ثمار الأوراق



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ثمار الأوراق

ثمار الأوراق

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ثمار الأوراق

منتدى تعليمي يهتم باللغة العربية علومها وآدابها.


    مقدمة في نشأة اللغة والنحو والطبقات الأولى من النحاة للعلامة محمود محمد شاكر

    أحمد
    أحمد
    إدارة ثمار الأوراق
    إدارة ثمار الأوراق


    عدد الرسائل : 16791
    الموقع : القاهرة
    نقاط : 39117
    تاريخ التسجيل : 17/09/2008

    مقدمة في نشأة اللغة والنحو والطبقات الأولى من النحاة للعلامة محمود محمد شاكر Empty مقدمة في نشأة اللغة والنحو والطبقات الأولى من النحاة للعلامة محمود محمد شاكر

    مُساهمة من طرف أحمد الثلاثاء يونيو 09, 2015 2:09 am

    مقدمة في نشأة اللغة والنحو والطبقات الأولى من النحاة للعلامة محمود محمد شاكر

    مقدمة
    في نشأة اللغة والنحو
    والطبقات الأولى من النحاة *


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

    أترى لو أنَّ أحدَنا التَمسَ من هرَّته الإفصاحَ عن العلَّة في إصاختها حين تسمعُ صوتَ صاحبِها إذ يُناديها باسمها الذي اجتَباه لها، فما يكون جوابها؟

    لا يُداخلنَّك شَكٌّ في أنَّ الهرَّة لم تفهَمْ من نداء صاحبِها ما يفهَمُ هو من معاني النِّداء، بل كل شأنها حين تصيخ في دربة أعصاب أذنها، وتعودها حركة خاصَّة دربت بها على التكرار والإعادة والمراجعة، وذلك أنَّ مَسامِع الهرَّة كمَسامع كلِّ حيٍّ تصيخ والنَّبْأة حين تلقفُهُما الأذن، فإذا ما التَفتَتْ رأتْ في حركة وجه المنادي ونظرته وإشارته ما تفهَمُ به غريزةً أنَّ هذه كلَّها من معاني النِّداء الذي يُطلَب به الإجابة، فهي في المرَّة الأولى والثانية تعيرُه سمعَها، وتمنحه بصرَها، وتكاد تفقَهُ معنى إشارته لها بالمَجِيء إليه، فلا يَزال هو يلحُّ عليها، ولا تَزال هي تطمئنُّ إلى إشارته، وتتدرَّب على نِدائه، حتى تَنقاد لذلك أعصابُ السمع، ويَهدِيها المقدار المشترَك من الفَهْمِ في الحيوان كلِّه إلى الحركة نحوه، فما يُنادِيها بعدُ بما تعوَّدت عليه أُذناها من النداء إلا أجابَتْه سمعًا وطاعةً.

    وكذلك الطفل حين ينمو على الأيَّام.. فهو لا يزال يسمعُ الكلمة إثْر الكلمة من أمِّه وأبيه وعَشِيرته التي تُؤويه لا يفهَمُ لها معنى، وليست عنده إلا أصواتًا مُبهَمة لا يُفرِّق بين صوتٍ منها وصوتٍ، حتى إذا بلَغ مبلغًا يظنُّ أهله أنَّه بدءُ انتِباهِه إلى الألفاظ والأشياء والمعاني، أخَذُوا يَنطِقون له اللفظ مُشِيرين إلى الشيء الذي تقعُ عليه عَيْناه مرَّة بعد مرَّة، فبذلك تبدأُ أذنُه في التدرُّب على هذه الأصوات، وتشتركُ العين مع الأذن في إدراك الشيء المشار إليه والتنبُّه له حين حُدوث هذا الصوت بعَيْنِه، فالطفل لا يكاد يعرفُ هذه الألفاظ ومَعانيها بديًّا إلا مقرونة في ذِهنِه بالإشارة إلى الشيء الذي تدلُّ عليه الكلمة أو المعنى الذي يُراد له اللفظ.

    ولا يَزال يتربَّى على ذلك حتى يبلُغ درجةً من العلم بمنطِق الحروف، ثم لا يفتأ يُقلِّد صَوابًا وخطأ حتى يَنقاد على الزمن ما تَعاصَى عليه أولاً، ولا يَكاد يفهم من الكلمات التي دُرِّبتْ بها أذناه إلا ما أرسَلت عليه من الأشياء أو المعاني الأُولى التي اقترنت في سمعه بصُورة ما أُشير إليه في عَيْنيه، ويَبقَى الطفل كذلك إلى مدى قبل أنْ تتنبَّه فيه القوَّة الإنسانيَّة العالية: قوَّة إدراك ما يحسُّ وما لا يسمع وما لا يرى، فإذا ما تنبَّهت فيه هذه القوَّة بدأ يُغنِي عن اقتران الإشارة بالأصوات المسموعة من مخارج الكلام، وبدَأ يُراقِبُ فيما يرى وما يسمعُ وما يحسُّ خَصائص يهتدي إليها بفِكره وعقله تقوم لديه مقام الإشارة غي فهمه الأوَّل.

