّرْبِ واللُّبْسِ وغيرِها، أوْ مثلِ رَدِّ الأماناتِ والمَضْمُونَاتِ، كالودائِعِ والغُصُوبِ، فلا يَحتَاجُ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ، فيُخَصُّ هذا كُلُّهُ مِنْ عُمُومِ الأعمالِ المذكَورَةِ هَا هُنا.
    وقال آخرونَ: بل الأعمالُ هنا على عُمُومِهَا، لا يُخَصُّ منها شيءٌ.
    وَحَكَاهُ بَعْضُهم عن الجمهورِ، وكأنَّهُ يُرِيدُ بِهِ جُمْهُورَ المُتَقَدِّمِينَ.
    وقدْ وَقَعَ ذَلِكَ في كلامِ ابنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ وأبي طالِبٍ المَكِّيِّ وغيرِهِمَا مِن المُتَقَدِّمِين، وهوَ ظاهِرُ كلامِ الإِمامِ أَحْمَدَ.
    قالَ في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: (أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً مِنْ صلاةٍ، أوْ صيامٍ، أوْ صَدَقَةٍ، أوْ نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ، أنْ تكونَ النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً في ذَلِكَ قبلَ الفِعْلِ؛ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، فهذا يَأْتِي على كُلِّ أمْرٍ مِن الأُمورِ).
    وقال الفَضْلُ بنُ زِيَادٍ: سأَلْتُ أبا عبدِ اللَّهِ -يَعْنِي أحمدَ- عَن النِّيَّةِ في العَمَلِ، قلتُ: كيفَ النِّيَّةُ؟ قالَ: (يُعالِجُ نفسَهُ إذا أرادَ عَمَلاً لا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ).
    وقالَ أحمدُ بنُ داودَ الحَرْبِيُّ: حَدَّثَ يزيدُ بنُ هارونَ بحديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وأحمدُ جالِسٌ، فقالَ أحمدُ ليَزيدَ: (يا أَبَا خَالِدٍ، هذا الْخِنَاقُ).
    وعلى هذا القولِ: فقيلَ: تقديرُ الكلامِ : الأعمالُ واقِعَةٌ أوْ حاصِلَةٌ بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إِخبارًا عن الأعمالِ الاخْتِيَارِيَّةِ أنَّها لا تَقَعُ إلا عَنْ قصْدٍ مِن العامِلِ هوَ سَبَبُ عمَلِها ووُجُودِها، ويكونُ قولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى))، إِخبارًا عنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وهوَ أنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نِيَّتُهُ، فإنْ كانَتْ صالِحَةً فعَمَلُهُ صالِحٌ، فَلَهُ أجرُهُ، وإنْ كانَت فاسِدَةً فعَمَلُهُ فاسِدٌ، فعليهِ وِزْرُهُ.
    ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ التَّقديرُ في قولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))الأعمالُ صالِحَةٌ، أوْ فاسِدَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ، أوْ مَرْدُودَةٌ، أوْ مُثَابٌ عليها، أوْ غيرُ مُثَابٍ عليها، بالنِّيَّاتِ، فيكونُ خَبَرًا عنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وهوَ أنَّ صلاحَ الأعمالِ وفسادَها بِحَسَبِ صلاحِ النِّيَّاتِ وفسادِها، كقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))؛ أيْ: إنَّ صَلاحَها وفسَادَها وقَبُولَها وعَدَمَهُ بحَسَبِ الخاتِمَةِ.
    وقولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّما لِكل امْرِئٍ مَا نَوَى)) إِخْبارٌ أنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إلا ما نَوَاهُ بِهِ، فإنْ نَوَى خيرًا حَصَلَ لهُ خَيْرٌ، وإنْ نَوَى شرًّا حَصَلَ لهُ شَرٌّ.
