ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 9:55 am

    أبو العباس السفاح أول خلفاء العباسيين 132-136هـ
    هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ولد بالحميمة من الشراة في الأردن عام 105هـ.

    توفي والده محمد بن علي عام 125هـ بالحميمة، وهو الذي بدأ بالدعوة العباسية، وكان السفاح قد ناهز العشرين من العمر، وعرف الكثير من الدعوة وأسرارها، وعهد والده من بعده لابنه إبراهيم (أخي السفاح) الذي عرف فيما بعد بالإمام، وقد عمل على نجاح الدعوة فقوي أمره؛ فأظهر نفسه في الموسم فعرف، كما وقع كتابٌ وجَّهَه إلى أبي مسلم الخراساني في يد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ فأرسل إلى واليه على دمشق، فبعث من أخذه إلى حران (1) (قاعدة مروان) فسجن هناك، وكان قد أوصى من بعده لأخيه السفاح، وأمره أن يسير بأهله إلى الكوفة وذلك عام 129هـ.

    سار السفاح من الحميمة باتجاه الكوفة عن طريق دومة الجندل (2) ومعه من أهله ثلاثة عشر رجلاً هم أعمامه وأخواه، وأبناء إخوته وأبناء عمه..

    وفي الكوفة بُويِع له بالخلافة يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الآخر عام 132هـ..

    وألقى أبو العباس على عادة الخلفاء لدى انتخابهم خطبة في مسجد الكوفة أوضح فيها الهدف الذي من أجله قامت الثورة العباسية وندد بالأمويين الذين وصفهم بمغتصبي الخلافة، ووعد الكوفيين الذين ساندوا الثورة، بزيادة أعطياتهم. (3)

    ولم ينس أن يذكرهم بأنه:"السفاح المبيح، والثائر المبير".. (4)


    الدعائم التي اعتمد عليها السفاح في خلافته
    كان الخليفة أبو العباس مقيمًا بالكوفة، ويبدو أنه أدرك وضعها الشاذ بفعل عدم تأييد غالبية سكانها للثورة العباسية، وكانوا من شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فانتقل منها إلى مكان قريب عُرِفَ بهاشمية الكوفة، غير أنه لم يمكث فيها طويلاً، وانتقل إلى الأنبار شمالي الكوفة، على نهر الفرات في عام 134هـ، وبنى بجوارها مدينة لنفسه عرفت باسم "هاشمية الأنبار" أقام بها حتى وفاته في عام 136هـ..

    قضى أبو العباس معظم عهده في تثبيت حكمه، فحارب القادة العرب الذين ناصروا الأمويين، ثم تخلص من بعض القادة الذين ساندوه في الوصول إلى الحكم بعدما بدرت منهم بوادر انفصالية مثل أبي سلمة الخلال.. (5)

    كان السفاحُ جوَّادًا يُضرَب المثلُ بجوده فقد أعطى عبد الله بن حسن بن الحسن ألفي ألف درهم، وكان عفيفًا عنيفًا متعبدًا..

    تُوُفي بالجدري عام 136هـ في شهر ذي الحجة، وبذا فقد عاش إحدى وثلاثين سنة، ولى الخلافة منها أربع سنوات وبقي بين بيعته ووجود مروان بن محمد حيًا ثمانية أشهر، أي وجود خليفتين في آنٍ واحد.. (6)

    ويبدو من خطبة أبي العباس، ومن كلمة عمه داود بن عليٍّ ثلاث نقاط هي:

    1ـ محاولة إظهار أحقية بني العباس بالخلافة دون غيرهم على اعتبار أن الخلافة وراثية، ولم تكن الخلافة في الإسلام ملكًا متوارثًا وإنما هكذا أصبح بعد الحكم الراشدي..

    2ـ الهجوم على بني أمية، وعَدُّهم ظالمين مستبدين، أخذوا بغير حق وساروا فيه بكل عسف، وهذا شأن كل حاكم جديد بالنسبة لسابقه يبرر قيامه، ويمكِّن لنفسه..

    3ـ الوعد بالحكم بما أنزل الله، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بالصحابة والسلف الصالح، وهذه قناعة الخلفاء، الذين يظنون أن من سبقوهم لم يطبقوا الإسلام بشكل صحيح،والواقع أن الإسلام لم يُتَّبَعْ في صورته الكاملة بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدث تغيير، ولكنه كان تغييرًا طفيفًا تزداد فيه زاوية الانحراف وتتسع أحيانًا، وتضييق أحيانًا أخرى، ويبقى المظهر العام إسلاميًا كل مدة الخلافة، فالخلفاء متمسكون عامَّةً بتعاليم الإسلام، ويفخرون بذلك؛ لذا فهم يأخذون على غيرهم، ويظنون بأنفسهم أنَّ بإمكانهم أن يطبقوا الإسلام بشكلٍ أفضل، ويعملوا له بصورة أحسن، والواقع أن العباسيين في أيامهم الأولى بصورة عامة كانوا أكثر تدينًا من الأمويين، وأكثر تمسكًا بالإسلام، ولكنهم أقل خدمة للأمة، وقد ظهر هذا من كلمة داود بن عليٍّ من اليوم الأول "ولا نحفر نهرًا" وليس معنى هذا أن الأمويين كانوا جملة أمور دينهم مهملين، وأن العباسيين كانوا تاركين أمور رعيتهم، وإنما القضايا نسبية، فقد كان الأمويون أهل فضل ودين وإن وقعت في أيام بعضهم حوادث كان يجب ألا تقع أما ما نُسِبَ لهم، وما قبل فيهم فهو بمجمله محضُ افتراء من صنع الدساسين والخصوم..

    وأشار داود بن عليّ إلى أن منبر الكوفة لم يخطب عليه خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان قد اتخذ الكوفة مقرًا له، وبعده كانت الكوفة مهملة من قبل الخلفاء حتى قام الخليفة السفاح هذا، وفي هذا الكلام إثارة لأبناء الكوفة ليعضدوا الحكم الجديد الذي هو حكمهم إذ أن بلدتهم قد أصبحت قاعدة الخلافة الإسلامية كلها.. (7)

    وفي اليوم الثاني سار السفاح إلى معسكر حمام أعين، واستخلف على الكوفة عمه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي في قوة دعمًا لأبي عون عبد الملك بن يزيد لقتال مروان بن محمد..

    وانتصر عبد الله بن علي بن محمد في معركة الزاب (8) ففر مروان إلى مصر واختبأ ببوصير حتى قتل فيها في ذي الحجة عام 132هـ، وبمقتله خلت إمارة المؤمنين للسفاح إذ ليس للمؤمنين إلا أمير واحد لهم في دار الإسلام..

    لم تقم حركة قوية ضد السفاح بعد عام 134هـ، وفي الوقت نفسه لم تكن دولته موطدة الأركان...

    الدعائم التي اعتمد عليها السفاح في خلافته:

    اعتمد السفاح في خلافته على دعائم ثلاث هي:

    1ـ أسرته:

    لقد كانت أسرة السفاح كبيرة فكانت دعمًا له، ومن يريد أن يؤسس أسرة حاكمة فإن عدد أفراد أسرته يلعب دورًا كبيرًا في تسهيل مهمته فنلاحظ أن سيدنا معاوية رضي الله عنه أسس أسرة لكن لم يطل عهدها، ولم يحكم بعده سوى ابنه يزيد، على حين أن أسرة بني مروان قد استمر أمرها ما يقرب من سبعين سنة لكثرة أولاد عبد الملك بن مروان..

    لقد كان للسفاح سبعة أعمام تسلموا له قيادة الجيوش وإمرة الولايات، فضبطوا الأمر..

    كما كان السفاح يحب أن يكون دائمًا أحد أهل بيته على الإمارة أو قيادة الجيوش ليضمن الأمر، فعندما أرسل أخاه أبا جعفر دعمًا للحسن بن قحطبة كتب إليه: "إن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرًا، فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته"..

    2ـ أبو مسلم الخراساني:

    الذي استطاع بحكمته وحزمه وقوته أن ينجح في الدعوة للعباسيين وأن يقود الجيوش ضد نصر بن سيار والي الأمويين على خراسان، وأن ينتصر عليه رغم حداثة سنة؛ إذ قامت الدولة العباسية، ولم يتجاوز الثانية والثلاثين، وقُتِل ولم يناهز السابعة والثلاثين من عمره، وبقيت خراسان على عهدها ما بقي فيها أبو مسلم بل كان سيف الدولة المصلت تضرب به من يخرج عن طاعتها..

    3ـ العصبية القبلية:

    بزغ قرن العصبية أمام الدولة الأموية، وهذا ما أضعفها، وهدّ كيانها، وكان سببًا في سقوطها وزوالها، وأفاد العباسيون منها، إذ رأوا الفرقة والخلاف بين القيسية واليمنية؛ فلما كان آخر ولاة بني أمية من القيسيين فقد ضم العباسيون اليمنيين إلى صفوفهم، فلما قامت دولتهم بقوا محافظين على هؤلاء اليمنيين لذا نجد أكثر قادتهم منهم.. (9)


    عبد الله أبو جعفر المنصور 136-158هـ
    التعريف به:

    هو عبد الله بن محمد بن علي العباسي، أبو جعفر المنصور، ولد في الحميمة عام 95هـ، وأمه أم ولد تدعى سلامة، ترعرع في وسط المجتمع الهاشمي، وطلب العلم وهو شاب من مظانة وتفقه في الدين، ونال قسطًا من علم الحديث، فنشأ أديبًا فصيحًا ملمًا بسِيَر الملوك..

    انتقل أبو جعفر مع أخيه وأهله من الحميمة إلى الكوفة، وعندما أفضت الخلافة إلى أخيه أبي العباس، كان ساعده الأشد في تدبير أمور الخلافة، فولاه الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان، ووجهه إلى خراسان لأخذ البيعة له، كما عهد إليه من بعده..

    توفي السفاح، وأبو جعفر في الحجاز أميرًا على الحج، فأخذ له البيعة ابن أخيه عيسى بن موسى في الأنبار، وكتب إليه بذلك..

    اتصف المنصور بالشدة والبأس، واليقظة والحزم والصلاح والاهتمام بمصالح الرعية، كَرِهَ سفك الدماء إلا بالحق، وعرف بالثبات عند الشدائد، ولا شك أن هذه الصفة كانت من أبرز الصفات التي كفلت له النجاح..

    الأوضاع الداخلية في عهد المنصور:

    عصيان عبد الله بن علي:

    تولى أبو جعفر المنصور الخلافة ولم تكن قد توطدت دعائمها بعد، وقد خشي من منافسة عمه عبد الله بن علي الذي كان يطلب الخلافة، كما انتابه الخوف من تعاظم نفوذ أبي مسلم الخراساني، ومن خروج بني عمه آل علي بن أبي طالب على حكمه فكيف واجه المنصور هذه المشاكل الثلاث؟

    الواضح أن الخليفة كان يجمع الجرأة وبُعد الهمة والمكر والدهاء، فعزم على ضرب أعدائه بعضهم ببعض، حتى تخلو له الساحة السياسية..

    كان لعبد الله بن علي رؤية خاصة في مشكلة الحكم، فهو بالإضافة إلى طمعه بالخلافة، فإنه انزعج من ابني أخيه أبي العباس وأبي جعفر بفعل ميلهم الشديد للفرس..

    وكان أبو جعفر على حقٍّ حين خشي من طموحات عمه الذي خرج غازيًا البيزنطيين في عهد أبي العباس على رأس جيش ضم عددًا كبيرًا من العرب، وعندما وصل إلى دلوك بنواحي حلب، علم بوفاة السفاح وبيعة المنصور، فتوقف عن الزحف، ورحل إلى حران حيث اجتمع بأركان حربه، وتقرر ترشيح نفسه للخلافة فبايعه الجند، ومن ثم راح يزحف متجهًا نحو الجزيرة.

    وهكذا استخدم عبد الله هذا الجيش الذي أعد أساسًا لغزو البيزنطيين لتحقيق أطماعه في الخلافة، مدعًيا أن أبا العباس أقامه وليًا لعهده حينما أرسله لقتال مروان الثاني..

    تصرف المنصور تجاه هذا الخطر تصرفًا حكيمًا، دلَّ على أنه لا يحكِّم العواطف في القضايا الأساسية، فندب أبا مسلم لقتاله رغم حقده عليه، مظهرًا بذلك براعة سياسية، لضرب أعدائه بعضهم ببعض، بالإضافة إلى أنه كان يأمل باستقطاب الخراسانيين في جيش عمه عن طريق حاكم خراسان الذي أبدى استعدادًا للتصدي لحركة التمرد..

    وتمكن أبو مسلم بدهائه السياسي والعسكري من التغلب على عبد الله بن علي في معركة جرت بينهما قرب نصيبين في منطقة الجزيرة، وفر عبد الله بعد هزيمته إلى البصرة ملتجئًا إلى أخيه سليمان بن علي، وظل متواريًا عنده إلى أن علم المنصور بذلك فأرسل يطلبه، وأعطاه من الأمان ما وثق به، وعندما جاءه قبض عليه وسجنه، وذلك عام 139هـ وظل مسجونًا حتى عام 147هـ حين قتله المنصور.. (10)

    كما نجح أبو جعفر المنصور في القضاء على أبي مسلم عام 137هـ، والطالبيين الخارجين عليه عام 145هـ (محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم) وقد سبق الحديث عن هذه الحركات..

    الأوضاع الخارجية في عهد المنصور:

    العلاقة مع البيزنطيين:

    اتسمت الحروب بين المسلمين والبيزنطيين في عهد المنصور بالمهادنة إذ لم تتعد المناوشات الحدودية المحدودة وذلك يعود إلى اهتمام العباسيين بتدعيم مركزهم الداخلي.. بالمقابل كان اهتمام الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الخامس منصبًا على التجهيزات لحرب البلغار في البلقان من جهة، ومشكلة عبادة الأيقونات من جهة أخرى..

    حيال هذا الواقع، كان الخليفة العباسي يتطلع إلى إعادة بناء ما تهدم من حصون، وثغور مستغلاً الهدوء النسبي المتوقع..

    والواضح أن المنصور اتبع تجاه الدولة البيزنطية، السياسة التي تتفق مع الوضع الهجومي الذي نفذه الإمبراطور البيزنطي، وهي محاولة إيقاف الهجوم عن طريق إعادة تحصين الثغور، وترميم المخربة منها وإعادة بناء المهدمة، ثم تنظيم وسائل الدفاع عنها، والجدير بالذكر أن مناطق الثغور كانت تنقسم إلى قسمين:

    الأولى: منطقة الثغور الجَزَرِيَّة، وهي التي خصصت للدفاع عن الجزيرة أي شماليها، ومن أهم حصونها ملطية، المصيصة، ومرعش..

    الثانية: منطقة الثغور الشامية، وتقع غربي الثغور الجزرية، وقد خصصت للدفاع عن بلاد الشام، ومن أهم حصونها طرسوس وأذنة وعين زربة..

    لقد حصن المنصور هذه المناطق وخصصها بحكم إداري مستقل وحشد فيها آلاف المقاتلين والمرابطين، ومنحهم الإقطاعات، والمزارع وبني لهم البيوت والإصطبلات، وأنفق عليهم الأموال، ووضع لهم نظامًا عسكريًا ينفذونه..

    هذا وقد امتازت منطقة الثغور الشامية بأن الحملات التي كانت تخرج منها برية وبحرية في آنٍ واحد، وقد أدت أساطيل مصر والشام دورًا مشتركًا مهمًا انطلاقًا من هذه المنطقة..

    وبهذا النظام الثغري استطاع المنصور أن يضع حدًا لمطامع البيزنطيين.. (11)

    بناء مدينة بغداد:

    كان من بين أهم الأعمال التي قام بها الخليفة أبو جعفر المنصور،وتركت أثرها في مستقبل الدولة الخلافة العباسية، بناؤه مدينة بغداد والواقع أن تاريخ هذه المدينة باعتبارها قاعدة من القواعد الإسلامية يسير جنبًا إلى جنب مع قيام دولة الخلافة العباسية وسقوطها، وقد ظل العباسيون قبل ذلك ثلاثة عشر عامًا منذ وصولهم إلى الحكم دون عاصمة لملكهم حتى بنوا بغداد..

    لقد أدرك المنصور المخاطر التي أحاطت بدولته الناشئة، والتي تهدف إلى تقويض حكم الأسرة العباسية، لذا عمد إلى البحث عن مكان يكون ملائمًَا لعاصمة جديدة تكون تعبيرًا عن سيادة أسرته فاختار موضعًا عند التقاء نهر الصراة بنهر دجلة وأقام فيه مدينة بغداد..

    واسم بغداد مشتق على الأرجح من صيغة فارسية مركبة من كلمتين هما "باغ" و"داد" تعني عطية الله، وذكر المؤرخون والجغرافيون العرب عدة اشتقاقات لهذا الاسم، وسماها المنصور "مدينة السلام" تيمنًا بجنة الخلد، أو لأن وادي دجلة كان يقال له: وادي السلام، وكان هذا هو الاسم الرسمي الذي يذكر في الوثائق وعلى المسكوكات والأوزان..

    وقد شرع المنصور في بناء عاصمته عام 145هـ، وقد استغرق بناؤها أربعة أعوام تقريبًا انتهى عام 149هـ..

    ويعتبر المخطَّط الذي نفذه المنصور مبتكرًا، فقد جعل المدينة مستديرة تحيط بها أسوار مزدوجة تؤلف حلقتين متتابعتين، وهذا اتجاه جديد في فن بناء المدن الإسلامية، ويبدو أنه قد تأثر ببناء بعض المدن الفارسية القديمة مثل: همذان..

    شيدت مدينة بغداد على شكل حصن كبير وتألفت من ثلاثة عناصر معمارية هي: التحصينات، الأسوار الخارجية، ثم المنطقة السكنية الداخلية، وضم وسط المدينة قصر الخليفة والجامع وقصور أولاده ودواوين الحكومة، ولم يكن يُسمح لأحد بركوب الخيل أو غيرها من الدواب داخل المدينة الداخلية إلا للخليفة، وإن من يريد القصر عليه الترجل عند مداخل المدينة الداخلية، ويسير على الأقدام باستثناء المهدي، وداود بن علي عم المنصور الذي سمح له بأن يحمل في محفة نظرًا لمرضه..

    وعندما فرغ المنصور من بناء بغداد أقطع أهل بيته وأعيان دولته قطائع من الأرض بجوار الأبواب خارج مدينته، ومنح جنوده الأرباض ليبنوا عليها دورهم، وذلك رغبة في تخفيف الضغط عن المدينة من جهة، ومكافأة لهم على ما قدموه من الخدمات الجليلة من جهة أخرى، وسرعان ما عمرت القطائع وازدحمت بالسكان، وأضحت كل قطيعة تعرف باسم الرجل أو الطائفة التي تسكنها..

    ويظهر الأثر الفارسي في تخطيط المدينة، إذ فُصِل الخليفةُ عن الرعية، وجُعِل له مقامٌ سامٍ يصعب الوصول إليه،كما أن ضخامة القصر والإيوان تظهر روعة الملك، ثم إن فكرة الاستدارة، وحصر بيوت السكان في أحياء منفصلة، يمكن غلقها ليلاً وحراستها بصورة دقيقة، يشير إلى السلطة المطلقة المتأثرة بالفرس والتي تتعارض مع سماحة الإسلام وما عُرِف عن الأمويين..