    ثم لو أنَّك ترَكتَ جماعةً من النَّشْءِ الصغار وحدَهم وأمهَلتَهم زمنًا يطولُ أو يقصر، ومنعت تسرُّب أحاديث الناس إلى آذانهم - لرجعتَ إليهم وقد أحدثوا لما تقعُ عليه أبصارهم من شيءٍ ألفاظًا يُعبِّرون بكلِّ واحدٍ منها عن شيءٍ بعينِه، وهذه الألفاظ إمَّا أنْ تكون حكايةَ صوتٍ أو تمثيلَ شكلٍ أو تقليدَ حركةٍ إلى غير ذلك من أساليب التعبير، ولو أنَّك انتزعت الهمَّة لمراقبة هؤلاء الصِّغار في وطنهم هذا لرَأيتَ أنَّ ما يُحدِثونه من الألفاظ يجري اللفظ منها على لسان أحدهم مرَّةً وأخرى ولا يزال يُبدِئه ويعيدُه على أسماع أترابه وهم يُقلِّدونه ويُحاكونه حتى تنذلقَ به ألسنتهم وتلينَ له حَناجرهم؛ فمن ثَمَّ يجري هذا بينَهم لفظًا موضوعًا لمعنى خاص أو شيء بعينِه، ولا شَكَّ عندنا أنَّ هذا النوع من التعبير ممَّا يُهدَى إليه الطفل إلهامًا وتوقيفًا لا اجتهادًا ولا مُواضعة.

    فدربة أعْصاب السَّمع على أصواتٍ بعينها تشيرُ إلى أشياء أو تدلُّ على مَعانٍ، ولزوم الحاجة إلى الإشارة إلى هذه الأشياء أو الدلالة على هذه المعاني هي الدرجة الأولى في نَشْأة اللغة على ألسنة البشر.

    فعلى هذا الأساس نرى أنَّ اللغة الأولى للإنسان كانت قليلةَ الحروف بسيطة التركيب، مصحوبةً بالإشارة للدلالة على الشيء الذي أُرسِل عليه اللفظ، فما أرادت حاجةُ الاجتماع أنْ تمدَّ من هذه اللغة وتبسط، انتقصت من الحاجة إلى الإشارة واستبدَلت مَكانها تخالُف الأصوات على الحرف الواحد بانفِراج الفم وزمِّ الشفتين وفتحهما ومدهما وتحريك اللسان وتقليبه وموقعه من الأسنان، فلمَّا أحدث الاجتماع حاجةً إلى المد والبسط أكثر من ذي قبلُ، كانت قد نشَأتْ في الألسنة مُرونةٌ تأتَّتْ لها من كثرة تقليبها وتحريكها في الفم؛ فساعدت هذه المرونة على إنشاء حروف كثيرة مُتقاربة المخارج لا يميز بعضها من بعضٍ إلا الجرس في خَفائه ووُضوحه وموقع اللسان من الثَّنايا والأسنان وغار الفم.

    ولعلَّ هذه الحروف الأولى التي لا نعرفُها ولا نعرف عددها[1] كانت هي الألفاظ التي يدلُّون بها على المعاني ويُومِئون بها إلى الأشياء، ثم تدرَّجَ ذلك على الأيَّام حتى رُكِّبَ الحرفان والثلاثة لأشياء حدَثَتْ ومَعانٍ وقفوا عليها وأرادوا التعبير عنها.

    وهنا اختلف العلماء اختلافاً كبيرًا في نشأة اللغة على الألسنة الإنسانيَّة، فرموا الحجَّة بالحجَّة، واستفتَحُوا أبوابًا من الجدل في أمرِها؛ توقيفٌ هي أم اصطلاح، فذهبت بهم ألسنتُهم مذاهب تستقيمُ تارةً وتلتوي أخرى، وانتهوا إلى مَجاهِل من القول لا يهتَدِي فيها دليلٌ.

    وما خرَجُوا منها إلا بالقوَّة على الجدل، والقُدرة على تشقيق الكلام وترقيعه وتلفيقه.

    والرأي عندنا أنَّ نشأة اللغة لا بُدَّ أن تُرَدَّ إلى ما تُرَدُّ إليه أصولُ العلوم الإنسانيَّة كلها من طبيعة النُّبوغ في فردٍ من الأفراد أو أفراد من الجماعة، ولا يفوتنَّك هنا أنَّ النُّبوغ إلهامٌ ولا شَكَّ، وأنَّ هناك معانيَ تتَساقَطُ على عقلٍ يُشرِقُ في ظَلام زمنِه بما سوغ من دِقَّةٍ في التركيب، ورقَّة في الإحساس، وقُدرة على التعبير، وأنَّ هذه المعاني لا يُجدِي في إيجادها استِجلاب ولا تحصيل ولا حشْد، ولا تحسبنَّ أنَّ النُّبوغ هذا لا يكون إلا في مَعاني الشعر أو آراء الفلسفة أو أحكام العلوم، بل النُّبوغ إشراقٌ في الإنسانيَّة يُوضِّح لها ما لم يكن واضحًا، ويهديها إلى ما كانت عنه من ضَلالٍ مُبِين، فالاهتداء إلى لفظٍ واحد جديد للتعبير عن شيءٍ كان مهملاً لا لفظَ في طفولة الإنسانيَّة؛ كالاهتداء إلى سِرِّ سقوط الأشياء من أعلى إلى أسفل بالجاذبيَّة في عصر شَباب العلم.