    وليسَ هذا تَكْرِيرًا مَحْضًا للجُمْلَةِ الأولى؛ فإنَّ الجُملةَ الأولى دلَّتْ على أنَّ صلاحَ العَمَلِ وفسادَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ المُقْتَضِيَةِ لإِيجادِهِ، والجملةَ الثَّانِيَةَ دلَّتْ على أنَّ ثوابَ العامِلِ على عملِهِ بحسَبِ نِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ، وأنَّ عِقَابَهُ عليهِ بحَسَبِ نِيَّتِهِ الفاسِدَةِ، وقدْ تَكُونُ نِيَّتُهُ مُبَاحَةً فيَكونُ العَمَلُ مُبَاحًا، فلا يَحْصُلُ لهُ بِهِ ثوابٌ ولا عِقَابٌ، فالعَمَلُ في نفسِهِ صلاحُهُ وفسادُهُ وإباحَتُهُ بحسَبِ النِّيَّةِ الحامِلَةِ عليهِ، المُقْتَضِيَةِ لوجودِهِ، وثوابُ العامِلِ وعقابُهُ وسلامتُهُ بحسَبِ نيَّتِهِ التي بها صارَ العَمَلُ صالِحًا، أوْ فاسِدًا، أوْ مُبَاحًا.
    واعْلَمْ أنَّالنِّيَّةَ في اللُّغَةِ: نَوْعٌ مِن القَصْدِ والإرادَةِ ، وإنْ كانَ قدْ فُرِّقَ بينَ هذِهِ الألفاظِ بما ليسَ هذا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ.
    والنِّيَّةُ في كلامِ العُلماءِ تَقَعُ بمَعْنَيَيْنِ:
    أحدُهُمَا: بمعنى تمييزِ العَباداتِ بعضِها عنْ بَعضٍ،كتمييزِ صلاةِ الظُّهْرِ مِنْ صلاةِ العَصْرِ مَثَلاً، وتمييزِ صيامِ رمَضَانَ مِنْ صيامِ غيرِهِ، أوْ تمييزِ العِبَاداتِ مِن العَادَاتِ، كتمييزِ الغُسْلِ مِن الجَنَابَةِ مِنْ غُسْلِ التَّبَرُّدِ والتَّنَظُّفِ، ونحوِ ذَلِكَ.
    وهذِهِ النِّيَّةُ هيَ التي تُوجَدُ كثيرًا في كلامِ الفُقَهَاءِ في كُتُبِهِمْ.
    والمعنَى الثَّاني: بمعنَى تمييزِ المقصودِ بالعَمَلِ، وهلْ هوَ اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، أمْ غيرُهُ، أم اللَّهُ وغيرُهُ.
    وهذِهِ النِّيَّةُ هيَ الَّتي يَتَكَلَّمُ فيها العارِفُونَ في كُتُبِهِم في كلامِهِم على الإِخلاصِ وتوابِعِهِ، وهيَ الَّتي تُوجَدُ كثيرًا في كلامِ السَّلَفِ المُتَقدِّمِينَ.
    وقدْ صَنَّفَ أبو بَكْرِ بنُ أبِي الدُّنيا مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: كتابَ (الإِخلاصِ والنِّيَّةِ)، وإنَّما أرادَ هذِهِ النِّيَّةَ، وهيَ النِّيَّةُ التي يَتَكَرَّرُ ذِكْرُها في كلامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    - تارَةً: بلَفْظِ النِّيَّةِ.
    - وتارَةً: بلفْظِ الإِرادَةِ.
    - وتارَةً: بلفْظٍ مُقَارِبٍ لذَلِكَ.
    وقدْ جاءَ ذِكْرُها كثيرًا في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بغَيْرِ لفظِ النِّيَّةِ أيضًا مِن الأَلفاظِ المُقارِبَةِ لَهَا.
    وإنَّما فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بينَ النِّيَّةِ وبينَ الإِرادَةِ والقَصْدِ ونحوِهما؛لظَنِّهِم اخْتِصَاصَ النِّيَّةِ بالمعنَى الأوَّلِ الذي يَذْكُرُهُ الفقهاءُ.
    فمِنهمْ مَنْ قالَ: النِّيَّةُ تَخْتَصُّ بفعلِ النَّاوِي، والإِرادةُ لا تَخْتَصُّ بذَلِكَ، كما يُرِيدُ الإِنسانُ مِن اللَّهِ أنْ يَغْفِرَ لَهُ ولا يَنْوِي ذَلِكَ.