    وبنى المنصور في عام 151هـ مدينة الرصافة أو بغداد الشرقية لابنه المهدي على الجانب الشرقي من دجلة مقابل مدينة بغداد الغربية، وقد عرفت باسم "عسكر المهدي"، وتعود الأسباب الاستراتيجية لتبرز من جديد في بنائها حيث وضع المهدي جنده فيها ليكون من في خارج مدينة المنصور عونًا في قمع الاضطرابات التي قد تنشب داخلها، ويبدو أن الخليفة أدرك أنه لن يكون آمنًا كل الأمن على نفسه بإقامته في بغداد، وجهزت الرصافة بسور وميدان وبستان وأجرى عليها الماء وربط بين المدينتين بثلاثة جسور على نهر دجلة، ومنح القواد فيها القطائع، وسرعان ما عمرت الرصافة حتى قاربت بغداد في الاتساع، وانتهى بناء الرصافة في عام 159هـ في عهد الخليفة المهدي.. (12)

    ولاية العهد:

    من الأحداث المؤثرة التي وقعت في عهد المنصور خلعه لابن أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد، وأخذه البيعة لابنه المهدي، بالرغم من أن هذا الأول كان قد أنفذ له ملكه أكثر من مرة، ويبدو أن الخليفة فكر في خلع ابن أخيه في بداية عهده، فيذكر الطبري أنه أوفد عيسى بن موسى لمحاربة العلويين وفي نيته أن يتخلص إما من ولي عهده ليحوِّل الخلافة إلى ابنه المهدي، أو من محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وقال: ".لا أبالي أيهما قتل صاحبه"..

    لكن كبار رجال الدولة كانوا قد أقسموا في حياة السفاح على بيعة عيسى بن موسى، ولم يكن من السهل عليهم نقضها، ولم يكن ثمة مناص لتحللهم منها إلا بحمل عيسى بن موسى على الانسحاب طوعًا والتخلي عن ولاية العهد، ويبدو أنه لم يكن راغبًا في ذلك مما دفع المنصور إلى استعمال وسائل الترغيب والترهيب التي أدت بدورها إلى اضطراره إلى خلع نفسه، ومبايعة المهدي في عام 147هـ، وأضحت ولاية العهد للمهدي أولاً ثم لعيسى بن موسى من بعده..

    وأسرع المنصور فحمل الناس على بيعة المهدي، وأوصاه بوصية تكشف عن السياسة الرشيدة التي يجب عليه تطبيقها تجاه رعيته فحثه على الرأفة بهم، والسهر على راحتهم، وبسط العدل بينهم، والتقرب إلى الله بحسن السيرة وإجلال أهل العلم والدين، وعمارة الأرض وتخفيف الخراج، ونشر الإسلام والجهاد في سبيل إعلاء كلمته..

    وفي عام 158هـ تُوُفي المنصور، وهو في طريقه لأداء فريضة الحج... (13)
    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty رد: العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 9:56 am

    الخليفة العباسي هارون الرشيد 170-193هـ
    التعريف به:

    هو أمير المؤمنين هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، أبو محمد، ويقال: أبو جعفر، وأمه الخيزران أم ولد، بويع له بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي سنة 170هـ بعهد من أبيه المهدي..

    روى الحديث عن أبيه وجده، وحدث عن المبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"..

    وقد غزا الصائفة في حياة أبيه مرارًا، وعقد الهدنة بين المسلمين والروم بعد محاصرته القسطنطينية، وقد لقي المسلمون من ذلك جهدًا جهيدًا وخوفًا شديدًا، وكان الصلح مع امرأة ليون وهي الملقبة "بأغسطة" على حمل كثير تبذله للمسلمين في كل عام، ففرح المسلمون بذلك، وكان هذا هو الذي حدا بأبيه إلى البيعة له بعد أخيه في سنة 166هـ، ثم لما أفضت إليه الخلافة في سنة 170هـ كان من أحسن الناس سيرة، وأكثرهم غزوًا وحجًا... (14)

    ولهذا قال فيه أبو المعالي الكلابي:

    فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور

    ففي أرض العدو على طمر وفي أرض الترفه فوق كور

    وما حز الثغور سواك خلق من المتخلفين على الأمور (15)

    كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق لدنيا إلا أن تعرض له عِلَّة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حجَّ حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحجَّ ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة... (16)

    كان يحب التشبه بجده أبي جعفر المنصور إلا في العطاء، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال ثم المأمون من بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه، وكان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص ويقول: هو شيء لا نتيجة له وبالحري ألا يكون فيه ثواب..

    وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن، فقال: لئن ظفرت به لأضربنَّ عنقه، كما قتل الرشيد رجلاً آخر قال بخلق القرآن، وحدثه أبو معاوية يومًا عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، فقال عَمُّ الرشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من ذلك غضبًا شديدًا، وقال: أتعترض على الحديث؟ عليَّ بالنطع (17) والسيف، فأحضر ذلك فقام الناس يشفعون فيه؛ فقال الرشيد: هذه زندقة ثم أمر بسجنه، وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا، فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها؛ فأطلقه... (18)

    وقد قال له بعض أهل العلم يومًا: يا أمير المؤمنين انظر هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر، ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك، فقال الرشيد: أولست كذلك؟! أنا والله أحبهم، وأحب من يحبهم، وأعاقب من يبغضهما..

    دخل عليه ابن السماك يومًا؛ فاستسقى الرشيد فأُتِيَ بقُلة فيها ماء مبرد، ثم قال لابن السماك: عظني، فقال: يا أمير المؤمنين !!

    بكم كنت مشتريًا هذه الشربة لو مُنِعْتَها؟ فقال: نصف ملكي، فقال: اشرب هنيئًا، فلما شرب قال: أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك؟ قال: بنصف ملكي الآخر، فقال: إن ملكًا قيمة نصفه شربة ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لخليق أن لا يُتَنَافس فيه.. فبكى هارون الرشيد.. (19)

    كان الرشيد يحب المديح ولا سيما من شاعر فصيح ويشتريه بالثمن الغالي، فقد ذكر أن مروان بن أبي حفصة دخل عليه ذات يوم فأنشده شعره الذي يقول فيه:

    وسُدت بهارون الثغور فأحكمت به من أمور المسـلمين المرائـــرُ

    وما انفك معقودًا بنصر لـواؤه له عسكر عنه تُشَظَّى العسـاكـرُ

    وكل ملوك الروم أعطـاه جزية على الرغم قسرًا عن يدٍ وهو صاغرُ

    إلى آخر الأبيات، فأعطاه خمسة آلاف دينار، وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه. (20)

    تعظيمه لأهل العلم:

    لقد كان الرشيد معظمًا لأهل العلم محبًا لهم، فقد روى أبو معاوية الضرير قائلاً: ما ذكرتُ عنده ـ أي الرشيد ـ حديثًا إلا قال صلى الله عليه وسلم على سيدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبلَّ الثرى، وأكلت عنده يومًا، ثم قمت لأغسل يدي فصبَّ علي الماء وأنا لا أراه، ثم قال: يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا.. قال: يصب عليك أمير المؤمنين قال أبو معاوية: فدعوت له، فقال: إنما أردت تعظيم العلم. (21)

    الأوضاع الداخلية في عهد الرشيد:

    العلاقة مع الطالبيين:

    أراد الرشيد في مستهل حكمه أن يستميل الطالبيين عن طريق الرفق بهم بعد سياسة الهادي العنيفة تجاههم، فمال إلى التساهل، والتعاطف معهم، وبذل لهم الأمان، ورفع الحَجْر عمَّن كان منهم في بغداد، وأعادهم إلى المدينة باستثناء العباس بن الحسن بن عبد الله، وعزل والي المدينة الذي اضطهدهم. (22)

    لكن الطالبيين لم يُعدِّلوا اعتقادهم الراسخ بأحقيتهم بالخلافة ولم يتوقفوا عن النضال في سبيل الوصول إليها، ومن أجل ذلك لم يدم الصفاء بين الجانبين العباسي والعلوي، وعاد الصراع عنيفًا بينهما..

    وكانت موقعة "فخ" بعيدة الأثر، فقد نجا منها اثنان من زعماء الطالبيين هما: إدريس بن عبد الله بن الحسن، وقد ذهب إلى إفريقية، وأخوه يحيى الذي يمم وجهه شطر بلاد الديلم في المشرق..

    أما إدريس فقد استقر في إقليم طنجة بالمغرب الأقصى، وحظي بالتفاف البربر حوله، وأقام لنفسه دولة مستقلة هي دولة الأدارسة، وهي أول دولة طالبية تنفصل عن جسم الخلافة العباسية..

    لقد هددت هذه الدولة النفوذ العباسي في شمالي إفريقية؛ لذلك قرر الرشيد القضاء عليها، ولكنه تردد في إرسال جيش بفعل بُعْدِ المسافة، وخشيته من امتداد نفوذ إدريس إلى مصر وبلاد الشام إن هو تغلب على الجيش العباسي، وبالتالي القضاء على دولة الخلافة العباسية..

    فلجأ عندئذ إلى الحيلة ليتخلص من إدريس، ووقع اختياره على رجل مشهور بالدهاء هو سليمان بن جرير المعروف بالشماخ، فاستخدمه لاغتياله، وفعلاً تمكن هذا الرجل من قتل إدريس بالسم في عام 177هـ..

    ولكن موته لم يقضِ على دولة الأدارسة فقد كان متزوج من أمة بربرية، حملت منه فانتظر أتباعه حتى وضعت، وكان مولودًا ذكرًا فأسموه إدريس، ولما بلغ الحادية عشرة من عمره ولاه البربر أمورهم وبايعوه بالخلافة، وأصبح المؤسس الحقيقي لدولة الأدارسة في المغرب..

    وعندما ازداد خطر هذه الدولة أقطع الرشيد إبراهيم بن الأغلب ولاية إفريقية ليقف في وجهها. (23)

    وأما يحيى فقد اشتدت شوكته في بلاد الديلم، وقوي أمره بمن التف حوله من الأتباع، ثم أعلن خروجه في عام 176هـ (24) وبذلك هدد يحيى دولة الخلافة العباسية وأقلق بال الرشيد، ومما أعطى حركته قوة، بُعْدَ المنطقة التي خرج فيها عن بغداد، ومناعتها الطبيعية..

    واستقر رأي الخليفة على القضاء على حركة يحيى، فندب الفضل بن يحيى البرمكي لهذه الغاية الذي نجح في استمالته، بعد أن انفضَّ أتباعه من حوله، فمال إلى الصلح على أن يكتب له الرشيد أمانًا بخطه على نسخة يبعث بها إليه، فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد؛ فسره وعظم موقعه عنده وكتب أمانًا ليحيى بن عبد الله أشهد عليه الفقهاء والقضاة وجِلَّة بني هاشم ومشايخهم، واستقبله الرشيد في بغداد.. (25)

    ويبدو أن الخليفة لم يطمئن إلى نوايا يحيى، وأدت الحاشية دورًا في إفساد العلاقة بينهما، فوضعه تحت رقابة الفضل بن يحيى وقد أثر يحيى عليه حتى أطلقه بدون علم الخليفة وذهب إلى الحجاز، ثم بلغ الرشيد أن يحيى يدعو إلى نفسه في الحجاز، فوافق ذلك ما كان في نفسه، فقبض عليه وسجنه ثم قتله..

    وكان الرشيد يراقب تحركات الطالبيين في الحجاز، فعلم بالتفاف الناس حول الإمام موسى الكاظم بن جعفر، وأنهم يحملون إليه خُمْسَ أموالهم، وهذا يعني أنهم يعتقدون بإمامته، فقبض عليه وسجنه، وتوفي عام 183هـ، والراجح أنه قُتِل..

    حركة الخوارج:

    لم يكن الاضطراب الذي ساد بعض أجزاء دولة الخلافة العباسية ناشئًا عن حركات الطالبيين وحدهم، بل وُجِدَ فريقٌ من المسلمين أنكر على الخلفاء العباسيين استبدادهم، وخروجهم على الأحكام الشرعية، وهؤلاء هم الخوارج الذين نشطوا في عهد الرشيد في منطقة الجزيرة في عام 178هـ، بقيادة طريف الشاري وبسطوا هيمنة فعلية على أرمينيا وأذربيجان، وهددوا السواد في العراق على نهر ديالي، ووصلوا إلى حلوان..

    اهتم الرشيد بأمر هذه الجماعة فأرسل قوة عسكرية في عام 179هـ، بقيادة يزيد بن مزيد الشيباني اصطدمت بها في حديثة الفرات على بعد فراسخ من الأنبار، وقضت عليها وعلى زعيمها. (26)

    الاضطرابات في أفريقية:

    سادت الاضطرابات في أإفريقية اعتبارًا من عام 171هـ بفعل خروج الخوارج وقادة الجند والبربر، فأرسل الرشيد هرثمة بن أعيَن واليًا على إفريقية، وأمره بقمع الانتفاضات وتوطيد الأمن، فنجح في مهمته، ودخل القيروان وأمَّن الناس..

    ويبدو أن الخلافات بين الفئات الإسلامية المتعددة كانت واسعة فتجددت القلاقل، ولم يتمكن هرثمة من رأب الصدع، فعزله الخليفة بناء على طلبه عام 180هـ، كما لم يتمكن الولاة الذين جاؤوا من بعده من السيطرة على الموقف فاستغل إبراهيم بن الأغلب عامل إقليم الزاب (في الجزائر اليوم) هذه الأوضاع القلقة، وطلب من الخليفة توليته على إفريقية، ووعده بتهدئة الوضع..

    استجاب الخليفة لطلب عامله وعهد إليه بالولاية على أفريقية عام 184هـ، ونجح إبراهيم في تحقيق الاستقرار متبعًا في ذلك سياسة معتدلة، وازدهرت إفريقية في عهده، وشهدت حركة عمرانية واسعة ونشاطًا اقتصاديًا كبيرًا، وقد مهَّد إبراهيم هذا لقيام دولة الأغالبة التي ما لبثت أن استقلت عن الإدارة المركزية في بغداد واتخذت القيروان حاضرة لها.. (27)

    الاضطرابات في المشرق:

    أطلق الرشيد يد عماله على الأقاليم ولم يتهمهم في تصرفاتهم فاشتاط بعضهم،

    وحجَّ الرشيد في عام (186هـ/ 802م) واصطحب معه ولديه لتنفيذ ما اتفق عليه.. فأخذ العهد عليهما بألا يتدخلا في شؤون بعضهما البعض، وفي شؤون أخيهما المؤتمن.. وعلَّق نسخة من العهد في فناء الكعبة ليزيد في قدسيته وليؤكد تنفيذه..

    خرج الرشيد من بغداد في عام (193هـ/ 808م) قاصدًا خراسان لوضع حَدٍّ لثورة رافع بن الليث، واستخلف ابنه محمد الأمين على بغداد، واصطحب معه ابنه عبد الله المأمون، وكان الرشيد يشكو من عِلَّة في بطنه ويرتدي حزامًا من حرير لتسكين الألم، ولما وصل إلى طوس في شهر صفر، اشتدت عليه العلة حتى عجز عن القيام..

    وتوفي ليلة السبت لثلاث خلون من شهر جمُادَى الآخرة 193هـ/ شهر آذار عام 809م..
    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty رد: العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 9:57 am

    شبهات حول الخليفة العباسي هارون الرشيد
    عندما نقرأ في تاريخ القادة والزعماء الأوروبيين، وأصحاب الإمبراطوريات والممالك، لا نجد أحدًا من المؤرخين يلقى بالاً للسيرة الشخصية، أو يُعْنَى بتفاصيلها لواحد من الملوك أو الأباطرة، فلا يحكم على الرجل إلا بما قام من أعمال عامة تضر بالدولة أو ترفع من شأنها..

    أما التاريخ الإسلامي فإننا نرى العجب في العناية بالسير الخاصة والأخلاق الشخصية المحضة للأعلام البارزين في تاريخ المسلمين، حيث يدخلون معهم في حجرة نومهم، ويتبعونهم في مجالسهم الخاصة ليسردوا من أخبارهم التي تستمد ـ غالبًا ـ من محض الخيال الذي يشتهي الحط من شأن تلك الشخصيات، أو من طريق الخدم الذين لا يُعتمد على أخبارهم، لأن أخبارهم لا تعدوا أن تكون أخبار آحاد، دفعتهم أغراض خاصة للتوسع في هذه الشائعات الكاذبة..

    ومن هذا النوع ما ذكروه عن الخليفة العباسي هارون الرشيد، قالوا: إنه كان يتعاطى الخمر، ويسكر مع الندماء، وأبرزوه ـ على صفحات التاريخ ـ في صورة العِرْبيد الذي لا يفيق، وأفاضوا في الحديث عن وصف مجالس اللهو والمجون التي كانت تُعقد في قصره إلى طلوع الشمس حتى التصقت قصة ألف ليلة وليلة بحياة الرشيد..

    دفع الشبهة:

    فإذا كان الفتى ابن بيئته، فإننا نجد أن الرشيد وُلِد، وتربى في بيت يحرص أهله على التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية، حيث كان جده أبو جعفر المنصور من كبار فقهاء عصره، وكان أبوه محمد المهدي من أشد الخلفاء طاعة لرجال الدين، وأعنفهم على الزنادقة والمارقين، أما أساتذته فإنه درس على أيدي كبار الشيوخ الذين عرفوا بالورع والتقوى، أمثال: علي بن حمزة الكسائي أحد شيوخ القراءات السبع، وإمام أئمة أهل الكوفة في اللغة والنحو والأخبار، كما جالس ـ في شبابه ـ فقهاء عصره، الذين منهم: أبو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وغيرهما من العلماء والقضاة، وظل على صلة وثيقة بهم حتى آخر أيامه..

    وعلى الرغم من أن المصادر الموثوق بها من كتب التاريخ أبرزت جانب الصلاح والتقوى لهارون الرشيد، إلا أن بعض هذه المصادر اعتمدت على الروايات المدسوسة التي تغض من كرامة الرشيد، وتحط من قدره..

    ولننظر مثلاً إلى قول إمام من أئمة المؤرخين المسلمين ألا وهو ابن خلدون حيث قال بعد ما ذكر حديث المفترين على الرشيد: "وأين هذا من حاله وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء، ومحاورته للفضيل بن عياض، و ابن السماك، والعمري، ومكاتبته لسفيان الثوري وبكاؤه من مواعظهم، ودعاؤه بمكة في طوافه، وما كان عليه من المحافظة على أوقات الصلاة، وشهود صلاة الصبح لأول وقتها"..

    ثم يقول: حكى الطبري وغيره أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة، وكان يغزو عامًا ويحج عامًا..

    أما ابن الأثير فإنه ينقل المناقضات والأخبار المتضاربة عن الرشيد فيقول في مجونه عندما تحدث عن نكبة البرامكة، كما أنه كان لا يصبر عن جعفر بن يحيى البرمكي، كما أنه كان لايصبر عن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشراب"..

    بينما يذكر في مكان آخر هذه العبارة: "كان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا من مرض، وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة، وكان يحب الشعر والشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين"..

    ويستمر ابن الأثير يقدم الأدلة على تقوى الرشيد وورعه فيقول: "إن الرشيد اعتمر في شهر رمضان وعاد إلى المدينة عام 179هـ وأقام بها إلى وقت الحج، وحج بالناس ومشى من مكة إلى منى ثم منها إلى عرفات، وشهد المشاعر كلها ماشيًا على قدميه"... (28)

    ومن المتناقضات العجيبة في كتب التاريخ أيضًا ما ذكره ابن طباطبا الشيعي في كتابه "الفخري في الآداب السلطانية" حيث قال: "إن الرشيد لما أراد أن يقتل جعفر بن يحيى البرمكي أرسل إليه مسرورًا الخادم ليقتله، فلما دخل مسرور على جعفر، وأخبره بأمر الرشيد، وقع على قدميه، وقال له: عَاوِدْ أمير المؤمنين، فإن الشراب قد حمله على ذلك"..

    وهذا القول واضح في الدلالة على أن الرشيد كان يشرب الخمر..