    فآدم النَّوابغ حين كان في الأرض ورأى وأحسَّ وفكَّر، أشرقتْ عليه معانٍ بقَدرِها، وأُلْهِمَ التعبير عنها بما يُسِّرَ له، فنطَق باللفظِ المبتدأ المرتَجَل الذي أُلقِي إليه إلهامًا لا اجتِهادًا واعتِمالاً، وحمل هذا اللفظ قوَّة مُستبدَّة من رُوح النابغة إلى مَن سمع منه وأشرق نُبوغه على الشيء الذي يبتغون التعبيرَ عنه، فلزمهم تقليدُه وانصاعوا؛ فنطقوا بما نطَق به محاكاةً لا إرادةَ فيها إلا قليلاً.

    فاللغة على ذلك إلهامُ فردٍ مُرهفِ الحسِّ، مُشرِق العقل، دقيقِ التركيب، قويِّ الروح، مهيَّأٍ للتأثير في غيره تأثيرًا كبيرًا، وكأنَّ هذا النابغة حين ينطقُ بما أُلقي في روعه من اللفظ المعبِّر عن الشيء أو عن المعنى المقصود يُوحِي إلى سامِعِيه استعمال هذا اللفظ؛ فيَنقادون غريزةً وضَرُورةً إلى مُجاراته ومُحاكاته طائعين[2]، وأنت ترى الشاعر الكبير حين يُعبِّرُ عن شيءٍ الناسُ يحتاجون إلى التعبير عنه، ويكون تعبيره هذا قويًّا جَذَّابًا مُستحكمًا، لا يلبث أنْ يَعلَقَ هذا التعبير بذهن كلِّ مَن قرأه ثم يجري على الألسنة اقتِدارًا حتى يذيع ويُصبِح بمكانٍ من اللغة مُشرفًا واضِحًا زمنًا يطولُ أو يقصرُ، ولا يحد أهل العصر على ذلك مندوحةً من إرساله في كَلامهم وكُتبهم ورسائلهم، وما يمسُّه من شُؤون حَياتهم واجتماعهم، فهذا هذا كما ترَى.

    ولا يَذهَبنَّ عنك بعدَ ما رأيت أنَّ اللغة إنما هي أداةٌ للتعبير التي يتخذها كائنٌ حي في الإشارة إلى شيءٍ، أو الإفصاح عن غَرَضٍ، أو الدعاء في طلب، أو الإعراب عن ضمير نفسه بما يجولُ فيها، فهي على ذلك تجمعُ الإشارة بالجوارح أو الأعضاء من تلويحٍ بيد أو إيماءٍ برأس أو تقطيبٍ أو اهتزاز أو تصويت أو منطق، هذا عندنا هو الأصل في المعنى الذي تُراد له "اللغة"، ثم قام هذا اللفظ "أعنى اللغة" للكلام المنطوق المركَّب من أحرُفٍ على هيئةٍ بعينها، وتتألَّف من هذه الأحرف كلماتٌ على أوضاعٍ تخصُّ بها، تدلُّ على مَعانٍ تختلفُ باختلاف التركيب والوضع.

    قلنا: إنَّ أداة التعبير الأولى إنما هي من آثار النُّبوغ في فردٍ من الأفراد، وتساوق النبوغ بعدُ في إحداث ما يُعبِّر به عمَّا يرى وما يسمعُ وما يحسُّ؛ فتكاثرت "الكلمات" التي يُعبَّر بها عن الأشياء والمعاني، وتصرَّمت الأجيال على نماء أدوات التعبير وزِيادتها، ثم تصرَّمت الأجيال ورأينا لغات مُتَقاربة أو مُتَباينة، ثم تصرَّمت الأجيال وقيدت هذه اللغات ووضعت لها ضَوابط وقَواعد، واختصَّت كلُّ لغةٍ في جِيلٍ من الناس وأمَّةٍ من الأمم بقَواعد وأُصول تختلفُ اختِلافًا جَليلاً أو دَقيقًا عن سائر اللُّغات التي تُعاصِرُها أو تُجاوِرُها.

    ونحن لا نَشُكُّ في أنَّ اللُّغة من هذه اللغات نَمَتْ في أحقابٍ مُتَطاوِلة إلى أنْ كانت لها قَواعد وضَوابط وأصول يرجعُ إليها، فلو رجَعْنا هنا إلى القول الذي قلنا به في نشأة اللغة من طبيعة النُّبوغ في فَرْدٍ من الأفراد، أو أفرادٍ من الجماعات، لاعتَرَضَنا مُعترِضٌ بالشُّبهة في هذا القول والشك في أمره؛ إذ كيف يتَّفق طبيعة النُّبوغ في أفرادٍ من أمَّة على تطاوُل الأحقاب اتِّفاقًا مصمتًا يكون من أثَره أنْ تقعَ أنواع الكلمات في هذه القواعد والضوابط ولا تتعدَّاها؟ ويلزمنا لذلك أن نقول بأنَّ القواعد قد تواضَعَ الناس عليها أولاً ثم صاغوا لها الكلمات والأساليب.