    وقدْ ذَكَرْنَا أنَّ النِّيَّةَ في كلامِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسَلَفِ الأُمَّةِ إنَّما يُرادُ بها هذا المعنَى الثَّاني غالِبًا، فهيَ حينَئِذٍ بمعنَى الإِرادَةِ.
    ولذَلِكَ يُعَبَّرُ عنها بلفظِ (الإِرادَةِ) في القرآنِ كثيرًا:
    - كما في قولِهِ تعالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عِمْرَانَ: 152].
    - وقولِهِ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67].
    - وقولِهِ :{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20].
    - وقولِهِ:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإِسراء: 18-19].
    - وقولِهِ تعالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هُود: 15-16].
    - وقولِهِ:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
    - وقولِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
    - وقولِهِ: {ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذينَ يُريدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
    - وقولِهِ: {وَمَا آتَيتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}[الرُّوم: 38-39].
    وقدْ يُعَبَّرُ عنها فِي القُرآنِ بلفْظِ (الابْتِغَاءِ):
    - كما فِي قولِهِ تعالَى: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}[اللَّيْل: 20].
    - وقولِهِ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة: 265].
    - وقولِهِ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272 ].
    - وقولِهِ:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114].
    فنَفَى الخَيْرَ عَنْ كثيرٍ مِمَّا يَتَنَاجَى بِهِ الناسُ إلا فِي الأمرِ بالمعروفِ، وخَصَّ منْ أفرادِهِ الصَّدَقَةَ والإِصلاحَ بينَ النَّاسِ؛ لعُمُومِ نَفْعِهِما، فدَلَّ ذَلِكَ على أنَّ التَّنَاجِيَ بذَلِكَ خَيْرٌ، وأمَّا الثوابُ عليهِ مِن اللَّهِ فخَصَّهُ بِمَنْ فعَلَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ.
    وإنما جَعَلَ الأمرَ بالمعروفِ مِن الصَّدَقَةِ، والإِصلاحَ بينَ النَّاسِ وغَيْرَهُما خيرًا، وإنْ لمْ يُبْتَغَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ على ذَلِكَ مِن النَّفْعِ المُتَعَدِّي، فَيَحْصُلُ بِهِ لِلنَّاسِ إِحسانٌ وخيرٌ.
    وأمَّا بالنِّسبَةِ إلى الأَمْرِ:
    - فإنْ قَصَدَ بِهِ وجهَ اللَّهِ وابتغاءَ مَرْضَاتِهِ كانَ خيرًا لَهُ، وأُثِيبَ عليهِ.
    - وإنْ لمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لمْ يَكُنْ خيرًا لَهُ، ولا ثوابَ لهُ عليهِ.
    وهذا بخلافِ مَنْ صامَ وصلَّى وذَكَرَ اللَّهَ، يَقْصِدُ بذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيا؛ فإنَّهُ لا خَيْرَ لهُ فيهِ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّهُ لا نَفْعَ فِي ذَلِكَ لصاحِبِهِ؛ لِمَا يَتَرتَّبُ عليهِ مِن الإِثْمِ فيهِ، ولا لغيرِهِ؛ لأنَّهُ لا يَتَعَدَّى نفعُهُ إلى أحدٍ، اللَّهُمَّ إلا أَنْ يحصُلَ لأحدٍ بهِ اقْتِدَاءٌ فِي ذَلِكَ.
    وأمَّا ما وَرَدَ فِي السُّنَّةِ وكلامِ السَّلفِ مِنْ تسميَةِ هذا المعنَى بالنِّيَّةِ، فكثيرٌ جدًّا، ونحنُ نَذْكُرُ بعضَهُ:
    - كما خرَّجَ الإِمامُ أحمدُوالنَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: ((مَنْ غَزَا فِي سَبيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَنْوِ إِلا عِقَالاً، فَلَهُ مَا نَوَى)).
    - وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ أَكْثَرَ شُهَدَاءِ أُمَّتِي لأََصْحَابُ الْفُرُشِ، وَرُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ)).
    - وخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ جَابِرٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
    - ومنْ حديثِ أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا يُبْعَثُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
    - وخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنْيَا مِنْ حديثِ عُمَرَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا يُبْعَثُ الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى النِّيَّاتِ)).