    ولكننا نرى بعد ذلك بصفحة واحدة قولاً آخر عن ابن طباطبا يناقض قوله السابق حيث قال: "إن الرشيد كان قد أقام الحدَّ على ابنه المأمون في جارية وُجِدَ معها... أو في خمر شربه"..

    فتأمل معي أيها القارئ الكريم ما بين الروايتين من التناقض: إذ كيف يبيح الرشيد لنفسه شرب الخمر، ثم يقيم الحد على ابنه في شربها؟!

    المستشرقون ينصفون الرشيد:

    في الوقت الذي يتناقض فيه المؤرخون العرب في أمر الرشيد، ولا يقطعون برأي في الحكم عليه، نجد أحد المستشرقين لم يطاوعه قلمه ليخوض فيما خاض فيه المؤرخون المسلمون بالنسبة لهارون الرشيد وترفَّع ـ بعقله وعلمه ـ عن الهوى النازل عن مستوى الشرفاء..

    هذا المستشرق هو: ل.أ. سيدبو في كتابه "تاريخ العرب العام" حيث قال في الرشيد ما يأتي: "وكان الرشيد ـ وهو المتدين المتصدق ـ قائمًا بجميع الفروض، كأشد المسلمين إيمانًا، وكان لصفات الرشيد العالية، أبلغ الأثر في العرب، ولا يزال مجد الرشيد يتألق في سماء المشرق بأسطع نور". (29)

    شهادة الفضيل بن عياض لهارون الرشيد:

    وتلك شهادة عالم ناسك من أهل الورع والتقوى كان معاصرًا للرشيد، نقلها أبو المحاسن في كتابه"النجوم الزاهرة" حيث قال: "قال عبد الرازق بن همام: كنت يومًا مع الفضيل بن عياض بمكة، فمَرَّ هارون الرشيد، فقال الفضيل: الناس يكرهون هذا، وما في الأرض أعز عليَّ منه "لو مات لرأيت أمورًا عظامًا"..

    ويذكر السيوطي: أن الرشيد كان من عادته في كل حجة يحجها، أن يوزع أموالاً طائلة وصدقات عظيمة على سكان الحرمين الشريفين وفقراء الحجيج.. ثم يقول: "ولم يسبقه في مثل هذا خليفة قبله، وربما كان السبب في عنايته بالحج واهتمامه بالترفيه عن أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة، أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قبل توليته الخلافة؛ فقال له: إن هذا الأمر صائر إليك، فاغزُ، وحِجَّ، ووَسِّعْ على أهل الحرمين"..

    مظاهر تدين الرشيد:

    لم يكن التدين في سلوك الرشيد صلاة يظهر بها أمام الناس، أو حجًا يباهي به في كل موسم أو صدقات يعلنها ليمدحه رجال الدين.

    وإنما كان الوازع الديني يقظًا في سر الرشيد وعلانيته، ويتمثل ذلك في تصرفاته وحرصه على سيطرة الدين في المجتمع الإسلامي بالصور الآتية:

    1ـ كراهيته لعلماء الكلام:

    فقد كان ـ لشدة تمسكه بالدين ـ يكره المراء والجدل فيه ويقول: "إن الجدال في الدين شيء لا فائدة فيه.. وبالأحرى لا ثواب فيه"..

    وسمع أن رجلاً يقول بخلق القرآن، فأحضره وسأله عما قيل عنه؛ فاعترف الرجل برأيه في القرآن بأنه مخلوق؛ فضرب عنقه في الحال"..

    ولقد وصل كرهه للجدل في الدين حدًا جعله يفهم أن كثرة المناقشة في المسائل الدينية تسبب التشويش والخلط عند البسطاء من العامة، فتفتح عليهم طرق الانحراف بالدين عن وجه الصواب..

    بل وصل به الأمر إلى وضع العلماء الذين عُرِفُوا بالجدل في السجن حتى لا ينشروا البلبلة والتردد في المسائل الدينية..

    2ـ انقياده للصواب كلما تبين له وجه الحق:

    ظل الرشيد يحول بين علماء الكلام وبين عامة الناس حتى تبين له أنه في حاجة إلى مثل هؤلاء العلماء للدفاع عن الدين بتفوقهم في الجدل، وقدرتهم على إقامة الحجة، وقد ظهرت له هذه الحقيقة بسبب القصة الآتية: وهي أن أحد ملوك السند طلب من الرشيد أن يبعث إليه من يناظره في الدين الإسلامي ليرى فيه رأيه، فبعث إليه الرشيد أحد القضاة، وجرت بين هذا القاضي وبين رئيس علماء السند مناظرة أمام الملك، حيث سأل كبير علماء السند قاضي المسلمين قائلاً: أخبرني عن معبودك: هل هو القادر؟ قال القاضي: نعم، قال السندي: قادر على أن يخلق مثله؟ فامتنع القاضي عن الإجابة، وقال: هذه المسألة من علم الكلام وهو بدعة، وأصحابنا ينكرونه فاتجه السندي للملك، وقال له: قد كنت أعلمتُك دينهم، فكتب ملك السند بذلك إلى الرشيد فغضب غضبًا شديدًا، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟! فقالت الحاشية: بلى يا أمير المؤمنين هم الذين نهيتهم عن الجدل فيه، وألقيت جماعة مهم في السجن؛ فقال: أحضروهم، فلما حضروا سألهم: ما تقولون في هذه المسألة؟ فقال أحدهم: هذا السؤال محال لأن المخلوق لا يكون إلا محدثًا، والمحدث لا يكون مثل القديم، فقد استحال أن يقال: يقدر أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما استحال أن يقال: يقدر أن يكون عاجزًا أو جاهلاً، فاختار الرشيد أحد هؤلاء العلماء فأرسله إلى ملك السند، ثم أطلق سراح العلماء المسجونين، واختار من بينهم حاشيته وفي مقدمتهم "ثمامة بن الأشرس"..

    3ـ حرصه على تراث المدينة وبره بأهلها:

    يروي ابن قتيبة أن الرشيد ـ عندما حج في عام 174هـ ـ حضر مجلسه في المدينة الإمام مالك بن أنس، وقال له: "إن أباك يا أمير المؤمنين بعث إليّ في هذا المجلس، كما بعثت إليّ، وحدثته بما حدثتك به من شأن أهل المدينة، وما يصبرون عليه من البلاء وشدة الزماة وغلاء الأسعار، صبرًا على ذلك واختيارًا لجوار الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقال الرشيد: ذلك أبي وأنا ولده، وسوف أفعل ما فعل، وأمر في الحال لأهل المدينة بعشرة أبيات مال، وهو ما كان أمر لهم به أبوه، ثم قال الرشيد للإمام مالك: ما تقول في منبر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، فإني أريد أن أنزع ما زاد فيه معاوية بن أبي سفيان وأرده إلى الثلاث درجات التي كانت على عهد رسول الله؟ فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنما هو من عود ضعيف قد تخرمته المسامير، وقد ذهب أكثره، ومع هذا يا أمير المؤمنين فإنك لو أعدته إلى ثلاث درجات لم آمن عليه أن ينتقل من المدينة، إذ قد يأتي بعدك أحد فيقول: أو يقال له: ينبغي لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون معك حيث كنت، فإنما المنبر للخليفة؛ فيُنقَل ـ كما نقل من المدينة ـ كل ما كان بها من آثار النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ما تُرِك له بها نعلٌ ولا شعرٌ، ولا فراش، ولا عِصِي ولا قدح ولا شئ مما له هنا من آثار..

    فأطاعه الرشيد وانتهى عن تغيير منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    4ـ بكاؤه عند الموعظة الحسنة:

    خصوم الرشيد وأصدقاؤه اتفقوا على أنه كان أرقَّ الخلفاء وجهًا وأكثرهم حياءً، وأخشعهم قلبًا، وأغزرهم دمعًا عند سماع الموعظة الحسنة وكثيرًا ما كان يسمع بواعظ زاهد فيعمل على اللقاء معه فيرسل إليه، فإن لم يحضر ذهب إليه بنفسه ليسمع منه ما يبكيه بين يديه؛ من ذلك ذهابه إلى زاهد عصره الفضيل بن عياض. (30)

    لماذا كان الرشيد يبكي عند كل موعظة؟

    كان الرشيد يبكي عند كل موعظة بسبب:

    ـ تأثره بالموعظة المخلصة التي تنبع من قلب رجل مخلص أو عالم زاهد..

    ـ لعل الرشيد وقد كانت الدنيا كلها بين يديه كان يأخذ حظه مها ويندفع في استمتاعه بها، اندفاع أمثاله من أصحاب الملك والسلطان، ثم ينازعه بعد ذلك شعوره الديني، ويستيقظ ضميره فيداخله الخوف من الله ويتوقع العقاب العاجل فيتراجع عن زخارف الدنيا، ويتذكر ما وقر في نفسه من تتبعه لحياة الزاهدين، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتمثل الدنيا بمتاعها الفاني، فيخشى أن يضيع عليه المتاع الباقي في الآخرة، وهنا يطلب خاصته أن يحضروا أحد الزهاد من العلماء المعروفين ليعيد إليه شعوره المبدد ويعطيه شحنة من الإيمان بالله، ويفتح له أبواب الرجوع إلى الله، فحين يحضر إليه من يثق به من أهل الصلاح والتقوى يقول له: عظني، فيعظه بمنطق سليم، وبيان عذب، وديباجة رقيقة، فيخشع قلبه، ويمتليء صدره بالإيمان، وتدمع عيناه؛ فترتاح بعد ذلك نفسه..

    5ـ شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإتقانه لرواية الحديث:

    يروي أبو معاوية الضرير، محمد بن حازم فيقول: كنت أجالس الرشيد وأروي له، الأحاديث فما ذكرت أمامه كلمة "النبي صلى الله عليه وسلم" إلا سمعته يقول: صلى الله على سيدي رسول الله..

    كما ذكر ابن كثير أيضًا أنه يروي في خطبته الأحاديث النبوية بأسانيدها، وأن عددًا من الناس أخذوا عنه تلك الأحاديث، أمثال سليمان الهاشمي، ونباتة بن عمرو وغيرهما..

    ولعل هذا يبدو غريبًا عند من يعرف أن الرشيد لم تسعفه الظروف بنصيب وافر من العلم في صغره، بسبب انشغاله بالغزو والجهاد، وتولى بعض شئون الإدارة من بداية نشأته، ولكن نزعته الشديدة إلى تحصيل العلم ورغبته الملحة في الاستزادة من المعرفة، كانت تدعوه إلى انتهاز الفرص للقراءة والمطالعة ومجالسة العلماء، وسؤالهم عن كل ما يخفي عليه جعلته يكتسب ثروة كبيرة من الثقافة العامة..

    ولم يقف عند هذا الحد من حرصه على بلوغ الغاية المرجوة من العلم في خلافته، بل زادت عنايته بمجالسة العلماء، وشعر بلذة شديدة في سماع مناقشة العلماء والفقهاء، وارتياحه إلى إشارات الزُّهَّاد والنُّسَّاك؛ فدعاه كل ذلك إلى أن يعقد في قصره ندوات يحضرها أقطاب العمل وأهل الورع، فكانت تلك المجالس والندوات أشبه بمدرسة تلقَّى فيها الرشيد قدرًا وافرًا من الثقافة والمعرفة تناسب مع ما عرف به عصره من النهضة الحضارية التي بلغت أَوْجَ عزها في مختلف المجالات. (31)

    يتضح مما سبق أن الرواة الذين تحدثوا عن مجون الرشيد وفسقه، هم بأنفسهم رواة تعبده وتهجده فكيف جاز في أذهانهم أن حياة امريء مسئول تتسع لهذين اللونين من الحياة مع وضوح الأدلة على تقواه، وظهورها لكل ذي عينين؟!!

    أما لون حياته الآخر ـ وهو حياته الشخصية بعيدًا عن الناس ـ فكان سرًا لا يعلمه أحد، ومن هنا ـ ومن هذا الباب ـ يسهل الافتراء على أي إنسان ما دام الافتراء لا يحتاج إلى بينة..

    ويقول الدكتور شَعْوَط: ويغلب علي الظن أن الذي تولى كبر هذا الدس في حياة الرشيد هم جماعة الشيعة الذين كانوا حريصين على تلويث تاريخ الشخصيات العظيمة من العباسيين حتى يتقربوا إلى العلويين وآل البيت..

    كما أن هناك طائفة أخرى من الشعوبيين الفرس، الذين أصابتهم نكبة البرامكة بالحرمان من النفوذ والعطاء، فأخذوا يتقولون على الرشيد ما لم يقله، وينسبون إليه ما لم يفعله من الأمور التي تزري به، وتطمس محاسنه من صفحات التاريخ. (32)
    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty رد: العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 9:58 am

    الخليفة العباسي أبو موسى الأمين 193-198هـ
    التعريف به:

    هو محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور، أبو موسي الهاشمي العباسي وأمه أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، وُلِدَ بالرصافة عام ( 170 هـ / 786 م2) بويع له بالخلافة بعد وفاة والده الرشيد وبعهد منه. اشتهر بحسن الأدب، وكان عالما بالشعر، فصيح اللسان لكن غلب عليه الهوى واللعب وضعف الشخصية، وتأدَّب على الكسائي وقرأ عليه القرآن.اشتُهِرَ بحبه لأصحابه وعطفه عليهم، ولكنه فشل كقائد وكحاكم.

    أسباب النزاع بين الأمين والمأمون

    ترجع جذور النزاع بين الأخوين الأمين والمأمون إلى ثلاثة أسباب هي: مشكلة ولاية العهد – الصراع العنصري العربي والفارسي – أطماع الحاشية.

    مشكلة ولاية العهد:

    تعتبر هذه المشكلة أحد أقوى الأسباب بفعل الطموح إلى السلطان، والعوامل النفسية التى انتابت الأمين تجاه أخويه، فكان الباديء بنقض بنود العهد، واتخذ عدة خطوات كانت كفيلة بتفجير الوضع، منها: محاولاته في بادئ الأمر، بسط نفوذه على ولايات أخويه، ثم تقديم ابنه موسى عليهما في البيعة.

    في الوقت الذي كتب فيه والده العهد عليه وعلى أخيه المأمون وعلقه في فناء الكعبة، نوى الأمين الغدر. إذ عندما طلب منه جعفر البرمكي أن يحلف بعدم نقض البيعة أجابه إلى ذلك: " خذلني اللهُ إن خذلتُه " ورددها ثلاث مرات. ولما خرج قال للفضل بن الربيع "يا أبا العباس، كنت أحلف وأنا أنوي الغدر "

    تصريحات الأمين حين عزم على خلع المأمون ومبايعة ابنه موسى إذ قال ليحيي بن سليم الذي استشاره في هذا الأمر، وحاول أن يثنيه عن عزمه " إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بن يحيي بسحره واستماله بِرُقَاه، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه،وقال للفضل بن الربيع يوما: " ويلك يا فضل، لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه، ولابد من خلعه.."

    نستنتج من ذلك أن نية الغدر كانت موجودة عند الأمين، ومبيتة في نفسه منذ اللحظة الأولى، التى عين فيها والده أخاه المأمون وليًّا للعهد من بعده، وهذه المشكلة،هي التى فجرت النزاع بين الأخوين، وقد كان ما بينهما متباعدا في حياة أبيهما،فلما مات لم يُرِدْ أحدهما الآخر، أما المأمون فظل قابعا فى خراسان لم يبرحها، وأما الأمين فقد خشي عاقبة هذا الاعتكاف، فكان طبيعيا أن تسوء ظنون الأخوين أحدهما بالآخر.

    صراع الحزبين العربي والفارسي:

    أخذت ملامح الدور السياسي الذي أداه كل من الفضل بن سهل كاتب المأمون ومدبره الذي مثل العنصرية الفارسية في الإدارة العباسية، والفضل بن الربيع الذي مثَّل التطلعات العربية، تظهر بشكلها المحدد في الفترة التي سبقت وفاة الرشيد مباشرة.

    فأخذ الأول، مدفوعا بنزعته العنصرية، وخشيته من وفاة الرشيد بعد تفاقم مرضه يسعى ليضمن حق المأمون في الخلافة، ويحميه من استبداد أخيه وحاشيته، ولعل أول خطوة أقدم عليها لتحقيق آماله أنه أقنع المأمون بمرافقة والده إلى خُرَاسان ليلتمس فيها الأنصار، وليبعده عن سطوة الأمين وحزبه.

    وانكشفت نوايا كل من الطرفين بعد وفاة الرشيد، وظهر التناقض بينهما واضحًا في وجهات النظر السياسية، وكان الرشيد، لدى اشتداد المرض عليه، قد جدَّد البيعة للمأمون بعد الأمين.. ولما علم الأمين بشدة مرض والده أرسل بكرا بن المعتمر إلى خراسان ومعه كتب ظاهرها عيادة والده، وباطنها أمر إلى القوم بالعودة إلى بغداد مع الأعتدة.

    ولم يتردد الفضل بن الربيع وكان على نفقات الرشيد وتدبير أموره، في العودة بالعسكر والأعتدة بعد وفاته، ولم يُعَرِّج على المأمون، ولم يلتفت إليه بالرغم من محاولة هذا الأخير مناشدته ومن معه بعدم المغادرة، وذكرهم بالعهود والمواثيق التى أخذها الرشيد عليهم، وقد ضايق ذلك المأمون فعلا وآلمه، وشعر بعدم صفاء نية الأمين تجاهه.

    والواقع أن النصر الذي أحرزه العنصر العربي في تغلبه على البرامكة، وسعيه الدائم لكسب مزيد من تأكيد النفوذ والسلطان ’ قد لا يتحقق إلا في ظل خليفة كالأمين وذلك ما دفع الفضل بن الربيع لإلقاء ثقله خلفه معتبرا أن هذه فرصته لكسب جولة أخرى من الصراع.

    أما ابن سهل فقد رفض طلب الأمين، ولطَّف الأمر للمأمون، فخاطبه قائلا: "نَازِلٌ في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم؛ فاصبر قليلا وأنا أضمن لك الخلافة.

    ولاشك بأن ابن سهل هذا بتشجيعه المأمون على البقاء في خراسان، ومساندته ورفضه طلب الأمين بالعودة الى بغداد كان مدفوعا بمطامع عنصرية، وأخرى شخصية وقد أوضح لأبي محمد اليزيدي أنه خدمه "ليحوز طابع هذا، يشير إلى الخاتم، في الشرق والغرب، لهذا خدمته، ولهذا صحبته " والحقيقة أن ابن سهل الذي كان يسعى لإيصال صاحبه إلى منصب الخلافة، أملا بأن تكون (مرو) عاصمةً لهذه الخلافة بدلا من بغداد، وأن تعود لخراسان عظمتها، وأدى دورًا بارزًا في تكتيل الخراسانية خلف قضيته، وقد رفضت هذه أن تعود إلى الظل بعد نكبة البرامكة؛ فوقفت بشدة خلف المأمون متمسكة به، فكان هو الإمام الذي التفت حوله الخراسانية الجديدة.

    وهذكا اتخذت قضية النزاع بُعدا شعوبيا بين العرب والفرس، وراح يوجه الأحداثَ أشخاصٌ يتعصبون لأحد الفريقين، فظاهر العرب الأمين، وأخذ الفرس بيد ابن أختهم المأمون يشدون أزره.

    جـ - أطماع الحاشية:

    وقفت حاشية الأمين، خاصة الفضل بن الربيع وعلى بن عيسي بن ماهان، وراءه بقوة ودفعاه إلى نكث العهد، في حين كانت الدلائل تشير إلى ميله للوفاء لأخويه رغم تصريحاته السابقة، ونصحه الفضل بن الربيع بأن يستدعي أخاه المأمون إلى بغداد حتى يظفر به كرهينة، ويفضل بيته وبين جنده، تمهيدا لخلعه وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى.