    أمَّا تواضُع الناس على القواعد والأصول قبلَ أنْ تكون لغةٌ يتَفاهَمون بها فهذا مُحالٌ لا يقول به أحدٌ، فلم يبقَ أمامَنا إلا أنْ نعرفَ كيف اتَّفق هذا في اللغات التي درست ولم يبقَ منها إلا آثارٌ وأطلالٌ، وأيضًا في هذه اللغات التي تحيا إلى اليوم متَّخذة أداة للتَّفاهُم والتراسُل والتعليم والتعلُّم.

    لا شكَّ أنَّ الكلمات الأولى التي أُلقيت على لسان فردٍ من الجماعة، ودَعَتِ الناس إلى تقليدها ومحاكاتها بالنُّطق قد جعلت في ألسنتهم مُرونةً وليانًا ومطاوعة، فلمَّا اشتدَّت الحاجة بالناس إلى التعبير أو الإشارة لم يجدْ بعضهم محيصًا عن تقليب الأحرف التي عرَفُوها على ألسنتهم بالتقديم والتأخير؛ فأحدَثُوا ألفاظًا مشابهة للأولى في بنائها، ولم تُواتِهِمُ الألسنة والطبائع الناشئة منهم بالاعتِياد والتكرار على مُخالَفة الأوزان والصِّيَغ الأولى التي طالَ عهدهم بها، فمرنوا عليها، فلمَّا ظهَر بينهم العقلُ المشرق الجديد كان قد تلقَّن في نَشْأته أصول لغته أيًّا كانت بالعادة والمران، واستَقام لسانه عليها، فلمَّا أشرقت عليه أنوار النُّبوغ اعتمد نبوغُه على التوليد من الأصول التي استوضحها عقلُه الرحب وأدركها حسُّه المرهف، ووزنها وميَّزها بعضها من بعضٍ تركيبُه الدقيق، فكان يكثُر منه اتِّفاق ما يحدث من الأبنية والصيغ، مع ما نشأ فيه ودرَج عليه وجاء من بعده أتْباعُه يزيدون على أصوله وفروعه لا يكادون يخرُجون عليها، حتى يأتيهم مَن يلقون إليه بالمقادة في أمر لسانهم وتفكيرهم، فمن هذا ترى أنَّ الاتِّفاق شيءٌ غير بدعٍ في أمر الألسنة الإنسانيَّة.

    ولا يفوتك أنَّ هذا هو الشأن من بعد تفرُّق الجماعات في الأرض على اختلاف طَبائعها وأجوائها وتغيُّر طبائع الناس وعاداتهم وحاجاتهم تبعًا لتغيُّر أرضهم ومنازلهم، استمرَّت الحال على ذلك حتى استَقرَّت بعض اللغات على طرازٍ خاص؛ إذ ضُبِطت بالقواعد والأصول التي نُسمِّيها على النحو وعِلم الاشتقاق والصَّرف وعلم البيان.

    ولعلَّك تعرفُ ممَّا مضى أنَّ النحو والاشتقاق والبَيان هي من اللغة بمنزلة مُفرَداتها[3]؛ إذ كانت مرتبطة بها في تدرُّجها وارتقائها أو ضعفها وانحِطاطها، فلو أنَّك أردت أن تستغني مثلاً عن الحركات التي سميت فيما بعدُ حركات الإعراب في لغةٍ من اللغات لكان لِزامًا عليك أنْ تُدخِل التغيير والتبديل في مفردات اللغة نفسها وفي اشتقاقها وصَرفها وأساليب بيانها، أمَّا أنْ تتَّخذ مفردات لغةٍ من اللغات وتزوي وجهك عن حركات إعرابها وأساليب بيانها وطرق اشتقاقها وصرفها؛ استجلابًا لسهولة استعمالها وسرعة ذيوعها - فهذا قتلٌ لكلتيهما، وإفسادٌ في طبيعة الأشياء لا يقرُّه عقل ولا يُجاريه منطق.

    وقد كتبنا هذه الكلمة - على قصرها واتِّساع ميدان الكلام في أغراضها - لنتقدَّم بالكلام عن نشأة النحو في العربيَّة، فلو أتاحَتْ لنا الأيَّام بعد استِيفاء الكلام كله في هذا الأصل أصدرنا - بعون الله - كتابًا مستقلاًّ بنفسه لا نَدَعُ فيه كلمةً للرأي إلا قُلناها، وعرَّفنا المبتدعة مكانَ النحو والاشتقاق والبيان من اللغات، وفتحنا طريقًا لمعرفة سرِّ الإعراب في العربيَّة، وأَبَنَّا عن معاني الحركات الأربعة في مَواقعها من الكلام العربي، والله المستعان.