    - وفي (صحيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أُمِّ سَلَمَةَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ، فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ)).
    فَقُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ، فكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كارِهًا؟
    قالَ: ((يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ)).
    - وفيهِ أَيضًا: عَنْ عائِشَةَ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنَى هذا الحديثِ، وقالَ فيهِ: ((يَهْلِكُونَ مَهْلِكًا وَاحِدًا، ويَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ)).
    - وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُوابنُ مَاجَهْ مِنْ حديثِ زَيْدِ بنِ ثابتٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ)) لفْظُ ابنِ مَاجَهْ.
    ولفْظُ أحمدَ: ((مَنْ كَانَ هَمُّهُ الآخِرَةَ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا)).
    - وخرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنْيَا، وعندَهُ: ((مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ)).
    - وفي (الصَّحيحيْنِ): عنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، عَن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُثِبْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ)).
    - ورَوَى ابنُ أبي الدُّنيا: بإسنادٍ مُنْقَطِعٍ عنْ عُمرَ قالَ: (لا عَمَلَ لِمَنْ لا نِيَّةَ لَهُ، ولا أَجْرَ لِمَنَ لا حِسْبَةَ لهُ) يعنِي: لا أَجْرَ لِمَنْ لمْ يَحْتَسِبْ ثَوَابَ عَمَلِهِ عندَ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ.
    -وبإ سنادٍ ضعيفٍ عن ابنِ مَسْعُودٍ قالَ: (لا يَنْفَعُ قَوْلٌ إلا بعَمَلٍ، ولا يَنْفَعُ قَوْلٌ وعَمَلٌ إلا بنِيَّةٍ، ولا يَنْفَعُ قَوْلٌ وعَمَلٌ ونيَّةٌ إلا بما وَافَقَ السُّنَّةَ).
    - وعنْ يَحْيَى بنِ أبِي كثيرٍ قالَ: (تَعَلَّمُوا النِّيَّةَ؛ فإنَّها أَبْلَغُ مِن العَمَلِ).
    - وَعنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ قالَ: (إِنِّي لأَُحِبُّ أنْ تكونَ لي نِيَّةٌ فِي كُلِّ شيءٍ، حتَّى فِي الطَّعامِ والشَّرَابِ).
    - وعنهُ أنَّهُ قالَ: (انْوِ فِي كلِّ شيءٍ تُرِيدُهُ الخيرَ، حتَّى خُرُوجِكَ إلى الْكُنَاسَةِ).
    - وعنْ داودَ الطَّائِيِّ قالَ: (رأيتُ الخَيْرَ كُلَّهُ إنَّما يَجْمَعُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ، وكفاكَ بِهِ خيرًا وإنْ لَمْ تَنْصَبْ).
    - قالَ داودُ: (والبِرُّ هِمَّةُ التَّقِيِّ، ولوْ تَعَلَّقَتْ جَمِيعُ جَوَارِحِهِ بحُبِّ الدُّنيا لرَدَّتْهُ يَوْمًا نِيَّتُهُ إلى أَصْلِهِ).
    - وعنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قالَ: (ما عَالَجْتُ شيئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي؛ لأنَّها تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ).
    وعنْ يُوسُفَ بنِ أسْباطٍ قالَ: (تَخْلِيصُ النِّيَّةِ مِنْ فَسَادِها أشدُّ على العامِلِينَ مِنْ طُولِ الاجْتِهَادِ).
    - وقيلَ لنافِعِ بنِ جُبَيْرٍ: أَلا تَشْهَدُ الجَنَازَةَ؟ قالَ: (كما أنْتَ حتَّى أَنْوِيَ)، قَالَ: فَفَكَّرَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قالَ: (امْض)ِ.
    - وعنْ مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ قالَ: (صلاحُ القلبِ بصلاحِ العَمَلِ، وصلاحُ العَمَلِ بصلاحِ النِّيَّةِ).
    - وعنْ بعضِ السَّلَفِ قالَ: (مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكْمُلَ لَهُ عَمَلُهُ فليُحْسِنْ نِيَّتَهُ؛ فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يأْجُرُ العَبْدَ إذا حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حتَّى باللُّقْمَةِ).