    ومن جهته، فقد وقف الفضل بن سهل خلف المأمون، وأوعز إليه بالاعتذار عن الذهاب إلى بغداد بحجة أن أمور خراسان تستدعي بقاءه فيها.

    وهكذا أدى تدخل رجال الحاشية إلى تأجيج النزاع الذي وصل إلى حد عدم العودة عن الصدام.

    مراحل النزاع بين الأمين والمأمون

    مَرَّ النزاع بين الأمين و المأمون بمرحلتين: مرحلة المفاوضات السلمية التى انتهت في عام (195 هـ/ 811 م) ومرحلة الحسم العسكري التي انتهت بمقتل الأمين في عام (198 هـ / 813 م )

    مرحلة المفاوضات:

    اتخذ النزاع، في باديء الأمر، شكل سفارات ومراسلات متبادلة بين الأخوين حول قضية ولاية العهد، والصلاحيات الخاصة بالخليفة. ونهج الأمين السلوك السياسي المخادع لاستمالة أخيه، واستقطاب حاشيته وفي نيته عزله من ولاية العهد.

    ومن جهته، فقد تصرف المأمون بشكل يبعث الطمأنينة في نفس أخيه، فبعث إليه بمراسلات تعظمه، وأهدى إليه هدايا كثيرة من طرف خراسان.

    ثم حدث أن انتزع الأمين من أخيه المؤتمن كل ما بيده، واستقدمه إلى بغداد، وكتب في الوقت نفسه إلى جميع العمال بالدعاء لابنه موسي بالإمرة بعد الدعاء له وللمأمون وللقاسم، ولما سمع المأمون بذلك، أدرك أن الأمين ينوي تغيير العهد فقطع البريد عنه، وأسقط اسمه من الطرز.

    ومضى الأمين في تودده دون أن يظهر نواياه؛ فكتب إلى المأمون يستدعيه إلى بغداد لحاجته إليه في تسيير شؤون الدولة، وفي نيته الغدر به.

    ويبدو أن المأمون مال إلى إجابة طلب أخيه وكاد أن ينخدع، لولا تحذير وزيره الفضل بن سهل له، ونصحه بالاعتذار عن تلبية الدعوة، والعمل على تقوية جيشه، وتوطيد مركزه في خراسان.

    لم ييأس الأمين من محاولاته الإيقاع بأخيه المأمون، وقرر تجريده تدريجيًّا من كل ما بيده؛ فكتب إليه يطلب منه أن يتخلَّى له عن بعض كور خراسان سَمَّاها له، وأنه عازم على تعيين موظف من قِبَلِه على البريد ليكتب إليه بخبرها باعتباره خليفة للمسلمين، ويستطيع التصرف في أمور خراسان كما تقضي المصلحة العامة.

    استشار المأمون شيعته في طلب أخيه؛ فأشاروا عليه جميعا بإجابته، باستثناء الفضل بن سهل الذي رفض العرض، فوافقه المأمون وكتب إلى أخيه بذلك، ورسم هذا الوزير الفارسي للمأمون السياسة التي يجب عليه اتباعها وهي:

    -الاعتصام في خراسان، لأن الخراسانية لن ينقضوا بيعتهم له بحكم قرابتهم له.

    -انتهاج سياسة دينية رزينة.

    -الاهتمام شخصيا بأمور الدولة ورد المظالم.

    فأحبه الناس، والتفوا حوله.

    نتيجة لهذا الجفاء، اشتد التوتر بين الأخوين، وأُغلِقَتِ الحدودُ بينهم، واتخذ المأمون بعض الاحتياطات لقطع الطريق على الدعاية التى راح يبثها الأمين ضده لاستماله أهل خراسان، فأقام حراسة مشددة على طول الطريق بين العراق وخراسان، وأعطى الأوامر باعتقال المشبوهين الذين يفدون من العراق.

    أوشكت دولة الخلافة العباسية أن تنقسم إلى قسمين ينازع كل منهما الآخر، القسم الغربي حيث مدينة بغداد وعلى رأسه الأمين تسانده العرب وعلى رأس قواته القائد العربي على بن عيسي بن ماهان، والقسم الشرقي أى خراسان والولايات الشرقية حيث يقيم المأمون في مدينة مرو بمساندة الفرس، وعلى رأس قواته طاهر بن الحسين.

    وتفاقم النزاع بمرور الأيام، وفشل الأمين في حمل أخيه المأمون على التنازل عن ولاية العهد لصالح ابنه موسي، مما دفعه إلى خلعه في عام (195هـ، وجلب كتابي العهد من فناء الكعبة وحرقهم، بالرغم من تحذير بعض بطانته.

    أغضب هذا التصرف الخراسانيين، وغيرهم من أهالي الأمصار، فقاموا فى وجهه، واشتعلت الاضطرابات، وأضحى التحول إلى النزاع المسلح أمرا محتم، وأخذ كل طرف يستعد له.

    مرحلة الحسم العسكري:

    سيَّر الأمين جيشا بقيادة علي بن عيسى بن ماهان، والي خراسان السابق لقتال أخيه، تقدم إلى الري حيث كان جيش المأمون، بقيادة طاهر بن الحسين بانتظاره، والتحم الجيشان في رحى معركة قاسية، أسفرت عن انتصار جيش المأمون، ومقتل علي بن عيسى ولم تكد أنباء النصر تصل إلى مقر المأمون في مرو، حتى بايع الناسُ المأمونَ بالخلافة.

    والواقع أن الأمين أخطأ تقديره الموقف السياسي والعسكري، أو غُرِّرَ به لتعيين علي بن عيسى على رأس قواته؛ لأن هذا التعيين كان قاضيًا على الأمل في استمالة الخراسانيين، نظرا لكراهيتهم له مما أثار حميتهم؛ فاستماتوا بالقتال.

    ويبدو أن الأهواء الشخصية أدَّت دورًا في هذا الأختيار. فعلي كان يطمع في العودة إلى منصبه القديم، كحاكم لولاية خراسان، وربما عمد الأمين إلى إغاظة سكانها فولاه القيادة نكاية بهم. والراجح أن أحد عيون الفضل بن سهل، وهو العباس بن موسى هو الذي أشار على الأمين أن يؤمِّر عليا ليثير حمية الخراسانيين على القتال،

    أثارت أنباء هزيمة جيش الأمين الفزع في بغداد مما دفع الخليفة إلى تجهيز جيش آخر، وأرسله إلى خراسان بقيادة عبد الرحمن بن جبلة الأنباري، للتصدى لزحف طاهر.

    ووقعت المعركة الثانية بين القوتين في همذان، وانتصر فيها جيش المأمون أيض، وسيطر طاهر على المدينة، ثم واصل زحفه باتجاه بغداد يرافقه هرثمة بن أعين، ولما وصلها، ضرب عليها حصارًا مركزًا، فدبت فيها الفوضى، وشهدت شوارعها اصطدامات داخلية بين مؤيدي الطرفين، وتمكنت قوة خراسانية من دخولها وأسرت الأمين، وأعلنت خلعه، لكن العناصر العربية قامت بهجوم مضاد وتمكنت من إطلاق سراحه، وأخرجت الخراسانية من المدينة.

    ونتيجة لضغط الحصار، خارت قوة الأمين، بعدما انهارت معنويات جنده وانتهت المقاومة، ودخل طاهر المدينة عنوة، ووجد الخليفة نفسه أمام أحد الخيارين إما القيام بمحاولة أخيرة لاختراق صفوف الخراسانية، وإما الاستسلام وطلب الأمان، ولما لم يكن معه من الرجال ما يساعده على المقاومة، فقد فضل الاستسلام للقائد هرثمة بن أعين، وقد اختاره بسبب قوة طاهر، ولكن هذا الأخير كمن له في النهر، وقبض عليه وسجنه، ثم اقتحم عليه سجنه عددٌ من الجنود الخراسانية وقتلوه، وكان ذلك في الخامس والعشرين من شهر المحرم عام 198هـ، وسيطر طاهر على بغداد وأَمَّنَ أهله، وانتهت بذلك خلافة الأمين.
    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty رد: العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 9:59 am

    الخليفة العباسي أبو جعفر المأمون 198-218هـ
    التعريف به:

    هو عبد الله المأمون ابن هارون الرشيد القرشي الهاشمي، أبو جعفر، أمير المؤمنين، وأمه أم ولد يُقال لها: مراجل الباذغيسية. وُلِدَ عام(170هـ/786م)، ولاه والده العهد وهو في سن الثالثة عشرة من عمره. بُويِع له بالخلافة في عام(198هـ/813م)، وكان بالري، وقدم بغداد في عام(204هـ/819م).

    اشتهر المأمون بصفات ميزته عن سائر الخلفاء العباسيين منها: ميله إلى العفو، وكراهيته للانتقام، وكرمه الذي فاق كرم كافة الخلفاء العباسيين، وقوة حُجَّة الإقناع لديه. كان حاضر البديهة، سريع الجواب. أديبً، يعرف جيد الشِّع من رديئه. ويحب سماع الغناء.


    الخليفة العباسي أبو إسحق المعتصم 218-227هـ
    التعريف به:

    هو أمير المؤمنين أبو إسحق محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور العباسي، يقال له (المثمن) لأنه ثامن ولد العباس، وثامن الخلفاء من ذريته، ولأنه تمكن من إحراز ثماني فتوحات، وأقام في الخلافة ثماني سنوات وثمانية أشهر وثمانية أيام، وأنه ولد سنة ثمانين ومائة في شعبان وهو الشهر الثامن من السنة،وأنه توفي وله من العمر ثمانية وأربعون عامً، وأنه خلَّف ثمانية بنين وثماني بنات، كان أُمِّيًّا لا يحسن الكتابة، إلا أنه يوصف بأنه جندي شجاع، مُدرَّب في الحرب، كما يوصف بقوته الجسمية. بويع بالخلافة، يوم مات أخوه المأمون بطرسوس، وقد سعى بعض الأمراء إلى تولية العباس بن المأمون، لكن هذا الأخير أسرع بمبايعة عمه احتراما لوصية والده وتسكينا للجند.

    حكم المعتصم الدولة العباسية حكما استبداديًّا، مقرونا بشيء من العطف وحسن التدبير،وتميز بالشجاعة والإقدام وشدة البأس والمهابة، و أولع بالعمارة والزراعة، وكرس وقته لتشييد القصور و تخطيط الحدائق والبساتين.

    الأوضاع الداخلية في عهد المعتصم

    الحركات الطالبية

    لم تكن سياسة المعتصم نحو الطالبيين أقل شدة من سياسة الخلفاء العباسيين اللذين حكموا قبله باستثناء المأمون، وقد خرج في عهده محمد بن القاسم بن علي الزيدي في عام ( (219 هـ /834م ) ) بالطالقان، فالتف حوله كثير من سكان كور خراسان. ولكن حركته لم تكن منظمة، ولم تشكل خطرا جديا على حكم المعتصم، الذي أمر قائده عبد الله بن طاهر، أمير خراسان، بالتصدى له، وتمكن هذا القائد من هزيمته، وقبض عليه، وأرسله إلى سامراء حيث سجن فيها، إلا أنه فَرَّ من سجنه بمساعدة رجال من شيعته، وتوارى أيام المعتصم و الواثق ثم أُخِذَ في أيام المتوكل، فسُجِن ومات في سجنه.

    ويبدو ان عوامل إخفاء حركته رغم إنتشارها، تعود إلى ثلاثة عوامل:

    قوة الدولة العباسية في عهد المعتصم.

    اعتقاد محمد بن القاسم بارآء الزيدية والجارودية التى لم نكن تُرضِي كثيرا من الزيديين، خاصة زيدية الكوفة، بالأضافة إلى بعض الشيعة الإمامية للشيعة الزيدية من أتباع أبي الجارود.

    اعتقاد محمد بن القاسم بآراء المعتزلة

    وتوفي في عهد المعتصم في عام (220 هـ / 835م) محمد الجوَّاد بن على الرضاء تاسع أئمة الشيعة الإمامية الاثنى عشرية، وقد اطمأن المعتصم لهذه الوفاة، بعد أن خشي أن ينافسه على الحكم، ويطالبه بتولى الخلافة،على اعتبارات أولاده من سلالة المأمون من زوجته أم الفضل.

    حركة الزط

    من المصاعب التى واجهت المعتصم وأثقلت كاهله أثناء خلافته، حركه الزط الذين تمكنوا من السيطرة على طريق البصرة، وهددوا مرافق الدولة، وفرضوا المكوس على السفن، وحالوا دون وصول الإمدادات إلى بغداد، فوجَّه إليهم قائده عجيف بن عنبسة فى عام ( 219 هـ / 834 م) لصدهم في البطيحة، وشدد عليهم، حتى طلبوا الأمان

    القضاء على حركة بابك:

    كان المعتصم عند حسن الظن به، فقد صعد حربه ضد البابية حتى قضى على حركتهم فى عام (( 223هـ /835 م)) فقد ركز جهوده - بعد استقرار الوضع الداخلي- على حرب بابك، وأرسل الحملة تلو الحملة ضده، ومن جهة أخرى فقد تفاقم خطر بابك بعد ان دخلت أذربيجان فى حوزته، فنشر الرعب فى المنطقة الممتدة حتى إيران في عام (218 هـ /833/م)

    وعين المعتصم، في عام (220 هـ / 835 م) أعظم قادته وهو الأفشين حيدربن كاوس أميرا على الجبال، وأمره بقتال بابك، تميز هذا القائد بالحذر والخبرة الشديدة بالمسالك الجبلية. فاتبع خطة عسكرية مرنة تستند على التقدم البطئ. فعسكر في برزند من نواحي تفليس، وضبط الحصون و الطرق فيما بينه وبين أردبيل، ووزع جنده على مختلف القلاع والمواقع، وكان المعتصم يمده بالامدادات والمؤن، ونفقات الجند باستمرار، ورَتَّب البريد، ومهَّد الطرقات لتأمين المواصلات والاتصالات بسرعة وسلام حتى أضحى تبادل الرسائل بين سامراء ومعسكر الأفشين يستغرق مدة أربعة أيام أو أقل، كما استعمل الحمام الزاجل لنقل الأخبار لأول مرة في هذه الحرب، وكان يشرف على سير المعارك من سامراء، ويضع الخطط العسكرية بنفسه.

    وبذلك أضحى للمسلمين سلسلة من الحصون المتماسكة في مواجهة بابك، ولجأ الأفشين إلى استعمال الأسلوب التجسسي كى يضعف خصمه، ويطلع علي خططه؛ فكان يستقطب من يظفر به من جواسيس؛ فيضاعف لهم العطاء، ويسخرهم في التجسس له.

    أدرك بابك على الفور أنه يواجه هذه المرة قائدا محنكا، وحتى يخفف الضغط عن قواته فى أذربيجان، ناشد الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل أن يهاجم الأراضي الإسلامية، ووعده بأن يعتنق النصرانية.

    نتيجة هذا الاحتقان كان لابد أن يقع صدام بين الجانبين بعد هذه الاستعدادات العسكرية،فأصدر الخليفة أوامره إلى الأفشين ببدء العمليات العسكرية، وحدد له مدينة (البذ) كأول هدف عسكري بعد اضطرار بابك إلى التحصُّن فيها إثر معركة أرشق.

    لم يتسرع الأفشين فى تقدمه نحو البذ، وأخذ يزحف متأنيًا حتى وصلها وضرب عليها حصار مركزا، واتخذ من مدينة روذ الروذ معسكرا جديدا لقواته، وحاول بابك في غضون ذلك استمالته لكنه لم ينجح، وبقي الأفشين محاصرًا البذ حتى تمكن من دخولها يوم الجمعة في ( العاشر من رمضان عام 222 هـ / آب عام 837 )

    هرب بابك، بعد سقوط البذ. إلى أرمينيا؛ فكتب الأفشين إلى ملوكها وأمرائها بسد الطرق عليه، وتذكر المصادر أن البطريق سهل بن سنباط تعرَّف على مكان اختبائه؛ فأمنه؛ ثم غدر به وسلمه إلى الأفشين.

    وجِيء ببابك إلى سامراء في (شهر صفر عام 223 هـ / شهر كانون الثاني عام 838 م ) ومعه أخوه عبد الله وكان يوم وصوله يوما مشهودا؛ فقد ألبسه الجند ثيابه الأرجوانية، ووضعوه على ظهر فيل، وطافوا به في شوارعه، وعندما أضحي في مجلس الخليفة نزع عنه الجند ماكان يلبس، ثم قطعوا يديه ورجليه، وراحوا يغرزون سيوفهم ببطء في جسده، متجنبين إصابته بمقتل ليطيلوا أمد عذابه، وأخيرًا قطعوا رأسه وأرسله الخليفة إلى بغداد حيث عُرِضَ على الناس، بينما صُلِبت جثته وعرضت في سامراء، وصلب معه أخوه عبد الله، فانتهت بذلك هذه الحركة التي شغلت جانبا من اهتمامات الخلافة منذ عهد المأمون.

    حركة المازيار:

    ماكادت دولة الخلافة العباسية تتحلص من الأخطار التى كانت تمثلها حركة بابك الخزمي في المناطق الواقعة إلى الغرب من بحر قزوين، حتى واجهتها حركة فارسية أخرى، تمثلت في حركة المازيار بن قارن آخر الأمراء القاريانيين بطبرستان، الذي اتخذ من موطنه مسرحا لنشاطه الثوري المعادي للدولة.

    اعتنق المازيار الإسلام وتسمى باسم محمد، وولاه المأمون على طبرستان ورويان ودنباوند، ولقبه الأصبهذ.

    ويبدو أنه كان ذا نزعات استقلالية؛ فأراد الانفصال عن جسم الدولة فاستغل الخصومة بين الطاهريين - الذين كان يكرههم، وبين الأفشين الطامع في ولاية خراسان ليرفع راية الثورة، وكان هذا الأخير قد كاتب المازيار وشجعه على إعلان العصيان على حكمهم، آملا أن لا يتمكن هؤلاء من إخضاعه، فيتخذ- عندئذ- ذلك ذريعةً لانتزاع خراسان منهم.

    لكن هذه العلاقة بين الأفشين والمازيار لم تكن بهذه السطحية وأن الصلة التى جمعت الرجلين بعيدة الغور عميقة الجذور، فقد اعترف المازيار بأن الأفشين حرضه على الخروج والعصيان لمذهب اجتمعوا عليه، ودين اتفقوا عليه من مذاهب الثنوية والمجوس كما كان المازيار يكاتب بايك، ويعرض عليه المساعدة، والراجح أنه كان على مذهب الخرمية، ذلك المذهب الذي أضحي يمثل ثورة الوعي الفارسي ضد سلطان العباسيين وضد المجتمع الذي أقاموه، وأن الدوافع التى حركت بابك، هى التى حملته على العصيان خاصة،إذا علمنا أنه كان حديث عهد بالإسلام، أي أن هذه الدوافع كانت مزيجا من الدوافع السياسية والعنصرية والدينية.

    وتدل التدابير التى نفذها المازيار بعد إعلان حركته، على نزعة الخرمية الإشتراكية إذ أراد مصادرة الأراضي من الملاك، وتوزيعها على الفلاحين، ولهذه النزعة معنى سياسي إلى جانب المعنى الاقتصادي خاصة إذا علمنا أن قسما كبيرا من الملاك كانوا من العرب ومواليهم؛ لذلك أمر المازيار عامله على سرخستان بإن يجمع مائتين وستين من أبناء القادة ويسلمهم إلى الفلاحين ليقتلوهم باعتبارهم أناسا يشكلون خطرً، كما أغرى هؤلاء بقتل أرباب الضِياع، وأباح لهم منازلهم وحُرمهم، في محاولة تهدف إلى ضم قوى الطبقات العامة ودفعها للتخلص من السلطان العربي.