    اللغة والإعراب وعلم النحو
    قال شيخُنا أبو الفتح عثمان بن جني: "حضرَنِي قديمًا بالموصل أعرابيٌّ عقيلي جوثي تميمي يُقال له: محمد بن العساف الشَّجري، وقلَّما رأيت بدَوِيًّا أفصحَ منه، فقلت له - شغفًا بفصاحته، والتِذاذًا بِمُطاوَلته، وجريًا على العادة معه في إيقاظ طَبعِه، واقتِداح زَند فطنته -: كيف تقولُ: "أكرَمَ أخوك أباك" فقال: كذاك، فقلت له: أفتقول: "أخوك أبوك؟" فقال: لا أقول: "أبوك" أبدًا، قلت: فكيف تقول: "أكرمني أبوك"؟ فقال: كذاك، قلت: أفلَسْتَ تزعُم أنَّك لا تقول: "أبوك" أبدًا؟ فقال: إيش هذا! اختلفت جهتا الكلام... فهل قوله: "اختلفت جهتا الكلام" إلا كقولنا نحن: "هو الآن فاعل وكان في الأوَّل مفعولاً"، فانظُر إلى قِيام معاني هذا الأمرِ في أنفُسِهم وإن لم تطعْ به عِبارتهم.

    وقال شيخُنا - رحمه الله -: وسألتُ الشجريَّ صاحبَنا هذا الذي قد مضَى ذِكرُه قلتُ له: كيف يا أبا عبدالله تقول: "اليوم كان زيد قائمًا"؟ فقال: كذلك، فقلت: فكيف تقول: "اليوم إنَّ زيدًا قائم" فأباها البتَّة، وذلك أنَّ ما بعد "إن" لا يعمَلُ فيما قبلها؛ لأنها إنما تأتي أبدًا مستقبلة قاطعة لما قبلها عمَّا بعدها وما بعدها عمَّا قبلها.

    وقلت له يومًا ولابن عَمٍّ له يُقال له: "غصن" - وكان أصغر منه سنًّا وألين لسانًا -: كيف تحقران "حَمْراء" فقالا: "حُمَيراء" قلت: فـ"صَفْراء"؟ قالا: "صُفَيراء"، قلت: فـ"سَوْداء" قالا: "سُوَيداء" واستمررت بهما في نحو هذا، فلمَّا استويا عليه دسَسْت بين ذلك "علباء"؛ فقلت: "فعلياء"؟ فأسرع ابن عمه على طريقته فقال: "عُلَيباء" وكاد الشجري بقولها معه، فلمَّا همَّ بفتح الباء استرجع مستنكرًا فقال: "إه عليبى" وأشمَّ الضمة رائمًا للحركة في الوقف، وتلك عادةٌ له.

    قال ابن جنِّي: وسألته يومًا: يا أبا عبدالله، كيف تجمعُ محرنجمًا؟ وكان غرضي من ذلك أنْ أعلم ما يقوله؛ أيُكسِّر فيقول: "حَراجم" أم يُصحِّح فيقول: "محرنجمات"؟ فذهب هو مذهبًا غير ذَيْنِ فقال: وإيش فرَّقَه حتى أجمعَه! وصدَق؛ وذلك أنَّ المحرنجم هو المجتمِع.

    يقولها مارًّا على شَكِيمته غير مُحِسٍّ لما أريدُه منه، والجماعة معي على غاية الاستِغراب لفَصاحته...

    قلت له: فدَعْ هذا؛ إذا أنت مَرَرْتَ بإبلٍ محرنجمة وأخرى محرنجمة وأخرى محرنجمة تقول: مررت بإبل ماذا؟ فقال - وقد أحسَّ الموضع -: يا هذا، هكذا أقول: "مررت بإبلٍ محرنجمات"، وأقامَ على الصحيح البتَّة، استِيحاشًا من تكسير ذَوات الأربع لمصاقبتها ذَوات الخمسة التي لا سبيلَ إلى تكسيرِها، لا سيَّما إذا كان فيها زيادةٌ، والزيادة قد تعتدُّ في كثيرٍ من المواضع اعتِداد الأصول حتى إنها لتَلزَمُ لُزومها نحو: كوكب، وحوشب، وضَيْوَن، وهَزَنْبَران، ودَوْدَرَّى، وقرنفل، وهذا موضعٌ يحتاج إلى إصغاءٍ إليه، وإرعاءٍ عليه، والوقت - لتَلاحُمه وتقارُب أجزائه - مانعٌ منه، ويُعِينُ الله فيما يَلِيه على المعتقَد المنويِّ فيه بقُدرته.

    قال شيخُنا: وسألته يومًا: كيف تجمعُ سرحانًا؟ فقال: "سراحين"، قلت فدكانًا؟ قال: "دكاكين" قلت: فقرطانًا؟ قال: "قراطين"، قلت"فعثمان"؟ قال: "عثمانون"؟ قلت: هلا قلت: "عثامين" كما قلت: "سراحين وقراطين"؟ فأباها البتَّة، وقال: إيش ذا! أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدًا... استوحش من تكسير العلم إكبارًا له، لا سيَّما ومنه الألف والنون اللتان بابهما فعلان الذي لا يجوزُ فيه فعالين نحو سكران وغضبان.