    - وعن ابنِ المُبَارَكِ قالَ: (رُبَّ عَمَلٍ صغيرٍ تُعَظِّمُهُ النِّيَّةُ، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصَغِّرُهُ النيَّةُ).
    - وقالَ ابنُ عَجْلانَ: (لا يَصْلُحُ العمَلُ إلا بثلاثٍ: التَّقْوَى للَّهِ، والنِّيَّةِ الحسنَةِ، والإِصابَةِ).
    - وقال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: (إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ عزَّ وجَلَّ مِنكَ نِيَّتَكَ وإِرادَتَكَ).
    - وعنْ يُوسُفَ بنِ أَسْباطٍ قالَ: (إِيثَارُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ أفضلُ مِن القَتْلِ فِي سبيلِهِ).
    خرَّجَ ذَلِكَ كُلَّه ُابنُ أبي الدُّنيا فِي كتابِ (الإِخلاصِ والنِّيَّةِ).
    - ورَوَى فيهِ بإسنادٍ مُنْقَطِعٍ عنْ عُمَرَ رضِيَ اللَّهُ عنهُ قالَ: (أفضَلُ الأعمالِ: أداءُ ما افْتَرَضَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، والوَرَعُ عمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ، وصِدْقُ النِّيَّةِ فيما عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ).
    وبهذا يُعْلَمُ معنَى ما رُوِيَ عن الإِمامِ أحمدَ أن أُصولَ الإِسلامِ ثلاثةُ أحاديثَ: حديثِ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    وحديثِ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
    وحديثِ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
    فإنَّ الدِّينَ كلَّهُ يَرْجِعُ إلى:
    - فِعْلِ المأموراتِ.
    - وتَرْكِ المَحْظُوراتِ.
    - والتَّوَقُّفِ عن الشُّبُهاتِ.
    وهذا كُلُّهُ تَضَمَّنَهُ حديثُ النُّعْمانِ بنِ بَشِيرٍ.
    وإِنَّما يَتِمُّ ذَلِكَ بأمريْنِ:
    أحدُهما: أنْ يكونَ العمَلُ فِي ظاهِرِهِ على مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ.
    وهذا هوَ الذي تَضَمَّنَهُ حديثُ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
    والثَّاني: أنْ يكونَ العَمَلُ فِي باطِنِهِ يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، كما تَضَمَّنَهُ حديثُ عُمَرَ:((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
    وقالَ الفُضَيْلُ فِي قولِهِ تعالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[الْمُلْك: 2]،
    قالَ: (أَخْلَصُهُ وأَصْوَبُهُ).وقالَ: (إنَّ العَمَلَ:- إذا كانَ خالِصًا، ولمْ يكُنْ صوَابًا ،لم يُقْبَلْ. وإذا كانَ صَوَابًا، ولمْ يكُنْ خالِصًا ، لمْ يُقْبَلْ. حتَّى يكونَ خالِصًا صوَابًا).
    قالَ: (والخالِصُ إذا كانَ للَّهِ عزَّ وجلَّ، والصَّوابُ إذا كانَ على السُّنَّةِ).
    وقدْ دَلَّ على هذا الَّذي قالَهُ الفُضَيْلُ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكَهف: 110].
    وقالَ بعضُ العَارِفينَ: (إنَّما تَفَاضَلُوا بالإِراداتِ، ولم يَتَفَاضَلُوا بالصَّوْمِ والصَّلاةِ).
    وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
    لمَّا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الأَعمالَ بحسَبِ النِّيَّاتِ، وأنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نيَّتُهُ مِنْ خيرٍ أوْ شرٍّ، وهاتانِ كَلِمَتَانِ جامِعَتَانِ، قاعِدَتَانِ كُلِّيَّتَانِ لا يَخْرُجُ عنهُما شيءٌ، ذَكَرَ بعدَ ذَلِكَ مِثالاً مِنْ أمْثَالِ الأعمالِ الَّتي صُورَتُها واحِدَةٌ، ويَخْتَلِفُ صلاحُها وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ، وكأنَّهُ يقولُ: سائِرُ الأعمالِ على حَذْوِ هذا المثالِ.