    وقد وقف الخليفة على أهداف هذه الثورة، حين ضبط عبد الله بن طاهر رسالة من الأفشين إلى المازيار، وبعد أن حصل هو على الرسائل الأخرى من المازيار نفسه.

    والواقع أن هذه الحركة ولدت ميتة؛ ذلك أن توقيت إعلانها فى عام (224 هـ / 839 م ) لم يكن مناسبا، فقد كانت دولة الخلافة العباسية آنذاك فى وضع مستقر، وعلى درجه عالية من القوة ’ وذلك بعد أن تخلصت من العديد من الحركات المعادية التى قامت في وجهه، وبالتالى فإن القضاء على حركة المازيار لم يكلفها الكثير من الجهد، أما نهاية المازيار فقد كانت شبيهة بنهاية بايك حيث قتله الخليفة، ثم صلبه إلى جانب بابك.

    ظهور العنصر التركي:

    بويع للمعتصم بالخلافة في ظل ظروف من الصراع العنيف بين العرب من ناحية، والفرس الذين حظوا بعطف المأمون خلال السنوات الأولى من خلافته من ناحية أخرى، واختلال في التوازنات بين العناصر التى تكونت منها الدولة العباسية، فقد ساءت العلاقات بين العباسيين والخراسانيين منذ انتقال المأمون من مرو، وظهر أثر ذلك في القضاء على بنى سهل، وقيام الحركات المناهضة للدولة ذات الخلفيات الفارسية وبالتالى استحالة التوفيق بين تطلعات الخراسانيين ومصالح العباسيين، وبدأت ثقة المعتصم بالفرس تضعف.

    ومن جهة أخرى، لم يركن المعتصم إلى العنصر العربي، ولم يثق بالعرب نظرا لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وقيامهم ضد الخلفاء، بالإضافة إلى أن هؤلاء فقدوا كثيرا من مقومات قوتهم السياسية، والعسكرية فأصبحوا أقل خطورة وأعف شأنا.

    وحملت هذه المعطيات المعتصم على ان يوكل أمر سلامته الشخصية إلى فرقة من العنصر التركى وقد توافقت طباعه النفسية وصفاته الجسدية من حيث القوة والشجاعة ومتانة الجسم، مع صفات أخواله الأتراك كأُمَّةٍ عنيفة محاربة شديدة البأس، وأضحى لهذا العنصر أثر كبير في الحياة السياسية والاجتماعية بالرغم من أن الاتراك لم يكونوا أهل حضارة عريقة وأصبح الحرس التركي يمثل دعامة من دعائم الخلافة أيام حكمه.

    والواقع أن الأتراك نفذوا إلى المجتمع الإسلامي منذ العهد الأموي على إثر الفتوحات الإسلامية لبلاد ما وراء النهر، لكن لم يكن لهم أى تأثير سياسي فى المجتمع الإسلامي إلا أن هؤلاء وقد يظهرون على مسرج الأحداث في بغداد ظهوراواضحا منذ عهد المأمون الذي استخدمهم في الجيش ليحقق نوعا من التوازن بين العنصرين العربي والفارسي.

    وتلقف المعتصم هذه العصبية الجديدة النامية لإستغلال مواهبها العسكرية للحفاظ على دولته و الإبقاء على خلافته، في ظل الصراع العربي – الفارسي فاستخدم الأتراك في الجيش على نطاق واسع، وجعلهم تحت إمرة قادة منهم، مسددا بذلك ضربة عنيفة للقادة والجند العرب، ولسياسة المنصور التقليدية التى كانت تستهدف حفظ التوازن في الجيش بين الفرق الأعجمية، والفرق العربية

    أما مصادر هؤلاء الأتراك، فقد جلبهم المعتصم من أقاليم ما وراء النهر، مثل: سمرقند وفرغانة وأشروسنة والشاش وخوارزم، وكان ذلك إما عن طريق النخاسة، أي الشراء، و إما عن طريق الأسر في الحروب، وإما عن طريق الهدايا التى كان يؤديها ولاة هذه الأقاليم على شكل رقيق إلى الخليفة، ومن ثم أصبحت بلاد ما وراء النهر مصدرا مهما للرقيق الترك.

    ومكَّن المعتصم للأتراك فى الأرض، فقربهم إليه، وخصَّهم بالنفوذ، وقلَّ دهم قيادة الجيوش، وجعل لهم مركزا في مجال السياسة، وأسكنهم سامراء التى بناها خصيصا لهم، ومن جهة ثانية حرم العرب مما كان لهم من قيادة الجيوش، ثم أسقط أسماءهم من الدواوين، وقطع أعطياتهم.

    كان لسياسة المعتصم هذه نتائج آنِيَّة وبعيدة:

    فمن حيث النتائج الآنية، فقد أغضبت هذه السياسة العرب، فانتفضوا على حكم المعتصم، كما دبروا مؤامرة لاغتياله بزعامة عجيف بن عنبسة والعباس بن المأمون لكن المؤامرة فشلت، وكانت ردة فعل المعتصم أن تخلص من العباس فى الوقت الذي توفي فيه عجيف، ثم أقصى العرب والفرس تدريجي، وأسقطهم من ديوان العطاء.

    ومن حيث النتائج البعيدة، فقد تسببت هذه السياسة بحدوث أضرار بالغة وخطيرة على دولة الخلافة العباسية، إذ خرجت بها عن مسارها العربي- الفارسي، وأدت إلى إضعاف سلطة الخليفة، وربما كان نشوء الدول الانفصالية فى مختلف أرجاء الدولة اعتبارا من العصر العباسي الثاني، أحد هذه النتائج لكنها لم تظهر بوضوح في عهد المعتصم، وسوف تنجلى فيما بعد، منذ مقتل المتوكل فى عام (247هـ / 861 م )

    القضاء على الأفشين:

    استغل بعض القادة الاتراك فى الدولة العباسية، مناصبهم القيادية ونفوذهم في البلاط ليحققوا طموحاتهم بالانفصال عن الدولة. وكان من بين هؤلاء الذين تمتعوا بنزعات استقلالية، القائد التركي الأفشين الذي أراد تأسيس دولة انفصالية له في أشروسنة؛ فراح يمهد طريق الوصول إلى هدفه بالخطوات التالية:

    حاول استقطاب السكان حتى ينفضوا عن الوالى العباسي ويلتفوا حول دعوته.

    حاول إزاحة والي خراسان عبد الله بن طاهر الذي وقف في وجهه.

    حرض كلا من المازيار ومنكجور الفرغاني بالثورة على حكم المعتصم.

    فشل الأفشين في تحقيق هدفه، بعد أن انكشفت مؤامراته، فتغيرت سياسة الخليفة تجاهه، وأدرك من جانبه هذا التغير؛ مما دفعه إلى التفكير بالتخلص من الخليفة نفسه، ولكن قُبِضَ عليه وحاكمه المعتصم، لكن محضر المحاكمة لم يُشِرْ إلى المؤامرة، وإنما هي مجموعة تهم أُرِيدَ بها إثباتُ أن الأفشين لم يعتنق الإسلام حقيقة، ولا يزال يتعصب للمجوسية، ويسعى للقضاء على دولة الخلافة العباسية ولعل هدف المعتصم، كان منع تسرب النفرة والشك إلى القادة الأتراك الآخرين، وتوفي الأفشين في سجنه في عام 226 هـ / 841 م)

    العلاقات الخارجية في عهد المعتصم

    العلاقة مع البيزنطيين

    توقف القتال بين المسلمين والبيزنطيين في السنوات الأولى لخلافة المعتصم، نتيجة انهماك الخلافة في القضاء على ثورة بابك الخرمي، وفي المقابل فقد انصرف الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل إلى التخطيط لاستعادة جزيرة صقلية من أيدى المسلمين، فشهدت مناطق الحدود هدوءا يكاد يكون تاما، إلا أنه ماكاد يمضى على خلافة المعتصم أربعة أعوام حتى رأى ثيوفيل أن يعود إلى قتال المسلمين على الحدود الشرقية لإمبراطوريته، وقد شجعه على ذلك نجاح المفاوضات التى أجراها مع بابك الذي وعده باعتناق المسيحية مقابل مساعدته في قتالهم، وظنًّا منه أن باستطاعته إحراز نصر عسكري عليهم؛ فأغار على منطقة أعالي الفرات ليؤمن اتصالا مع الخرمية في أرمينيا وأذربيجان، واستولى في طريقه على زبطرة مسقط رأس والدة الخليفة وأَسَرَ من فيها من المسلمين ومثَّل بهم وسبى المسلمات، كما هاجم سميساط وملطية وأحرقها. اعتبر المعتصم هذه الغارة البيزنطية تحديًا شخصيا له قبل أن تكون تحديا للخلافة العباسية، فقبل التحدى وعزم على أن يثأر لزبطرة، فما كاد ينتهى من إخماد ثورة بابك الخرمي، فى عام (223 هـ /838 م ) حتى أعد جيشا كثيفا بهدف توجيه ضربة قاصمة للإمبراطورية، تقضى بدورها على هيبة الإمبراطور، فخرج هو على رأس هذا الجيش متجها صوب عمورية مسقط رأس أسرة ثيوفيل، عازمًا على تدميرها، والجدير بالذكر أن الاستيلاء على عمورية يُعتَبر خطوة للوصول إلى القسطنطينية.

    غادر الخليفة سامراء وهو على تعبئة، وجعل أنقرة أول هدف للحملة، فعين أشناس التركي قائدا للمقدمة، وإيتاخ قائدا للميمنة، وجعفر بن دينار على الميسرة، وعجيف بن عنبسة على القلب، وشارك الأفشين فى حملة على رأس فرقة عسكرية وكتب على ألوية الجيش وتروسه " عمورية " وقرر دخول الأراضي البيزنطية من ثلاثة محاور، فتوجه جيش الشرق بقيادة الأفشين نحو مدينة سروج ليدخل الأراضي البيزنطية في يوم محدد عن طريق درب الحدث، أما جيش الغرب بقيادة أشناس فكان عليه أن يتقدم عبر جبال طوروس إلى مدينة الصفصاف الواقعة قرب قلعة لؤلؤة على أن يلتقي بجيش الشرق في سهل أنقرة. وقاد الخليفة القسم الثالث من الجيش وزحف مباشرة نحو أنقرة، ورسم الخليفة خطته التكتيكية على أن تجتمع الأقسام الثلاثة عند سهل أنقرة لمهاجمة المدينة.

    وغادر القسطنطينية فى هذه الأثناء الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل بعدما علم بما وضعه الخليفة من خطط عن أنقرة وعمورية، وتوقف في دوريليوم على بعد ثلاثة أيام من عمورية، وأمر بتحصين هذه الأخيرة، وبعث الإمدادات إليها، أما الخطة القتالية التى وضعها فكانت تقضى بمهاجمة القوات الإسلامية أثناء زحفها نحو الشمال باتجاه أنقرة، ومن أجل ذلك عسكر على نهر هاليس، واستعد لعبوره ليفاجيء المسلمين ظنا منه بأنه هذه القوات سوف تجتاز درب كيليكيا في طريقها إلى أنقرة، ولم يكن يعلم شيئًا عن جيش الأفشين.

    ثم حدث أن أصدر الخليفة أوامره بالتوقف ريثما يستطلع أخبار الجيش البيزنطي، وبعث برسالة إلى أشناس -وكان وقتئذ قد بلغ مرج الأسقف القريبة من لؤلؤة- يبلغه بتطورات الموقف العسكري، ويأمره بالتوقف حتى توافيه الساقة لأنها تحمل العتاد الحربي.

    ويبدوا أن ثيوفيل علم بتقدم جيش الشرق بقيادة الأفشين فغير خطته،واضطر أن يقسم جيشه إلى قسمين: تَرَأَّس هو القسم الأول ليواجه الأفشين، في حين ترك القسم الثاني من الجيش للتصدي لجيش الخليفة حتى يمنعه من التقدم، محاولا بذلك منع التقاء الجيشين الإسلاميين.

    ولما وقف المعتصم على خطة ثيوفيل أراد أن ينذر الأفشين بمسير الإمبراطور إليه، لكن الأفشين كان قد توغَّل في آسيا الصغرى، فلم يبلغه أى كتاب، أما أشناس فقد تابع زحفه باتجاه أنقرة وسار الخليفة وراءه، بينهما مسيرة يوم واحد دون أن يعلما شيئا عن مصير الأفشين.

    وفي الوقت الذي كان فيه جيش الخليفة يقترب من أنقرة كان الأفشين يجتاز سيواس إلى توقات، فتحتم عليه، عند ذلك أن يشتبك في معركة مع الأمبراطور.ابتدأت المعركة في ساعات الصباح الأولى من يوم الخامس والعشرين من ( شهر شعبان عام 223 هـ تموز عام 838 م) وعلى الرغم من ان البيزنطيين أحرزوا نصرا أوليًّا إلا أن فرسان المسلمين حولوا الموقف من الهزيمة إلى النصر، ووقع الاضطراب في صفوف البيزنطيين عندما شاع خبر أن الإمبراطور لقى مصرعه و المعركة دائرة؛ فانهزم البيزنطيون وهربوا لا يلوون على شيء، وترك الإمبراطور ساحة المعركة بعد قليل من العناء وسار حتى بلغ مدينة خليوكومن، شمالى أماسيا حيث جمع فلول جيشه الهارب، وعاد إلى معسكره على نهر هاليس، وأرسل أحد خصيانه إلى أنقرة للدفاع عنه، لكنه وصل بعد فوات الأوان؛ ذلك أنه حدث أن اجتمعت الجيوش الإسلامية المتفرقة في سهل أنقرة وأنزلوا بالمدينة الخراب والدمار.

    لم يَسَعْ ثيوفيل بعد هزيمته وسقوط أنقرة، إلا أن يرسل إلى المعتصم يطلب الصلح معتذرا عن مذابح زبطرة، ومتعهدا بإعادة بنائه، وإعادة السكان إليه، وإطلاق سراح من عنده من الأسرى المسلمين، إلا أن الخليفة رفض عرض الصلح،وتابع زحفه باتجاه عمورية، أما ثيوفيل فقد توجه نحو دوريليوم منتظرا ما سوف يحلُّ بعمورية من المصير المحتوم.

    وتقدم الخليفة باتجاه عمورية بعد تدمير أنقرة؛ فوصلها في سبعة أيام وشرع في حصارها،وعلى الرغم من مناعتها وحصانتها إلا انها استسلمت في السابع عشر من (شهر رمضان عام 223 هـ / 838 م) بعد أسبوعين من الحصار؛ فأسر المسلمون كثيرا من أهلها وغنموا غنائم وفيرة، وهدم المعتصم أسوراها،وأمر بالمقابل بترميم زبطرة وتحصينها.

    كشفت حملة المعتصم عن ضعف الإمبراطورية البيزنطية، مما شجع الخليفة على مواصلة زحفه باتجاه القسطنطينية، التى باتت الطريق إليها مفتوحة، إلا أنه اضطر للعودة إلى العراق لأنه كشف مؤامرة دبرها الجند لصالح العباس.

    وفي مطلق الأحوال تبقى حملة المعتصم إلى بلاد البيزنطيين مميزة عن الحملات السابقة التى كانت تستهدف الأطراف، فعمورية تقع بعيدا في جوف آسيا الصغرى،إذ اعتبرها الطبرى " من أعظم ما يُقصَد له من بلاد الروم "

    وما ترتب علي غزو المعتصم من كوارث في آسيا الصغرى، وما جرى من تقدم مسلمي إفريقية في جزيرة صقلية،وما ألحقه المسلمون في جزيرة كريت بالإمبراطورية من هزائم، كل ذلك أقنع ثيوفيل بأن الإمبراطورية عاجزة عن مواجهة قوة المسلمين المتزايدة، فمال إلى الصلح.

    وأخيرا تقررت الهدنة بين الطرفين في عام (227 هـ / 842 م). ثم حدث أن توفي كلٌّ من المعتصم وثيوفيل في العام نفسه، فتولى الخلافة الواثق، في حين تولى عرش الإمبراطورية البيزنطية ميخائيل الثالث بوصاية والدته تيودورا.

    وفاة المعتصم

    احتجم المعتصم في اليوم الأول من (شهر محرم عام 227 هـ / شهر تشرين الأول عام 841 م ) فأصيب عقب ذلك بالمرض الذي قضى عليه لثماني ليالٍ مضت من شهر ربيع الأول أواخر شهر كانون الأول من العام الميلادى المذكور، وكان قد ولى عهده ابنه هارون، ولم يشرك معه في الولاية أحد.
    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty رد: العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 10:38 am

    الخليفة العباسي أبو جعفر هارون الواثق 227-232هـ
    التعريف به:

    هو هارون بن المعتصم، ويكنى أبا جعفر، أمه أم ولد تدعى قراطيس، بويع له بالخلافة بعهد من والده المعتصم في اليوم الذي توفي فيه هذا الأخير، يوم الأربعاء لثماني ليالٍ مضت من شهر ربيع الأول.

    اشتهر الواثق برجاحه العقل، وبحسن التصرف السياسي في عهد والده مما دفع أباه إلى الاعتماد عليه أثناء غيابه عنمقر الخلافة، ثم ولاه عهده، أولع بالعلم والأدب،كان شاعرا له شعر حسن وأجزل العطاء للشعراء الذين زخر بهم عصره، وقد أفرد في قصره مجلسا للمناقشات الفكرية مقتديًا في ذلك بالمأمون وكان يقال له: "المأمون الصغير "،واقتدى بأبيه فى الاعتماد على العنصر التركي؛ فأحَلَّ الأتراك في المناصب القيادية محل العرب.

    الأوضاع الداخلية فى عهد الواثق

    يعتبر عهد الواثق فترة انتقال بين عصرين مختلفين من عصور دولة الخلافة العباسية، وشهد في كثير من مظاهره ما كان سائدا في عهد المأمون وعصر والده المعتصم.

    تصدى الواثق، فى بداية عهده، لحركات الأعراب من بنى سليم وغيرهم من البدو الذين عاثوا فسادا في جهات المدينة، وفرض الأمن على الطرقات التجارية في شمالي الجزيرة العربية.

    اعتنق الواثق عقيدة المعتزلة المتعلقة بخلق القرآن، وانتهج سياسة والده في الانتصار لها ومساندتها، وتشدد في فرض آرائه الدينية على الناس مما أدى إلى بروز حركة تذمر من قبل العامَّة والفقهاء، فتآمر عليه أهلُ بغداد، وتنادَوا إلى عزله، ويبدو أنه تراجع عن عقيدته قبل موته.

    اعترى إدارة الواثق الضعف والتحكم من قِبَل الولاة والبطانة، وتفشَّت الرشوة فى عهده وكثر الفساد، انتهج هذا الخليفة سياسة التشدد تجاه عماله وكُتَّابه مقتفيا أثر جده الرشيد، وتبنى قوله المشهور "...... إنما العاجز من لا يستبد " فنكَّب بكُتَّابه، وانتزع الأموال منهم متهما إياهم بالإثراء على حساب الدولة.

    تمتع ولاة الأقاليم في عهد الواثق بنفوذ كبير، فقد حكم عبد الله بن طاهر بن الحسين خراسان وطبرستان وكرمان حُكْمًا يكاد يكون مستقلا، وأسند الخليفة إلى قائده التركي أشناس حكم الجزيرة والشام والمغرب ومصر، كما ولى إيتاخ التركي خراسان والسند و كوردجلة.