    قد عرَضْنا لسان هذا الإعرابي ولسان ابنِ عمِّه لنردَّك إليهما في سِياق كلامنا هذا عن اللغة والإعراب وعلم النحو؛ لئلا نقطع عليك سبيلَ الكلام حين لا بُدَّ لك من الاستمرار.

    قلنا: إنَّ حركات الإعراب من اللغة بمنزلة مفرداتها؛ وذلك إنهما درَجَا معًا على الألسنة وتَوافقَا على أمرٍ من الزيادة والنُّقصان والإبقاء والحذف، وعَمِلا في الألسنة حتى مرنت واستَقامَتْ، وعملت فيهما الألسنة حتى تهذَّب منها ما جَفَا وما انتشر وما غلظ؛ لما في طبيعة الإنسانيَّة من مُداورةِ ما يجرى معها حتى يخفَّ بعد ثقلٍ، ويلين بعد صلابة، ويتشابَه بعد تنافُر، ويستقر بعد اضطراب، فلمَّا تَمَّ ذلك لم يكن هناك محيص من أنْ تقوم ألسنة القوم ولغتهم على أمرٍ جامعٍ لا يتفرَّق بها، فترتدَّ إلى الضعف والانحلال، وتباعد الأطراف والفساد واستحالة النماء؛ فكان ما نُسمِّيه نحن الآن من الإعراب والنحو والبيان بأسماءٍ اتَّخذناها أداة للتعبير عن سِرِّ مَعانيها في الكلام، قائمًا في ألسنة القوم مقامَ القانون الطبيعي الراسخ الذي لا يتحوَّل، فكان رفعُ الفاعل ونصبُ المفعول عندهم كمخرجِ الحروف عن اللسان والشَّفتين واللهاة، ولا فرق.

    ولو أردت أنْ تُقرِّب هذا المعنى إلى فهمك وتُوضِّحه لنفسك، فاضرِب المثل بالحمار والفرس والبغل، فهذه الثلاثة على تقارُب شيتها وتشابُه أعضائها وتناظُر بدنها وتركيبها مميزة في بصَر الإنسان، مُفرَّق بين كلٍّ منها بخصائص لا تُخطِئها الطبيعة الإنسانيَّة من طُفولتها إلى صِباها إلى شَبابها إلى فتوَّتها إلى هرمها، حتى تصل إلى قبر الأبَد، ولا يَزال الحمار حمارًا والفرس فرسًا والبغل بغلاً، مهما اختلفت الألوان أو تغيَّرت البلدان، ولا تزال الخصائص المميِّزة قائمةً فيها على هذا الاختلاف والتغيُّر، فكذلك كانت حَركات الإعراب والنحو على الكلمة الواحدة على اختِلاف مَواقعها من الكلام كالشِّيَةِ لها تُميِّزها عن أختها التي هي مثلُها في حُروفها وباقي حَركاتها حتى أصبحت قائمةً في ألسنة كُلِّ قومٍ على أصول لغتهم متميِّزة بفطرة الألسنة، وأمَّا ما صار لها بالتكرار والعادة كالفطرة المرهفة الدقيقة التي لا يختلُّ تمييزها، أو لا يضعف إحساسها بالخصائص الملازمة لشيءٍ بعينِه من بين الأشياء المتشابهة.

    فلا يَجُولنَّ بخاطرك أنَّ الفتحة والكسرة والضمَّة والسكون دخيلاتٌ على الحروف التي تقعُ عليها في أوَّل الكلام وأوسطه وطرفه، فجعلت بالوضع للتمييز بين أبنية الكلام أو مَعانيه التي يدورُ عليها، واعلم أنَّ هذه المعاني لا تلمُّ بقلبٍ ناطقٍ بلغةٍ ولا تتعلَّق بفهمه، أوَلا ترى إلى صاحبنا الشجري حين سأله شيخُنا وأدارَه على أنْ ينطِق "أكرَمَ أخوك أبوك" بالرفع، فأباها واستوحش وقال: لا أقولُ: "أبوك" أبدًا، فلمَّا سأله أنْ يقول: أكرمني أبوك قال: "أبوك"، وذكر العلَّة التي يعرفها والتي هي الحقيقة الأولى في اللغة قبل أنْ يُوضَع الاصطلاح النحوي المعقَّد فقال: "اختلفت جهتا الكلام"، فالحركات عند هذا الأعرابي وغيره ممَّن كان ينطق اللغة سليقةً لا اكتسابًا وتعمُّلاً، تقعُ على معاني الكلام وتصرُّفه ووُجوهه دُون كَدٍّ للذهن أو تصريفٍ للسان بعنانٍ من الفكر، فكأنَّ الكلمة الواحدة عندنا هي عنده أربع كلمات أو ثلاث وفقًا للحركات التي تكونُ عليها، ولكلِّ واحدةٍ في حالتها معنى أو معانٍ لا يتجاوَزُها استعمالُه ولا يُطِيع بغيرها في موقعها لسانُه ولا فكرُه ولا فِطرتُه، وهذا غير بدعٍ في أمر الألسنة، فأنت ترى لكلمة "العين" مثلاً عند العربيِّ المبرَّأ معانيَ متباعدة وأخرى مُتقاربة، وهو يميزُ بينها ويفصل بين وجوهها من حقيقةٍ ومجاز، ولا يكاد يخطئ وضعَها من الكلام حينَ تكونُ الضَّرورة لاستعمال هذا اللفظ.