    وأصْلُ الهِجْرَةِ: هِجرانُ بَلَدِ الشِّرْكِ، والانْتِقَالُ مِنهُ إلى دارِ الإِسلامِ،كما كانَ المُهَاجِرُونَ قبلَ فَتْحِ مَكَّةَ يُهَاجِرُونَ مِنها إِلى مدينةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدْ هَاجَرَ مَنْ هاجَرَ مِنهم قبلَ ذَلِكَ إلى أرضِ الحَبَشَةِ إلى النَّجَاشِيِّ.
    فأخْبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ هذِهِ الهِجْرَةَ تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ النِّيَّاتِ والمَقَاصِدِ بها ، فمَنْ هاجَرَ إلى دارِ الإِسلامِ حُبًّا للَّهِ ورسولِهِ، وَرَغْبَةً فِي تَعَلُّمِ دينِ الإِسلامِ، وإظهارِ دِينِهِ حيثُ كانَ يَعْجِزُ عنهُ فِي دارِ الشِّرْكِ، فهذا هوَ المُهَاجِرُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ حقًّا، وكفَاهُ شَرَفًا وفَخْرًا أنَّهُ حَصَلَ لَهُ ما نَوَاهُ مِنْ هِجْرَتِهِ إلى اللَّهِ ورسولِهِ.
    ولهذا المَعْنَى اقْتَصَرَ فِي جَوَابِ هذا الشَّرْطِ على إِعَادَتِهِ بلفْظِهِ؛ لأنَّ حُصُولَ ما نَوَاهُ بهِجْرَتِهِ نِهَايَةُ المَطْلُوبِ فِي الدُّنيا والآخِرَةِ.
    ومَنْ كانَت هِجْرَتُهُ مِنْ دارِ الشِّرْكِ إلى دارِ الإِسلامِ لطَلَبِ دُنْيا يُصِيبُها، أو امْرَأَةٍ يَنْكِحُها فِي دارِ الإِسلامِ، فهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إليهِ مِنْ ذَلِكَ.
    فالأوَّلُ: تاجِرٌ.
    والثَّاني: خَاطِبٌ.
    وليسَ واحِدٌ مِنهما بمُهَاجِرٍ.
    وفي قولِهِ: ((إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))تَحْقِيرٌ لِمَا طَلَبَهُ مِنْ أمرِ الدُّنيا، واسْتِهَانَةٌ بِهِ؛ حيثُ لَم يَذْكُرْهُ بلَفْظِهِ.
    وأيضًا فالهِجْرَةُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ واحِدَةٌ، فلا تَعَدُّدَ فيها، فلذَلِكَ أعَادَ الجوابَ فيها بلَفْظِ الشَّرْطِ.
    والهِجْرَةُ لأمورِ الدُّنيا لا تَنْحَصِرُ، فقدْ يُهَاجِرُ الإِنسانُ لطَلَبِ دُنيا مُباحَةٍ تَارَةً، ومُحَرَّمَةٍ أُخْرَى، وأفرادُ ما يُقْصَدُ بالهِجْرَةِ مِنْ أُمورِ الدُّنيا لا تَنْحَصِرُ؛ فلذَلِكَ قالَ: ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))يعني: كائِنًا ما كانَ.
    وقدْ رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا فِي قولِهِ تعالَى:{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامتَحِنُوهُنَّ} الآيَةَ [المُمْتَحِنَة: 10] قالَ: (كانَت المرأةُ إذا أَتَت النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَها باللَّهِ: ما خَرَجْتُ مِنْ بُغْضِ زَوْجٍ، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ رَغْبَةً بأَرْضٍ عنْ أرْضٍ، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ التِمَاسَ دُنْيا، وباللَّهِ: ما خَرَجْتُ إلا حُبًّا للَّهِ ورَسُولِهِ).
    خَرَّجَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ، وابنُ جَرِيرٍ، والبَزَّارُ فِي (مُسْنَدِهِ)، وخرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بعضِ نُسَخِ كتابِهِ مُخْتَصَرًا.