    وفاة الواثق

    دام اعتلاء الواثق لسُدَّة الخلافة العباسية أقل من ست سنوات وتوفي، بمرض الاستسقاء لست بقين من (شهر ذى الحجة عام 232 هـ / شهر آب عام 847 م ) دون أن يولي على العهد أحدا بعده، وسُئِلَ أثناءَ مرضه ودُنُوِّ أجله، أن يوصي بالخلافة لولده، فرفض وقال: " لا أتحمل أمركم حيًّا وميِّتًا " ويشكل عهده نهاية العصر العباسي الأول. (33)


    من مميزات العصر العباسي الأول
    سيطرة شبه كاملة للفرس على الجهازين العسكري والإداري:

    عندما قامت الخلافة العباسية كان للفُرس اليد العليا في قيامها وخاصة الخراسانيين، وقد سنحت الفرصة لهؤلاء للاستئثار بالسلطة وتولي الحكم، وساعد على ذلك شدة ميل العباسيين إلى الفرس، وإيثارهم بالمناصب المدنية والعسكرية، وقد أثار ذلك كراهية العرب بتقريب الفرس إليهم، لذا لا نعجب من انصراف العرب عن العباسيين، فقد دَبَّ في نفوسهم دبيبُ الكراهية لهم وللفرس الذي استأثروا بالسلطة دونهم، لممالأة العباسيين لهم واعتمادهم على ولائهم، فقامت الفتن والثورات في البلاد الإسلامية..

    وكان من أثر ذلك الميل الذي أبداه العباسيون نحو الفرس وتلك الرعاية التي حاطوهم بها أن أصبح نظام الحكم عند العباسيين مماثلاً لما كان عليه في بلاد الفرس أيام آل ساسان، قال "بالمر" في كتابه "هارون الرشيد": "ولما كان العباسيون يدينون بقيام دولتهم للنفوذ الفارسي كان طبيعيًا أن تسيطر الآراء الفارسية؛ ولهذا نجد وزيرًا من أصل فارسي على رأس الحكومة، كما نجد أيضًا أن الخلافة تدار بنفس النظام الذي كانت تدار به إمبراطورية آل ساسان"..

    كما اتخذ الخلفاء الموالي من الخراسانيين حرسًا لهم لاعتمادهم على ولائهم وإخلاصهم، واستبد هؤلاء الخلفاء بالسلطة وتسلطوا على أرواح الرعية كما كان يفعل ملوك آل ساسان من قبل، وظهرت الأزياء الفارسية في البلاط العباسي..

    وطبيعي أن يميل العباسيون إلى الفرس، الذين ساعدوهم على تأسيس دولتهم، وقاموا في وجه أعدائهم الأمويين، وإن مثل هذا الميل إلى الفرس، وتلك الكراهة التي أضمرها العباسيون للأمويين لتتمثل في تلك الخطب التي ألقاها داود بن علي وأبو جعفر المنصور وغيرهما يشيدون فيها بمآثر الفرس وما بذلوه من جهود في سبيل قيام الدولة العباسية.. (34)

    على أن الفرس على الرغم مما أظهره العباسيون من ميل ظاهر نحوهم حتى آثروهم على العرب فأسندوا إليهم مناصب الدولة مدنية كانت أو عسكرية، وعلى الرغم من تأثر العباسيين بهم في اقتباس نظم الحكم عنهم، والاقتداء بهم في مظاهر البلاط، وفي اللباس وفي الاحتفال بالأعياد والمواسم، على الرغم من هذا كله كانوا لا يقنعون بما نالوه من عطف وميل، وما وصلوا إليه من نفوذ وسلطان؛ فعملوا على التخلص من العباسيين وتحويل الخلافة إلى العلويين، خاصةً وإن ميل الفرس إلى العلويين قديم يرجع إلى أيام الحسين بن علي..

    ولا غرو فقد شايع الفرس العلويين لما كانوا يعتقدونه من أنهم وحدهم يملكون حق حمل التاج لكونهم وارثي آل ساسان من جهة أمهم "شهربانوه" ابنة يزدجرد الثالث آخر ملوك هذه الأسرة، ولأنهم الأئمة رؤساء الدين حقًا، وذلك يتفق مع معتقداتهم الدينية، إذ كانوا ينظرون إلى ملوكهم نظرة تقديس وإكبار، ويعتقدون أنهم ظل الله في الأرض، كما كانوا يعتقدون أن العلويين، وبخاصة أبناء الحسين بن علي يمثلون حق النبوة والملك، لأنهم من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم وآل ساسان وهذا يفسر لنا سبب ميل الفرس إلى العلويين وعملهم على تحويل الخلافة إليهم، وقد اضطلع بهذا الأمر أحد زعماء الفرس وهو أبو سلمة الخلال..

    فيحكي لنا التاريخ أن السفاح عندما بُويِع بالخلافة استوزر أبا سلمة على كره منه لمكانته من الخراسانيين، وهم عصب الدولة ومصدر قوتها، ولقبه "وزير آل محمد" إلا أن هذا كله لم يكن مصدره حُسْن النية من جانب السفاح إذ خاف على نفسه إن هو قتله أن يقوم أهل خراسان ليثأروا له، فعمل على أن يتم هذا الأمر على يد أبي مسلم، وكتب إليه مع أخيه المنصور كتابًا يخبره فيه: أن أبا سلمة يعمل على تحويل الخلافة إلى العلويين وعَهِد له بمعاقبته، وباطن الكتاب يُشْعِرُ بتصويب قتله، فأرسل أبو مسلم رجالاً من أهل خراسان فقتلوه، وتخلص منه السفاح وأبو مسلم الذي كان يكرهه ويحقد عليه مقامه، وبذلك هيَّأ أبو مسلم سبيل قتله بنفسه، فقد عوَّل السفاح على التخلص منه إلا أن منيته حالت دون ذلك..

    ولكن ميل الفرس إلى العلويين لم يخمد بقتل أبي سلمة الخلال فقد كانوا يناصرون كل علوي يعمل على الخروج على العباسيين، ومن الأمثلة التي تؤيد هذا الرأي محاولة جعفر بن يحيى البرمكي تخليص يحيى بن عبد الله العلوي في عهد هارون الرشيد، وما قام به الفضل بن سهل وزير المأمون في خراسان من تحويل الخلافة من العباسيين إلى العلويين، حيث حمل المأمون على أن يولي عهده عليًّا الرضا، وأن يتخذ الخضرة شعار العلويين بدل السواد شعار العباسيين شعارًا رسميًا لدولته... (35)

    الوزارة:

    عندما انتقلت الخلافة إلى العباسيين، اتخذوا نظم الحكم عن الفرس ومنها الوزارة، وكان أول وزير للعباسيين أبا سلمة الخلال، لكن معالمها لم تتحدد في عهده، ولأن الدعوة العباسية قد قامت على أيدي الفرس وبمساعدتهم فمن الطبيعي أن يكون وزراء العصر العباسي الأول من الأعاجم مثل: البرامكة وبني سهل وعلى أيدي هؤلاء اكتسبت الوزرة شكلها النهائي في أواخر العصر العباسي الأول وكان الوزير في أيام العباسيين:

    ـ ساعد الخليفة الأيمن.

    ـ نائبًا عنه في حكم البلاد.

    ـ يعين الولاة.

    ـ يشرف على الضرائب.

    ـ يجمع في شخصه السلطتين: المدنية والحربية.

    ـ صاحب المشورة التي يسترشد بها الخليفة.

    وكان الوزراء في العصر العباسي الأول يتجنبون تسمية نفسهم باسم "وزير" على الرغم من قيامهم بأعمال الوزارة ومهامهم، فإليهم يرجع الفضل في ضبط أمور الدولة، ونشر لواء الأمن والعدل بين الرعية، ومَرَدُّ ذلك إلى تخوف الوزراء من الخلفاء بعد أن لقي البعض منهم حتفه على أيديهم، ولكن هذا لم يمنع الوزراء من الإقبال على اكتساب الألقاب المنسوبة إلى الدولة مثلاً:

    عماد الدولة، وعز الدولة، وركن الدولة..

    وكانت الوزارة أيام العباسيين ضعيفة أمام قوة الخلافة، قوية كلما ضعفت الخلافة؛ لذا تطرق الفساد إلى منصب الوزارة في عهد الخليفة المقتدر (295ـ320هـ) لاتباعه سياسة خرقاء في تعيين وزرائه وعزلهم، حتى تقلَّد الوزارة في عهده اثنا عشر وزيرًا، عُزِل بعضُهم أكثر من مرة، وكان لضعف الوزراء في ذلك العصر وازدياد نفوذ القواد أن ضاعت هيبة الوزارة فلم يبق للوزراء شيء من النفوذ؛ فاقتصرت وظيفتهم على الحضور إلى دار الخلافة في أيام المواكب مُرتَدِين السواد متقلدين السيوف والمناطق وغيرها من شعارات الوزارة، وأصبح تعيين الوزراء وعزلهم بيد أمير الأمراء الذي هيمن على شئون الخلافة والوزارة والدولة جميعً، وبخاصة في عصر البويهيين والسلاجقة. (36)

    الكُتَّاب:

    اتسعت الدولة العربية الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين وضمت شعوبًا وطوائف عديدة من الناس، فكان لابُدَّ لهذه الدولة من أن ينشأ فيها جهاز وظيفي يتولى أعمال الكتابة التي يوجهها الخليفة إلى الوزير أو القضاة والولاة في الأقاليم، وتسجيل الرسائل الواردة من الولاة والقضاة إلى الخلافة، وكذلك في سائر الدواوين كانت هناك الحاجة إلى من يتولى الأعمال الكتابية فيها..

    وفي العصر الأموي والعصر العباسي استمرت تلك الحاجة إلى مجموعة من الموظفين أو الكتاب للقيام بالأعمال الكتابية خاصة في العصر العباسي الأول بعدما تعددت الدواوين لمساعدة الوزير في أعماله الواسعة، وللإشراف على هذه الدواوين المختلفة وإدارة شؤونها فاقتضى طبقًا لذلك أن يكون لكل وزير كاتب أوكتَّاب يساعدونه، وأن يكون لكل والٍ من ولاة الأقاليم ورجال الدولة كاتب أو أكثر..

    ويرأس جماعة الكتاب الوزير، وأحيانًا كثيرة كان بعض الكتاب يتدرجون في الرقي إلى أن يتولوا الوزارة معتمدين على كفايتهم الكتابية وبلاغة أقلامهم..

    وتولى الأعمال الكتابية في الخلافة العباسية الفرس، لأن الفرس كانت لهم القدرة الفائقة في الكتابة، بينما كان العرب يفخرون بالسيف لا بالقلم، لذا نجد كثيرًا من الكتاب في العصر العباسي يحذون حذوَ أجدادهم الفرس، حتى في مظهرهم الخارجي، وكان لامتلاك بعض الكتاب ثقافةً أوسعَ من ثقافة غيرهم، ودائرة معارفهم الواسعة، ودرايتهم بأحوال الناس الاجتماعية، وتقاليدهم الكبيرة الفضل في سيطرة الفُرس على ميدان الكتابة، هذا فضلاً عن إن إجادتهم عملهم كان يتطلب دراية في اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، إلى جوانب كثيرة قد تعرض في مسائل للخليفة أو الوزير أو الوالي..

    ولما كانت الأعمال الكتابية مهمة وخطيرة يجب على من يتولاها أن يتحلى بأخلاق حميدة وثقافة واسعة ودقيقة، فقد تعددت الكتب التي أُلِّفَتْ لجماعة الكُتَّاب بصفة خاصة فأَلَّف ابنُ قتيبة كتابًا اسمه "أدب الكاتب" أوضح فيه الكثير من ألوان المعرفة التي اعتقد "ابن قتيبة" أن الكاتب بحاجة إليها، كما أَلَّف "أبو بكر الصولي" كتاب "أدب الكاتب" توسَّع فيه في شرح أمور كثيرة لم يعرض لها ابن قتيبة، ونصح "عبد الحميد الكاتب" الكتاب فقال:"فنافسوا معشرَ الكتَّاب في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقافة ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسعون إليه، ولا يضعفن نظركم في الحساب فإن قوام كتاب الخراج منكم"..

    تنوع الكتَّاب تبعًا لتنوع الدواوين في ذلك العصر، فكان منهم كتاب الرسائل وكتاب الخراج وكتاب الجند وكتاب الشرطة وكتاب القاضي، وقد كان صاحب ديوان الرسائل الكاتب الأهم والأعلى شأنًا من غيره إذ كان عليه إذاعة المراسيم وإبراءات وتحرير الرسائل السياسية، وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في صيغتها النهائية، وكانت مهمة كاتب الرسائل تشبه وزارة الخارجية اليوم..

    فكان يتولى مكاتبة الملوك والأمراء عن الخليفة، بأسلوب عذب بليغ؛ لذا روعي في الكاتب رصانة الأسلوب وسعة العلم فضلاً عن عراقة الأصل. (37)

    وقد زَخَرَ العصر العباسي الأول بطائفة من الكتاب لم يسمح الدهر بمثلهم، فقد اشتُهِرَ يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن الربيع في عهد هارون الرشيد، واشتهر الفضل والحسن ابنا سهل وأحمد بن يوسف في عهد المأمون، واشتهر محمد بن عبد الملك الزيات والحسن بن وهب وأحمد بن المدبر في عهد المعتصم والواثق. (38)

    الحركة العلمية في العصر العباسي الأول:

    اشتغال الموالي بالعلم:

    مما يسترعي نظر الباحث في تاريخ الثقافة الإسلامية أن السواد الأعظم من الذين اشتغلوا بالعلم كانوا من الموالي، وخاصة الفرس وكانت اللغة العربية هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين المسلمين إلى أن أزال المغول الخلافة العباسية من بغداد في القرن السابع الهجري، وفي ذلك يقول "ابن خلدون" في "مقدمته" عند كلامه على "أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم": "من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي..."

    ثم ذكر "ابن خلدون" بعض مشاهير "اللغة العربية" أمثال: سيبويه والفارسي والزَّجَّاج في علم النحو،وهم عجم في أنسابهم.

    ويتحدث الأستاذ "نيكلسون" عن النهضة الثقافية في العصر العباسي قائلا:"وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في إنشاء نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أن الناس جميعًا من الخليفة إلى أقل الأفراد عامة شأنًا غدوا فجأة طلابا للعلم أو على الأقل أنصارًا للأدب، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيًا إلى موارد العلم والعرفان؛ ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهفين، ثم يصنفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنفات التي هي أشبه شيء بدوائر للمعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعةً من قبل" (39)

    هذا في الشرق الإسلامي في العصر العباسي الأول، أما في الغرب فقد نافست قرطبة بغداد والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط فأصبحت حاضرة الأندلس سُوقًا نافقة للعلم وكعبةً لرجال الأدب، حتى جذبت مساجدُها الأوروبيين الذين وفدوا إليها لأخذ العلم من مناهله والتزود من الثقافة الإسلامية، ومن ثم ظهرت فيها طائفة من العلماء والشعراء والأدباء والفلاسفة والمترجمين والفقهاء وغيرهم..

    كان عهد الحكم الأول (180ـ206هـ) وعبد الرحمن الأوسط (206ـ238هـ) فترة هدوء سياسي لم يقع فيها من الأحداث السياسية ما يستحق الذكر وقد ساعد هذا الهدوء على بدء نهضة علمية، ولا سيما في عهد عبد الرحمن الأوسط الذي يُعتَبر عهدُه عهدَ يُسرٍ ورخاء وازدهار ثقافي، وذلك عن طريق تأثير الشرق الإسلامي في العصر العباسي..

    وكان عبد الرحمن الأوسط نصيرًا للعلوم والفنون، أولع بالفلك والتنجيم، وأحاط نفسه بنخبة من علماء الفلك وأَدَرَّ عليهم الأرزاق والمنح..

    وقد بعث في بداية عهده عباس بن نصيح إلى الشرق الإسلامي لينقل إليه الكتب التي استحوذ عليها العباسيون، وكان هذا الأميرُ الأمويُّ مولعًا بمطالعة كتب الطب والفلسفة القديمة..

    وانتقل كثيرٌ من التراث اليوناني والفارسي إلى قرطبة بفضل جهود عبد الرحمن الأوسط، وبذل الحكم المستنصر حتى قبل أن يُجْعَل على عرش الخلافة الأموية سنة 350هـ، جهودًا بعيدة الأثر في توجيه الدراسة الأندلسية في ميدان العلوم والطب. (40)
    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty رد: العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 10:39 am

    تقسيم العلوم:

    لقد ميز كُتَّابُ المسلمين بين العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم وبين العلوم التي أخذها العرب عن غيرهم من الأمم ويُطلَق على الأولى: العلوم النقلية أو الشرعية، وعلى الثانية: العلوم العقلية أو الحكمية، ويطلق عليها أحيانًا علوم العجم،أو العلوم القديمة..

    وتشمل العلوم النقلية: علم التفسير وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم الكلام، والنحو واللغة، والبيان، والأدب..

    وتشمل العلوم العقلية: الفلسفة، والهندسة، وعلم النجوم، والموسيقى والطب والكيمياء، والتاريخ، والجغرافيا..

    وفي العصر العباسي الأول اشتغل الناس بالعلوم الدينية، وظهر المتكلمون، وتكلم الناس في مسألة خلق القرآن، وتدخل الخليفة المأمون في ذلك؛ فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء في حضرته، ولهذا عاب الناس عليه تدخله في الأمور الدينية، كما عابوا عليه تفضيله علي بن أبي طالب على سائر الخلفاء الراشدين، وذهب البعض إلى أن المأمون أراد بعقد هذه المجالس إزالة الخلاف بين المتناظرين في المسائل الدينية، وتثبيت عقائد من زاغوا عن الدين، وبذلك تتفق كلمة الأمة في المسائل الدينية التي كانت مصدر ضعفهم، وكان "المأمون" يميل إلى الأخذ بمذهب المعتزلة؛ لأنه أكثر حرية واعتمادًا على العقل، فقرب أتباع هذا المذهب إليه؛ ومن ثم أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة..

    وفي هذا العصر ظهر نوعان من العلماء: الأول: هم الذين يغلب على ثقافتهم النقل والاستيعاب ويُسَمَّوْن أهلَ علم، والثاني: هم الذين يغلب على ثقافتهم الابتداع والاستنباط، ويسمون أهل عقل، وقد ذكر "ابن خلكان" في كتابه "وفيات الأعيان": أن الخليل بن أحمد اجتمع بابن المقفع وتحدثا في شتى المسائل؛ فلما افترقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ فقال: رأيت رجلا علمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه..

    وليس من شك في أن ابن المقفع قد غلب على ثقافته النقل والترجمة والتأثر بآراء غيره من العلماء، على حين قد غلب على ثقافة الخليل الابتكار الذين يتجلى من هذه الحقيقة، وهي أنه أول من فرَّع قواعد النحو، وأول من صنَّف المعاجم، وأول من تكلم في علم العروض، فالأول إذًا ذو علم، والثاني ذو عقل. (41)

    (أ)ـ العلوم النقلية (الشرعية):

    1ـ علم القراءات:

    ومن العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم القراءات، ويعتبر المرحلة الأولى لتفسير القرآن، وتتركز النواة التي بدأ بها هذا العلم في القرآن نفسه، وفي نصوصه نفسها، وبعبارة أخرى في قراءاته، ففي هذه الأشكال المختلفة نستطيع أن نرى أول محاولة للتفسير، ويرجع السبب في ظهور بعض هذه القراءات إلى خاصية الخط العربي، إذ أن الرسم الواحد للكلمة الواحدة قُرِيء بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها..

    وقد وجدت سبعة طرق في القراءات، تمثل كل طريقة منها مدرسة معترف بها ترجع قراءتها إلى إمام ترتبط باسمه وتستند على أحاديث موثوق بها، وعليها يُقتصَر في قراءة المصحف ويعتبرها هارون بن موسى البصري اليهودي الأصل (المتوفى بين سنتي 170و180هـ) مولى الأزد، أول من حاول نقد القراءات المختلفة، وبحث وجوه النظر التي تقوم عليها، ونقد الأسانيد التي تسند إليها نقدًا قويًا، وعلى الرغم من أنه كان قدريًا معتزليًا، قدره البخاري ومسلم، ووثقه يحيى بن معين، ويرجع أغلب الاختلافات في القراءات إلى رجال موثوق بهم ممن عاشوا في القرن الأول كابن عباس وعائشة، وعثمان صاحب القراءة وابنه أبان، وإلى قُرَّاء معترف بهم، كعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وهؤلاء قد أثنى عليهم التابعون وغيرهم..