    وكذلك القول في بقيَّة أبواب النحو والصرف والاشتقاق والبيان، فهذه كلُّها كانت جاريةً في ألسنة القول مجرى قوانين الجاذبيَّة، فما تشذُّ كلمةٌ عن بابها الذي وُضِعت بعدُ فيه من علم النحو أو غيره؛ لأنَّ قانون الألفاظ الذي يضبطُ ألسنة كلِّ قومٍ على سنَّة لغتهم لا يدعُ الكلمة تخرُجُ من دائرة تأثيره أبدًا مهما كان التشابُه قريبًا بين الكلمتين اللتين يسوغُ العقل إلى مَدَى اختلاط إحداهما بالأخرى في تصريفِها أو وضْعها أو تقليبها على وُجوه الجمع والتحقير وغير ذلك.

    ألا ترى إلى صاحبنا الشجري كيف جمَع سرحانًا وأشباهها على سراحين، فلمَّا دسَّ له شيخنا أبو الفتح "عثمان" بين هذه المتشابهات لم يقل إلا: "عثمانون" وأبَى "عثامين"، فلمَّا سُئِل عن العلَّة لم يكنْ جوابه إلا تَعجُّبًا من أمر سائله، وشكًّا في عِلمه ومعرفته فقال: إيش ذا! أرأيت إنسانًا يتكلَّم بغير لُغته؟ فهذا الأعرابي لا يعرف قِياسًا ولا علمًا ولا ألفًا ونونًا، بل كلُّ ما يعرفه أنَّه إذا رأى سرحانًا وسرحانًا وسرحانًا قال: هذه سَراحين؛ وذلك لأنَّ الفرد في طبيعة الإنسان ونظره وفِكره غير الجماعة، فهو محتاجٌ إلى لفظٍ غير لفظ الشيء المفرد ليُعبِّر عن عدَّة أفراد من هذا الشيء نفسه، فأختار له بالطبيعة لفظًا آخَر يُقارب اللفظ الذي يدلُّ به على المفرد، وهذا ما نُسمِّيه نحن بالجمع، وهذا المفرد وجمعُه يضمَّان بين أحرُفهما تاريخَ نشأة هذه الكلمة وتاريخ تدرُّجها في اللسان، والذي نسميه نحن بالاشتقاق والأصل، وعثمان وعثمانون مفردٌ وجمع فيهما تاريخ نشأتهما وتدرُّجهما في اللسان، فلمَّا اختلف تاريخ نشأة هذين اللفظين المفردين "عثمان وسرحان" وتدرُّجهما في اللسان خالَفت فطرة اللسان بين جمعيهما مخالفةً ظاهرة؛ فاعلَمْ من ذلك أنَّ الحرفين إذا اتَّفق تاريخُ نشأتهما وتدرُّجهما في اللسان كان القانون الذي يجريان عليه واحدًا في لسان أهلِ اللغة، دُون أنْ يعرفوا لذلك علَّةً مُقرَّرة، ما العلَّة عندهم إلا أنَّ هذه لغتهم وحسْب.

    وهذا بابٌ من القول لم نَستَوفِه لضِيق الوقت والتِزامِنا إخراجَ هذا الجزء من الأشموني في مِيعاده الذي ضُرِبَ له، ونحن لا نفتات على اللغة بما لا تَرْضاه ولا تقرُّه، ولا نذهب بها مذهبًا هي إلى غيره أميَلُ، ولا نضَعُها موضعا هي في غيره أشرف وأنبل؛ فلذلك نَعِدُ القُرَّاء بأنْ نُوافِيَهم قريبًا بكتابٍ واسع المضطرب، نزيدُ فيه الرأي وُضوحًا، ونقفُ عند كلِّ كلمةٍ منه مع القارئ نُبيِّن له ونُوضِّح؛ حتى نُقرِّر المذهب الذي نذهبُ إليه، فإنِ ارتضاه اعتقَدَه، وإنْ أباه ردَّ علينا فسادَه ونبَذَه، والله المستعان.

    سبب وضع العربية:
    رأينا قبلُ أنَّ اللغات نشَأتْ مضطربةً على الألسنة، وعملتْ في الألسنة عمَلَها، وعملتْ فيها الألسُنُ والعقول والحاجات عملَها أيضًا، وكان عملُ الألسنة تهذيبًا وإدارةً وتنقيةً وجمعًا لما في طبيعة الإنسانيَّة من مُداورة ما يَجرِي معها حتى يخفَّ بعد ثقلٍ، ويلينَ بعد صلابة، ويتشابه بعد تنافر، ويستقرَّ بعد اضطراب؛ ليكفُلَ ذلك كلُّه للُّغة النماءَ والقوَّة والاستحكام؛ لئلا تضعُف وتنحل وتسقط وينتشر ما اجتمع من أمرها.