    وقدْ رَوَى وَكَيعٌ فِي كتابِهِ عن الأعمشِ، عنْ شَقِيقٍ -هُوَ أبو وائِلٍ- قالَ: (خَطَبَ أعرابِيٌّ مِن الحَيِّ امْرَأةً يُقَالُ لها: أُمُّ قَيْسٍ، فأَبَتْ أنْ تَزَوَّجَهُ حتَّى يُهَاجِرَ، فهَاجَرَ، فتَزَوَّجَتْهُ، فكُنَّا نُسمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ ).
    قالَ: فقالَ عبدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابنَ مسعودٍ: (مَنْ هاجَرَ يَبْتَغِي شيئًا فهوَ لَهُ).
    وهذا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أنَّ هذا لمْ يكُنْ فِي عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنَّما كانَ فِي عهدِ ابنِ مسعودٍ.
    ولكِنْ رُوِيَ مِنْ طريقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَن الأعْمَشِ، عنْ أبي وَائِلٍ، عن ابنِ مسعودٍ قالَ: (كانَ فينا رجلٌ خَطَبَ امْرَأةً يُقالُ لها: أمُّ قَيْسٍ، فأَبَتَ أنْ تَزَوَّجَهُ حتَّى يُهَاجِرَ، فهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا، فكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهاجِرَ أُمِّ قيسٍ).
    قالَ ابنُ مسعودٍ: (مَنْ هاجَرَ لشَيْءٍ فهوَ لَهُ).
    وقد اشْتُهِرَ أنَّ قِصَّةَ مُهاجِرِ أُمِّ قيْسٍ هيَ كانَت سببَ قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا)).
    وذَكَرَ ذَلِكَ كثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ فِي كُتُبِهِم، ولمْ نَرَ لذَلِكَ أصْلاً بإسنادٍ يَصِحُّ، واللَّهُ أعلمُ.
    وسَائِرُ الأعمالِ كالهِجْرَةِ فِي هذا المعنَى ، فصَلاحُها وفسادُها بحسَبِ النِّيَّةِ الباعِثَةِ عليها، كالجِهَادِ والحَجِّ وغيرِهِما.
    وقدْ سُئِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن اخْتِلافِ نِيَّاتِ النَّاسِ فِي الجِهَادِ وما يُقصَدُ بهِ مِن الرِّياءِ وإظهارِ الشَّجاعَةِ والعصبِيَّةِ وغيرِ ذَلِكَ: أيُّ ذَلِكَ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فقالَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
    فخَرَجَ بهذا كُلُّ ما سَأَلُوا عنهُ مِن المَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
    ففِي (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ للمَغْنَمِ، والرَّجُلُ يُقاتِلُ للذِّكْرِ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فمَنْ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
    وفي روايَةٍ لمسلِمٍ: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، فأَيُّ ذَلِكَ فِي سبيلِ اللَّهِ؟ فذَكَرَ الحديثَ.
    وفي روايَةٍ لهُ أيضًا: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ غَضَبًا، ويُقاتِلُ حَمِيَّةً.
    وخَرَّجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ أبِيأُمَامَةَ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ والذِّكْرَ، ما لَهُ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا شَيْءَ لَهُ)) ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)).
    وخَرَّجَ أبو داودَ منْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَجُلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الجِهادَ وهوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا؟
    فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا أَجْرَ لَهُ)).
    فأعادَ عليهِ ثلاثًا، والنَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((لا أَجْرَ لَهُ)).
    وخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ مِنْ حديثِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الغَزْوُ غَزْوَانِ: فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الإِمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ، وَأَمَّا مَنْ غَزَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً، وَعَصَى الإِمَامَ، وَأَفْسَدَ فِي الأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْكَفَافِ)).
    وخرَّجَ أبو داودَ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عن الجِهَادِ والغَزْوِ، فقالَ: ((إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللَّهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا بَعَثَكَ اللَّهُ مُرَائِيًا مُكَاثِرًا، عَلَى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللَّهُ عَلَى تِيكَ الْحَالِ)). وخَرَّجَ مُسْلِمٌ مِنْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَها.
    قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
    قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ.
    قالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَِنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ.
    ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
    وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهَ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
    قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
    قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ.
    ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
    وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا.
    قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
    قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَ

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 06, 2024 9:53 pm