    ومن أشهر أصحاب القراءات في العصر العباسي الأول يحيى بن الحارث الذماري المتوفى سنة 145هـ، وحمزة بن حبيب الزيات المتوفي سنة 156هـ، وأبو عبد الرحمن المقريء المتوفي سنة 213هـ، وخلف بن هشام البزاز المتوفى سنة 229هـ..

    2ـ التفسير:

    اتجه المفسرون في تفسير القرآن اتجاهين: يعرف أولهما باسم التفسير بالمأثور: وهو ما أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة رضوان الله عليهم، ويعرف ثانيهم باسم التفسير بالرأي: وهو ما كان يعتمد على العقل أكثر من اعتماده على النقل، ومن أشهر مفسري هذا النوع المعتزلة والباطنية..

    على أن النوع الأول من التفسير وهو التفسير بالمأثور قد اتسع على مر الزمن بما أدخل عليه من آراء أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام والذين كانت لهم آراء أخذوها عن التوراة والإنجيل مثل: كعب الأحبار اليهودي، وعبد الله بن سلام،، وابن جريج، ولقد كان إسلام هؤلاء فوق التهمة والكذب، ورفعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم..

    ولما كان الحديث يشغل كل عناية المسلمين في صدر الإسلام اعتُبر التفسير جزءًا من الحديث أو فرعًا من فروعه، حتى إن التفسير في ذلك العهد كان تفسيرًا لآيات مبعثرة غير مرتبة حسب ترتيب السور والآيات، إلا تفسير ابن عباس، ولو أن كثيرين يشككون في نسبته إليه..

    أما الطريقة المنظمة في تفسير القرآن فإنها لم تحدث إلا في العصر العباسي، فقد روى "ابن النديم" في "الفهرست": "أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفرَّاء صاحب كتاب (معاني القرآن) المتوفى سنة207ه، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل؛ فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً، أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه فعلت، فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابًا في القرآن، وجعل لهم يومًا، فلما خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ، وبدأ بفاتحة الكتاب ففسرها، ثم استوفى الكتاب كله، فيقرأ الرجل، ويفسر الفراء، فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدًا يزيد عليه"..

    ولا شك أن الفراء قد فسر القرآن حسب ترتيب الآيات، وأنه فسره بهذه الطريقة التي رسمها لنفسه في أربعة أجزاء..

    ومن المفسرين المشهورين أيضًا مقاتل بن سليمان الأزدي، المتوفى سنة 150هـ، وقد تأثر بتفسير التوراة الذي أخذه عن اليهود، حتى أن الإمام أبا حنيفة قد اتهمه بالكذب، أما الشافعي فقال عنه: الناس كلهم عيال على ثلاثة:

    على مقاتل في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام"، ويروي عنه أيضًا أنه قال:"من أحب التفسير فعليه بمقاتل"..

    على أن هذه التفاسير قد ضاعت، ولم يصل إلينا شيء منها إلا عن ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ في تفسيره المشهور الذي قال عنه أبو حامد الأسفراييني: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصِّل كتاب تفسير محمد بن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرًا"..

    ويمتاز الطبري في تفسيره بتحري الدقة في النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ومعارضته أصحاب الرأي المستقلين في التفكير، لأنهم كثيرًا ما يتبعون هواهم..

    كما امتاز العصر العباسي الأول بوجود جماعة من المعتزلة )الذين يقدمون عقولهم على الشرع) الذين لم يتقيدوا بالتفسير بالمأثور، وإنما كانوا يعتمدون في دعم آرائهم على العقل، وقد بذلوا جهدًا عظيمًا لدحض آراء معارضيهم بتفسير بعض الآيات القرآنية تفسيرًا يتفق مع مبادئهم العقلية..

    ومن أشهر تفاسير المعتزلة تفسير أبي بكر الأصم (ت 240هـ)، وتفسير ابن جرو الأسدي (ت 387هـ) وقد قيل: إنه كتب في تفسير البسملة نحو 120 وجهًا..

    ومن ذلك نرى أن القرآن الكريم قد أصبح منبعًا لكثير من العلوم التي اشتغل بها المسلمون في العصر العباسي، فعلماء النحو اتخذوا منه مادة خصبة يعتمدون عليها في استنباط قواعد اللغة العربية، كما ساعد "الإعراب" على تفسير القرآن وكشف غوامض بعض الآيات القرآنية، حتى لقد وضع علماؤهم كالكسائي والمبرد والفراء وخلف النحوي كتبًا أطلقوا عليها "معاني القرآن"، كما اعتمد الفقهاء في آرائهم الفقهية على القرآن أساسًا للتدليل على صحة ما ذهبوا إليه، وأَلَّفوا في المذاهب المختلفة كتبًا سموها "أحكام القرآن" ومن هؤلاء الشافعي وأبو بكر الرازي، أضف إلى ذلك ما كتبه المؤرخون من تفسير الآيات القرآنية التاريخية من حيث صلتها بتاريخ الأمم الأخرى، وغير خافٍ أن القرآن الكريم من أهم المصادر التاريخية على الإطلاق؛ لأنه أقدمها وأصدقها وأوسعها مجالاً. (42)

    3ـ الحديث:

    ومن أهم مصادر التشريع الإسلامي "الحديث" وهو ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عيه وسلم من قول أو فعل أو تقرير لشيء رآه، ويأتي في الأهمية بعد القرآن الكريم. (43)

    وكانت دراسة علوم القرآن الكريم باعثًا قويًا على ظهور علوم الحديث الشريف، وذلك لأنه يفصل ما أجمله القرآن الكريم، ويفسر ما يصعب على الناس فهمه، فقد شرح الحديث الكثير من الآيات القرآنية، ولم يُدوَّن الحديث الشريف تدوينًا شاملاً منظمًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد صدر الإسلام، ويُروَى أن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن تدوين الحديث حتى لا يختلط بالقرآن الكريم حيث قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"..

    وقد ظهرت بدايات تدوين الحديث الشريف في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي كلف بعض من يثق بهم من علماء الحديث بجمعها، فقال لأبي بكر بن محمد بن حزم (ت120هـ) عندما كلفه بهذه المهمة ما نصه: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه، فإني خشيت دروس العلم، وذهاب أهله"..

    فكتب الأحاديث في دفاتر، وأُرْسِلَتْ منها نسخ إلى أنحاء الدولة الإسلامية. (44)

    حتى إذا جاء القرن الثاني للهجرة أخذ المسلمون يدونون الأحاديث النبوية، وأتاحوا الفرصة لظهور طائفة من أئمة الحديث الذين ظهروا في العصر العباسي، واشتهر منهم سفيان الثوري (ت161هـ) ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ وله من الكتب "الجامع الكبير" و"الجامع الصغير" كلاهما في الحديث. (45)

    والإمام مالك بن أنس (ت 179هـ) أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وجَّه إليه الرشيد العباسي ليأتيه فيحدثه، فقال: العلم يُؤتَى، فقصد الرشيد منزله واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين من إجلال رسول الله إجلال العلم، فجلس بين يديه فحدثه، من مؤلفاته كتاب "الموطأ". (46)

    وسفيان بن عيينة (ت 198هـ) كان حافظًا ثقة، واسع العلم، قال عنه الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، له كتاب "الجامع" في الحديث. (47)

    والإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) صاحب كتاب "المسند" الذي اشتمل على أربعين ألف حديث تكرر فيها عشرة آلاف، ويعد هذا الكتاب من الكتب المعتمدة في علم الحديث..

    وشهد علم الحديث في القرن الثالث الهجري نشاطًا كبيرًا عندما اتسعت حركة الجمع، واستقر نقد الحديث للتمييز بين الصحيح والضعيف، وجمعت الأحاديث في كتب خاصة، وأفردت عن الشروح الفقهية فظهرت المصنفات الصحيحة وأشهرها صحيح البخاري (ت256هـ) وصحيح مسلم (ت261هـ) وسنن ابن ماجة (ت273هـ) وسنن أبي داود (ت273هـ) وجامع الترمذي (ت279هـ)، وتسمى هذه الكتب (بالصحاح الستة) وأشهرها توثيقًا صحيحا البخاري ومسلم. (48)

    4ـ الفقه:

    كان اختلاف أئمة الفقه في بعض النصوص الفقهية، واستنباط الأحكام منها قد أدى إلى تعدد المذاهب الفقهية، واشتهر من هذه المذاهب أربعة هي: مذهب مالك إمام أهل الحجاز، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة أهل الحديث، ومذهب أبي حنيفة إمام أهل العراق، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة الرأي والقياس، ومذهب الشافعي وكان يسير أولاً على طريقة أهل الحجاز، ثم جعل مذهبه وسطًَا بين الطريقتين، ومذهب أحمد بن حنبل، وكان من كبار المحدثين، واختص هو وأصحابه بالمذهب الحنبلي الذي يبعد عن الاجتهاد مما أدى إلى قلة عدد المتمسكين بمذهبه..

    ومن ثم ظهرت في ميدان الفقه مدرستان: مدرسة أهل الحديث في المدينة وعلى رأسها الإمام مالك الذي كان يأخذ بمبدأ التوسع في النقل عن السنة، ومدرسة أهل الرأي في العراق وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بالكوفة سن 80هـ، ومات ببغداد سنة 150هـ، وقيل: إنه حج وهو في السادسة عشرة من عمره مع أبيه، وشهد عبد الله بن الحارث أحد الصحابة يحدث بما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى أيضًا أنه سمع مالك بن أنس، وكان أبو حنيفة بجانب اشتغاله بالعلم يحترف التجارة؛ فيبيع الخز، ويجلس في الأسواق مما أكسبه خبرة عظيمة، وجعله يعرف حقيقة ما يجري في الأسواق من معاملات الناس في البيع والشراء..

    وقد تعلم أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وأخذ عن عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، ونافع مولى عبد الله بن عمر، ولكنه أخذ أكثر علمه عن أستاذه حماد بن أبي سليمان الأشعري، وكان أبو حنيفة يتشدد في قبول الحديث، ويتحرَّى عنه وعن رجاله.

    ولم يصل إلينا أي كتاب في الفقه لأبي حنيفة، إلا أن ابن النديم ذكر من بين كتبه كتاب الفقه الأكبر ـ وهو في العقائد ـ ورسالته إلى البُستي، وكتاب الرد على القدرية، والعلم برًا وبحرًا شرقًا وغربًا بعدًا وقربًا..

    ومن تلاميذ أبي حنيفة الليث بن سعد الذي تولى قضاء مصر، وقد قيل إن أبا جعفر المنصور اجتمع به في بيت المقدس، وأنه قال لما خرج لوداعه، أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك، وقد ذكر ابن خلكان: أن دخل الليث خمسة آلاف دينار في السنة، وأنه كان يوزعها على أهل العلم استغناء منه وتورعًا..

    ومن فقهاء ذك العصر مالك بن أنس الذي قضى حياته بالمدينة المنورة، روى أنه أخذ قراءة القرآن عن نافع بن أبي نعيم، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي، وسمع الحديث من كثير من شيوخ المدينة كابن شهاب الزهري، ونافع مولى عبد الله بن عمر، وروى عنه الأوزاعي..

    وكان مالك أول من كتب في العلوم الدينية في العصر العباسي، وكتابه (الموطأ) أول كتاب ظهر في الفقه الإسلامي، ومن كتبه "المدونة" وهي مجموعة رسائل من فقه مالك، جمعها تلاميذه أسد بن الفرات النيسابوري، وتشتمل على نحو ست وثلاثين ألف مسألة، وكان مالك يعتمد على الحديث كثيرًا لأن بيئته الحجازية كنت تزخر بالعلماء والمحدثين الذين تلقوا الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم وورثوا من السنة ما لم يتح لغيرهم من أهل الأمصار الإسلامية الأخرى..

    وقد دخل مذهب مالك الأندلس في عهد الحكم الأول (180ـ206هـ) وقد قبل الأمير الأموي هذا المذهب لأنه يحرر بلاده من تأثير العباسيين الأدبي، وانتشر هذا المذهب في المغرب في الوقت نفسه، بذلك اتجهت الدراسات الفقهية نحو مذهب مالك، وقد نشأ عن دخول مذهب مالك في المغرب والأندلس مدرسة دينية طبقت شهرتها العالم الإسلامي الغربي، وظهر من بين علمائها: عبد الملك بن حبيب صاحب "الواضحة"، وعيسى بن دينار، وزياد بن عبد الرحمن..

    وممن اشتهر بالفقه من تلاميذ مالك محمد بن الحسن في العراق، ويحيى بن يحيى الليثي في الأندلس، وقد انتهت إليه الرياسة في الفقه والحديث في بلاد الأندلس، كما سمع عن الليث بن سعد في مصر، وسفيان بن عيينة بمكة، وكان قاضي القضاة في بلاد الأندلس لا يلي إلا بمشورة يحيى واختياره..

    ومن أشهر أئمة هذا العصر أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الذي جمع بين مدرستي النقل والعقل بما آتاه الله من سعة العقل والقدرة على الابتكار، وهو أول من تكلم في أصول الفقه، وأول من أخذ في وضع مبادئه، وكان الشافعي مُعظِّمًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه إذا أراد أن يحُدِّث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة..

    ترك الشافعي بلاد العراق سنة 200هـ، وقصد مصر حيث مات بها سنة 204هـ وله كتب كثيرة في الفقه، منها كتاب المبسوط في الفقه، وكتاب الأم، وقد أملاه على تلاميذه بمصر، وروى عنه كثير من الفقهاء كأبي ثور وابن الجنيد والبويطي وابن سريج وغيرهم..

    كان الشافعي ـ كما وصفه ابن خلكان- على علم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم، وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء، وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر..

    قال عنه أحمد بن حنبل رحمه الله: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي؟!! فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدني، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض؟

    ومن هؤلاء الأئمة أحمد بن حنبل رحمه الله الذي قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله عندما خرج من بغداد إلى مصر:

    "خرجت من بغداد وما خلَّفتُ بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل"..

    إلا أن مذهبه قليل الأتباع، وأكثرهم بالشام ونجد والبحرين، وقد شهد له أئمة عصره بالانفراد بالزهد والورع والتقوى، وموقفه من مشكلة خلق القرآن يدل على قوة عزيمته، وشدة تمسكه بالدين..

    ومن فقهاء ذلك العصر أبو يوسف (ت182هـ) وقد تولى القضاء للمهدي والهادي والرشيد، وكان في أيام الرشيد يتقلد منصب قاضي القضاة..

    وكان أبو يوسف من أكبر تلاميذ أبي حنيفة أخذ عنه الفقه، وعمل على نشر مذهبه ومبادئه بعد أن تقلد قضاء بغداد، ومن مؤلفات أبي يوسف كتاب "الخراج" الذي ألفه للرشيد، وتعرض فيه لأهم أمور الدولة المالية التي لا يستطيع الإلمام بها إلا من كان في مثل منصبه، وقربه من الخلفاء، وتضلعه في الفقه الإسلامي..

    ومن أشهر فقهاء هذا العصر-كذلك- الليث بمصر، وقد أطنب العلماء في الإشادة بعلمه، روى عن الشافعي أنه قال: إن الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال ابن وهب: ما رأينا أحدًا قَطُّ أفقه من الليث سنة 157هـ.. (49)

    5ـ علم الكلام:

    من العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم الكلام، ويقصد به الأقوال التي كانت تُصاغ على نمط منطقي أو جدلي للدفاع عن عقيدة المتكلم، كما يسمى المشتغلون بهذا العلم "المتكلمين"، وكان يطلق هذا اللفظ أول الأمر على من يشتغلون بالعقائد الدينية، غير أنه أصبح يطلق على من يخالفون المعتزلة ويتبعون أهل السنة والجماعة..

    وكان من أثر ذلك أن أخذت كل فرقة تدافع عن عقيدتها، وتعمل على دحض الأدلة التي وردت في عقائد مخالفيها، وكانت المناظرات تعقد بين المتكلمين في قصور الخلفاء، وفي المعاهد الدينية كالمساجد، وغير الدينية كبيوت الحكمة..

    ومن أشهر المتكلمين: واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وبشر بن غياث، وثمامة بن أشرس. (50)

    وقد ظهر في عهد المأمون جماعة من كبار العلماء والمتكلمين الذين تناولوا أصول الدين والعقائد، وحَكَّموا عقولهم في البحث، ونشأت بسبب ذلك اعتقادات تخالف اعتقادات عامة المسلمين، وجمهور علمائهم المعروفين بأهل الحديث، وكان اعتماد المتكلمين في مباحثهم على العقل دون النقل، ومال المأمون إلى الأخذ بمذهب المعتزلة الفاسد؛ القائم على نبذ الشرع وتقديم العقل عليه؛ فقرب أتباع هذا المذهب إليه، ومن ثم أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة ببغداد، ووافقهم فيما ذهبوا إليه من أن القرآن مخلوق وهي بدعة ضالة، وعمد إلى تسخير قوة الدولة لحمل الناس على القول بخلق القرآن.. ربما لفساد عقيدته، وربما لشغل الناس عن القضايا السياسية، ومحاسبة الحكام -كما يرى بعض الباحثين.

    وصفوة القول: إن بعض خلفاء العصر العباسي الأول، كالمأمون والمعتصم والواثق شجع بعض الآراء الفلسفية والبحث العقلي في المسائل الدينية، وأن هؤلاء الخلفاء وقعوا فيما وقع فيه الروم من قبل، فأخذوا ببعض هذه الآراء واضطهدوا المعارضين لها، وعضدوا علماء الكلام فيما ذهبوا إليه من المسائل الدينية، وبخاصة مسألة خلق القرآن التي شغلت عقول الخلفاء وعلماء الكلام نحو خمس عشرة سنة (218ـ232هـ)..

    ومن أبرز متكلمي المعتزلة أبو الهذيل العلاف الذي وُلِدَ سنة 135هـ وتوفى سنة 235هـ، وكان من أقوى الشخصيات في مدرسة البصرة كما كان رئيس طائفة المعتزلة في أيامه، اشتهر بقوة الجدل والإقناع حتى قيل إنه أسلم على يديه ثلاثة آلاف رجل، وقد شغل كل حياته بالجدل مع الزنادقة والمجوس والثنوية وغيرهم. (51)

    6ـ النحو:

    نشأ علم النحو في البصرة والكوفة اللتين صارتا من أهم مراكز الثقافة في القرن الأول الهجري، وفي هاتين المدينتين كانت تقيم جاليات عربية تُنسَب إلى قبائل عربية مختلفة ذات لهجات متعددة، وآلاف من الصناع والموالي الذين كانوا يتكلمون الفارسية، ومن ثم تعرضت العبارات العربية السليمة إلى شيء غير قليل من الفساد، ودعت الضرورة إلى تقويم اللسان العربي، حتى لا يتعرض القرآن الكريم للتحريف، وكان أبو الأسود الدؤلي أول من اشتغل بالنحو في عهد الأمويين، وقد قيل: إنه تلقى أصول هذا العلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه..

    ومن علماء البصرة المبرزين في العصر العباسي الأول أبو عمرو بن العلاء (ت153هـ)، والخليل بن أحمد (ت174هـ) واضع علم العروض، وصاحب كتاب "العين" الذي يُعتَبر أول معجم وُضِعَ في اللغة العربية، وسيبويه الفارسي، ويعرف كتابه باسم "كتاب سيبويه"، والمبرد صاحب كتاب "الكامل" ومن أشهر علماء الكوفة الكسائي الذي عهد إليه هارون الرشيد بتهذيب ابنيه الأمين والمأمون، وتلميذه الفراء المتوفى سنة 207هـ.. (52)

    ويعد الرؤاسي (ت235هـ) مؤسس مدرسة الكوفة ورأس علمائها، قد غلبت عليه الناحية الصرفية التي اهتم بها الكوفيون، وتقدموا بها على أهل البصرة حتى عَدَّهم المؤرخون الواضعين لعلم الصرف..

    وعندما تأسست مدينة بغداد وانتقلت الحركة العلمية إليها تكونت فيها مدرسة جديدة للنحو وقفت بين مدرستي البصرة والكوفة، وشجع الخلفاء العباسيون المناظرات العلمية بين علماء المدرستين، وأشهرها مناظرة الكسائي إمام الكوفة وسيبويه إمام البصرة، وفيها تغلب الكسائي فكان ذلك فوزًا لمدرسة الكوفة في بغداد، وقد أدى الخلاف بين المدرستين إلى بلورة علم النحو. (53)

    7ـ الأدب:

    لقد شهد العصر العباسي ثورة ضخمة في الشعر، وظهر كثير من الشعراء الذين نهجوا بالشعر مناهج جديدة في الموضوعات والمعاني والأساليب والألفاظ حتى فاقوا في كل ذلك من سبقهم من الشعراء الإسلاميين والمخضرمين والجاهليين، ونشأت فيه أغراض لم تكن موجودة من قبل، وذهبت أخرى فقد ضعف الشعر السياسي والحماسي والغزل العذري، وقوي شعر المدح والرثاء، وازداد الشعر الحكمي، وظهر الشعر الزهدي والصوفي والفلسفي والتعليمي والقصصي، وأسرف الشعراء المتأخرون في استعمال ضروب البديع من جناس وطباق، واهتموا بتزويق اللفظ..

    وقد ازدهرت الحركة الشعرية والأدبية في العصر العباسي بفعل عملية الامتزاج بين المجتمعات والعناصر المختلفة وانتقال الثقافات الأجنبية عن طريق الترجمة وتبلور الخلافات السياسية والمذهبية بين الفرق الإسلامية مع بعضها البعض من جهة، ومع غيرها من جهة أخرى، فضلاً عن تشجيع الخلفاء والحكام للشعراء في بغداد، والمدن الأخرى، ولمع في سماء الأدب العباسي شعراء عديدون كبار أمثال: بشار بن برد (ت168هـ)، وأبو نواس (ت198هـ)، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي (ت228هـ).

    لقد نال الشعر من الاهتمام ما لم ينله أي لون أي لون من ألوان الأدب العربي لما عرف عن صلة العرب بالشعر، فقد قيل (الشعر ديوان العرب) وكان الشعر والأدب ينقل شفهيًا منذ العصر الجاهلي رغم ضياع أكثره، وفي إطار هذا الجهد التدويني للشعر الجاهلي ظهرت مجموعات شعرية مهمة كالمعلقات والمفضليات والأصمعيات فالمعلقات هي أقدم ما بقى لنا من مجموعات الشعر الجاهلي وهي سبع قصائد طوال لسبعة من شعراء الجاهلية المشهورين جمعها حماد الراوية (ت156) وسماها المعلقات، والمفضليات هي المجموعة الشعرية الثانية للمفضل بن محمد الضبي الكوفي (ت164هـ)، والأصمعيات لعبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي (ت216هـ)، وهناك مجموعات شعرية أخرى كديوان الحماسة لأبي تمام (ت231هـ)، وطبقات الشعراء لابن سلام (ت231)، وغيرها من المصنفات التي دونت أهم ما حفظته ذاكرة الرواة من الشعر الجاهلي بعد الإسلام؛ فصانته لنا من الضياع. (54)

    وكان للفرق الدينية كالشيعة والمعتزلة التي نشأت في القرن الأول الهجري، ونمت في العصر العباسي الأول، شعراء يدافعون عن مبدأهم، ويحفزون أتباعهم لمقاومة كل اعتداء يحيق بهم من خلفاء ذلك عصر، ومن هؤلاء السيد الحميري (ت173هـ) وكان كيسانيًا، فأبان عن عقيدته في محمد بن الحنيفة بن علي بن أبي طالب، وأشاد بمآثره..

    وكان للمعتزلة الذين نشطت دعوتهم في بداية العصر العباسي، ونمت نموًا سريعًا في عصر المأمون، شعراء يشيدون بمبادئهم وأعمالهم من ذلك ما قاله بعضهم:

    له خلف شِعب الصين في كل ثغرة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر

    وقد حفَّزت الانتصارات المتوالية التي ظفر بها الخلفاء العباسيون على الروم كثيرًا من الشعراء إلى إنشاد القصائد الرائعة للإشادة ببطولتهم، وما أحرزوه من نصر وظفر في سبيل دفع خطر الأعداء عن المسلمين.. من ذلك ما قاله أبو العتاهية في مطلع قصيدته التي نظمها على أثر انتصار الرشيد على الروم في هرقلة:

    ألا نادت هرقلة بالخراب من الملك الموفق بالصواب

    ومدح أبو تمام الخليفة المعتصم على أثر انتصاره في عمورية بقصيدته التي قال فيها:

    فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب

    (ب)ـ النثر:

    أما النثر فلم يكن أقل ثراءً وخصبًا من الشعر، قد بدأ النثر في صدر الإسلام بسيطًا مباشرًا موجز العبارة، وبأشكال عديدة منها: الرسائل والخطب والأحاديث والأمثال والقصص، وبتقدم الحياة الاجتماعية والعقلية تقدم النثر وتنوعت موضوعاته، وتعددت فنونه؛ فظهرت صنعة الكتابة، ومن أبرز الكُتَّاب "عبد الحميد الكاتب" الذي يعتبر شيخ صناعة الكتابة والذي قيل فيه:"بدأت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد".. فقد أحدث فيها أمورًا فنية لم تكن من قبل كالتحميدات في صدور الرسائل، وتقسيم الفقرات والفصول، وختم الرسائل بما يناسب المكتوب إليه.. إلى غير ذلك من الأمور، وليس لعبد الحميد كتب، وإنما خلف رسائل مشهودة مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ، من أشهرها رسالته إلى الكتاب، ورسالته التي كتبها إلى ولي عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية..

    ومن أدباء العصر العباسي الأول أيضًا عبد الله بن المقفع الذي يرجع إليه الفضل في نقل كثير من الكتب عن الفهلوية، وهي الفارسية القديمة، ومن هذه الكتب كتاب "كليلة ودمنة" الذي ترجمه عن أقاصيص "بيدبا" التي كتبت بالسنسكريتية، وهي اللغة الهندية القديمة، ويعد هذا الكتاب من أقدم كتب النثر في الأدب العربي، كما يعد مثلاً أعلى في سلامة الأسلوب وسلاسة العبارة. (55)

    ومن أدباء ذلك العصر أيضًا ـ عمرو بن بحر الجاحظ ـ (ت255هـ) الذي عرف بالميل إلى عقائد المعتزلة، حتى لقد نشأت فرقة تسمى الجاحظية نسبة إليه، ومن أشهر كتبه كتاب "الحيوان" وكتاب "البيان والتبيين". (56)
    عبد الله
    عبد الله
    مشرف متميز
    مشرف متميز


    عدد الرسائل : 646
    العمر : 30
    الموقع : القاهرة
    العمل/الترفيه : طالب ازهري
    المزاج : الحمد لله على كل حال
    نقاط : 1248
    تاريخ التسجيل : 27/09/2008

    العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني Empty رد: العصر العباسي الأول ، بقلم : د / راغب السرجاني

    مُساهمة من طرف عبد الله الإثنين سبتمبر 14, 2009 10:40 am

    حركة التعريب والترجمة والتأليف:

    ـ التعريب: نقل الكتب والنصوص من لغة أجنبية إلى اللغة العربية..

    ـ الترجمة: نقل الكتب وترجمتها من لغة إلى لغة أخرى..

    يجمل الدكتور / عمر فروخ (بواعث النقل في الإسلام) بما يلي:

    كانت البواعث على نقل كتب العلوم والفلسفة إلى اللغة العربية جمة منها:

    1ـ القرآن الكريم وحثه على التفكير وطلب العلم.

    2ـ احتكاك العرب بغيرهم من الأمم أطلع العرب على ثقافات جديدة، فأحب العرب أن يوسعوا بهذه الثقافات آفاقهم الفكرية.

    3ـ حاجة العرب إلى علوم ليست عندهم، مما كانوا يحتاجون إليه في الطب وفي معرفة الحساب والتوقيت لضبط أوقات الصلوات وتعيين أشهر الصوم والحج وأول السنة.

    4ـ العلم من توابع الحضارة، فحينما تزدهر البلاد سياسيًا واقتصاديًا ويكثر فيها الترف، ويستبحر العمران، تتجه النفوس إلى الحياة الفكرية، والتوسع في طلب العلم..

    5ـ رعاية الخلفاء للنقل والنقلة، فقد كان الخلفاء يدفعون للناقل ثقل الكتاب المنقول ذهبًا، ثم إن الخليفة العباسي المأمون أنشأ (بيت الحكمة) وجمع فيه الناقلين، فأصبح نقل الكتب الفلسفية جزءًا من سياسة الدولة، وكانت ثمة أسر وجيهة غنية محبة للعلم، تبذل الأموال في سبيل الحصول على الكتب، وفي سبيل نقلها، فإنَّ آل المنجم كانوا ينفقون خمسمائة دينار في الشهر على نقل الكتب..

    وأول نقل في الدولة العباسية قام به عبد الله بن المقفع (ت142) فقد نقل عددًا من كتب السلوك إلى اللغة العربية، ووضع كتاب "كليلة ودمنة" بالاستناد إلى قصص فارسية وهندية، ومنذ عهد أبي جعفر المنصور (ت158هـ)، أصبح التعريب عملاً منظمًا، وممن قام به يوحنا بن ماسويه، وسَلمٌ أمين مكتبة بيت الحكمة، والحجاج بن مطر..

    وفي عصر المأمون (عصر الازدهار العلمي) أصبحت بغداد أعظم منارة للعلم والمعرفة في العصور الوسطى، وكان التعريب من كل اللغات وقدم لكل مترجم قبالة كل كتاب عرَّبه زنته ذهبًا..

    وعندما انتصر "المأمون" على تيوفيل ملك الروم سنة 215هـ علم بأن اليونان كانوا قد جمعوا كتب الفلسفة من المكتبات وألقوا بها في السراديب عندما انتشرت النصرانية في بلادهم، فطلب المأمون من تيوفيل أن يعطيه هذه الكتب مكان الغرامة التي كان قد فرضها عليه، فقبل "تيوفيل" بذلك وعده كسبًُا كبيرًا له، أما المأمون فعد ذلك نعمة عظيمة عليه..

    ومن المترجمين في هذه الفترة شيخ المترجمين حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة والحجاج بن مطر..

    وكان المنهج العلمي المتبع في الترجمة والتعريب الآتي:

    أولاً العودة إلى عدة نسخ من الكتاب المراد تعريبه، ومن ثم انتقاء أفضل نسخة موثقة لاعتمادها، ومراجعة الترجمات السابقة للكتاب إن وُجِدَت للاستفادة منها، والاطلاع على أخطائها لتداركها، ثم تقسيم العمل بين عدة أشخاص، وإلى عدة مراحل، فواحد يترجم من اليونانية إلى السريانية وآخر يترجم من السريانية إلى العربية، وثالث يراجع النصوص وينقح ويدقق..

    وكان للنقل طريقتان:

    ـ لفظية: انتهجها يوحنا بن البطريق، وعبد المسيح بن الناعمة الحمصي، وكانت الترجمة فيها حرفية..

    ـ ومعنوية: انتهجها حنين بن إسحاق، وكانت تعطي المعنى واضحًا دون التقيد باللفظ..

    ونتج عن حركة النقل والتعريب هذه اتساع الثقافة العربية بما دخل عليها من ثقافات الأمم ومناحي تفكيرها، واطلاع العرب على علوم كانوا في حاجة إليها كالرياضيات والطب وأتاحت فرصة باكرة للعرب للمسلمين مكنتهم من أن يؤدوا رسالتهم في تقدم الثقافة الإنسانية، فارتقت الحضارة العربية الإسلامية في الحياة العملية العامة في البناء وأسباب العيش، وفي الزراعة والصناعة والأسفار والطب... واغتنت اللغة العربية بالمصطلحات العلمية والتعابير الفلسفية. (57)

    سمات عامة للعصر العباسي الأول (132 ـ 232هـ):

    ـ قوة الدولة..

    ـ وحدة الدولة..

    ـ سيطرة شبه كاملة للفرس على الجهازين العسكري والإداري..

    ـ كان الجيش طوعًا للقيادة إلى حد كبير..

    ـ توقف حركة الجهاد؟ لماذا؟

    في الحقيقة إن الفتوحات الإسلامية أيام الدولة العباسية، كانت محدودة وعلى نطاق ضيق، بل تم توقف الفتوحات الواسعة منذ أواخر الدولة الأموية..

    ويرجع ذلك إلى ضعف الروح الإسلامية لدى المسلمين في ذلك العهد بالنسبة إلى ما كان عليه المسلمون الأوائل في الصدر الأول، وضعف الإيمان في النفوس، وتراجع الفكر الإسلامي من العقول، وعدم فهم طبيعة الإسلام في الجهاد. (58)

    بالإضافة إلى الترف الذي أصاب الدولة العباسية يومئذ وهذا أمر خطير لم تكن له نتائج مباشرة في هذه المرحلة لقوة الدولة، ولكنه كان مرضًا تفشى مع مرور الوقت حتى شُغِلَ الناسُ بأنفسهم، وبدأ الجيش ينشغل في الأمور الداخلية بدلاً من الجهاد في سبيل الله..

    والقوة فتنة إن لم تُصرف في الحق صُرفت في الباطل. (59)


    المراجع
    (1) حرّان: بلدة تقع في جنوب تركيا اليوم، على بعد 13 كم من الحدود السورية.

    (2) دومة الجندل: بلدة تاريخية، شمال الجزيرة العربية، على الطريق بين الأردن والعراق.

    (3) محمود شاكر: التاريخ الإسلامي، الدولة العباسية جـ 5 ص 66 - 68 ، وانظر أيضًا د. طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص 37.

    (4) الراجح أن المقصود بالسفاح هنا الكريم بدليل أن الكلمة وردت في سياق مدح أهل الكوفة وزيادة أعطياتهم، أي أنها تتفق مع معنى الكرم فهو كريم معطاء مع أصدقائه وثائر مبير مع أعدائه، والجدير بالذكر أن المعنى اللغوي لكلمة السفاح تحتمل عدة معانٍ منها: السفاك للدماء، الكريم المعطاء الذي يسفح الدنانير، ومنها الفصيح اللسان... راجع ابن منظور: لسان العرب جـ 2 ص 485 - 486 .

    (5) د. طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص 37 ، 38 . دار النفائس، الطبعة الرابعة 1425 هـ - 2004 م

    (6) محمود شاكر: التاريخ الإسلامي، الدولة العباسية جـ 5 ص 68 ، 69 .

    (7) المرجع السابق: جـ 5 ص 73 ، 74 .

    (8) الزاب: نهر يصب في دجلة على مقربة من الموصل، ويأتي من الشرق.

    (9) المرجع السابق: جـ 5 ص 75 - 78 .

    (10) د. طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص 47 - 49 . دار النفائس، الطبعة الرابعة 1425 هـ - 2004 م

    (11) المرجع السابق: ص 65 .

    (12) المرجع السابق: ص 66 - 72 .

    (13) الطبري: تاريخ الأمم والملوك جـ 6 ص 271، 344، 345 . وانظر أيضًا د: طقوش: المرجع السابق ص 72 ، 73 .

    (14) ابن كثير: البداية والنهاية جـ 10 ص 222.

    (15) الطبري: تاريخ الأمم والملوك جـ 6 ص 510 ، وانظر أيضًا السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 336 .

    (16) المرجع السابق: جـ 6 ص 530 .

    (17) النطع: بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب أو بقطع الرأس.

    (18) ابن كثير: البداية والنهاية جـ 10 ص 224 .

    (19) المرجع السابق: جـ 10 ص 224.

    (20) الطبري: تاريخ الأمم والملوك جـ 6 ص 530.

    (21) ابن كثير: البداية والنهاية جـ 10 ص 223 ، 224 .

    (22) الطبري: تاريخ الأمم والملوك جـ 6 445 ، وانظر أيضًا د. طقوش: تاريخ الدولة العباسة ص 92 .

    (23) د. طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص 92 ، 93 .

    (24) الطبري: تاريخ الأمم والملوك جـ 6 ص 450 .

    (25) المرجع السابق: جـ 6 ص 450 ن 451 .

    (26) د. طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص 94 . دار النفائس، الطبعة الرابعة 1425 هـ - 2004 م

    (27) المرجع السابق: ص 95 .

    (28) د. إبراهيم شعوط: أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ: ص 296 - 298 .

    (29) المرجع السابق: ص 300 ن 301 .

    (30) المرجع السابق: ص 301 - 305 .

    (31) المرجع السابق: ص 307 - 309 .

    (32) المرجع السابق: ص 310 .

    (33) بداية من أبي موسى محمد الأمين وحتى هنا منقول من كتاب: تاريخ الدولة العباسية د. طقوش. دار النفائس، الطبعة الرابعة 1425 هـ - 2004 م.

    (34) د. حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام جـ 2 ص 76 ، 77 .

    (35) المرجع السابق: جـ 2 ص 78 - 80 .

    (36) د. إبراهيم أيوب: التاريخ العباسي السياسي والحضاري ص 214 - 215 .

    (37) المرجع السابق: ص 216 - 217 .

    (38) د. حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام جـ 2 ص 214 - 215 .

    (39) المرجع السابق: جـ 2 ص 262 - 263 .

    (40) المرجع السابق: جـ 2 ص 264 .

    (41) المرجع السابق جـ 2 ص 264 - 265 .

    (42) المرجع السابق جـ 2 ص 265 - 269.

    (43) المرجع السابق جـ 2 ص 269 .

    (44) د. رحيم كاظم، ود. عواطف محمد: الحضارة العربية الإسلامية ص 209 - 211 .

    (45) د. حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام جـ 2 ص 270 ، وانظر أيضًا الزركلي: الأعلام جـ 3 ص 104 .

    (46) الزركلي: الأعلام جـ 5 ص 257 .

    (47) المرجع السابق: جـ 3 ص 105 .

    (48) د. رحيم كاظم، ود. عواطف محمد: الحضارة العربية الإسلامية ص 212 .

    (49) د. حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام جـ 2 ص 271 - 274 .

    (50) المرجع السابق: جـ 2 ص 274 . وانظر أيضًا د. محمد السيد الوكيل: العصر الذهبي للدولة العباسية ص 381 .

    (51) المرجع السابق: جـ 2 ص 274 - 276 .

    (52) المرجع السابق: جـ 2 ص 276 ، 277 .

    (53) د. رحيم كاظم، ود. عواطف محمد: الحضارة العربية الإسلامية ص 172 .

    (54) المرجع السابق ص 174 ، 175 .

    (55) د. حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام جـ 2 ص 280، 281 وانظر أيضًا: د. رحيم كاظم، ود. عواطف محمد: الحضارة العربية الإسلامية ص 175 ، 176 .

    (56) د. حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام جـ 2 ص 282 .

    (57) د. شوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص 442 ، 445 .

    (58) محمود شاكر: الدولة العباسية جـ 5 ص 7 ، 192 وانظر أيضًا جـ 6 ص 22 .

    (59) د. راغب السرجاني.

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 06, 2024 7:03 am