    واستمرَّ هذا التدرُّج في الألسنة حتى وصَلتْ إلى حالةٍ من الاستقرار وفقًا لتدرُّج التمدُّن في الارتقاء والنموِّ إلى درجةٍ من الاستقرار والثَّبات.

    هذا، وقد كُنت أودُّ أنْ أسيرَ بالقارئ في الجزيرة العربيَّة من أوَّل عُهود التاريخ التي وصلَتْنا إلى العهد الذي احتفَتْ فيه بنور إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - وما كان من أمر هذه الجزيرة بعدَ ذلك إلى أنِ استقرَّ اللسان العربي على حالةٍ بَيْنَ بَيْنَ في القرنين السابقين؛ لإشراق نُور النبوَّة فيها، وهبوط الوحي بالمعجزة الباقية أَبَدَ الدهر على محمد رسول الله وخاتم النبيِّين - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولكنِّي أُفضِّل الآن لهذه الكلمة الموجزة أنْ يكون بدءُ القول في أمر لغة العرب من العهد القَريب السابق لرسالة رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم.

    قال التاريخ: إنَّ هذه الجزيرة العربيَّة - التي تحدُّها من الشرقِ بلادُ فارس، ومن الغرب بحرُ القلزم ومشارفُ الشام وأطرافُ مصر، ومن الشَّمال أرضُ الشام وفيها غسَّان والروم، ومن الجنوب بحرُ الهند - قال: كانت هذه الجزيرة منزلاً لقَبائلَ تفرَّقت في أوديتها وحُزونها وأباطحها وبَيْدائها، وكان جلُّ اعتِماد أهلها على الرحلة من مكانٍ إلى مكان في طلب الغَيْثِ وانتِجاع المرتع، والتصرُّف في وجوه التجارة ما بين جَوانبها وبين مصر والشام وبلاد الروم وأرض الحبش وديار فارس، وتصرَّمتْ على أمرها هذا الحِجَجَ الطوال، فكانت هذه القبائلُ تتكلَّم عِدَّةَ لهجاتٍ منها العربيَّة التي وصلتنا - والتي يُسمُّونها لغة قريش - ولا شَكَّ في أنَّ هذه القبائل - التي تسكُن جزيرة العرب وتعمرها - كانت تتلاقي بالجوار والترحال والتجارة، فكان الرجل من قبيلةٍ إذا نزَل بأرض قبيلةٍ أخرى لم يعسر عليه أنْ يكون بينهم كأحدهم منطقًا وإفهامًا وتفهُّمًا، وإلا لتَدابَرتْ هذه القبائل وتقطَّعت الصلة بينها، ولكان التاريخ قد قذَف بها جميعًا من سجلِّه، ولم يصلنا من شعرها ولا أخبارها ولا لهجاتها شيءٌ أبدًا، فهذا دليلٌ على أنَّ هذه اللهجات التي اتَّخذتها القبائل كانت قليلةَ التَّخالُف كثيرة التشابُه متدانية الأصول؛ فلذلك قام أمر العرب قبلَ الإسلام على الاجتماع في أسواقٍ ذكَرَها التاريخ ووصَلَنا شيءٌ لا بأسَ به من أخبارها، فكانت العرب تلتقي فيها للتجارة وإنشاد الشعر والتفاخُر والتحاكُم والتحالُف، وغير ذلك من شُؤونها ومَصالحها، وحدَّثَنا التاريخ أنَّ اللهجة التي كان يُرجَعُ إليها في أمر لسانهم هي لهجة قُريش التي نزَل بها الوحي على أمين الله في أرضِه والشاهدِ على الناس رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان ذلك مبدأَ اتِّفاق اللهجات المختلفة على أمرٍ جامع لا يتفرَّق بها إلى مذاهب الضَّعفِ والانحِلال، وبهذه الأسواق الجامعة لأشتات القبائل ونِزاعها وأشْرافها وصَمِيمها وفُصَائحها وشُعَرائها بدأت لهجات اللسان العربي تخفُّ بعد ثقلٍ وتلينُ بعد صلاة؛ وتتشابه بعد تنافُر، وتستقرُّ بعد اضطراب، حتى جاءتهم المعجزة التي ألقوا إليها بالمقادة واتَّبعوها كارهين وطائعين وتوافَدُوا إليها وهم في كلِّ حدبٍ ينسلون.

    وقام القُرآن على ألسنتهم فضبَطَها وألَّف بينها كما ألَّف بين قُلوب أهلها بعد الشِّقاق والتَّناحُر والعَداوة والبَغضاء، فلانت بالقُرآن ألسِنَةُ القبائل وزادت مطاوعةً وليانًا باجتماع رجالها في الجِهاد وهم على قلب رجلٍ واحد أحباء لا يتنابذون ولا يتدابَرُون.

    وكانت هذه الأسواق تجمع أفذاذَ العرب ونوابغها، وتوقظ فيهم القوى الإنسانيَّة كلَّها، خيرها وشرها، ومن تلك القُوَى التي تنبَّهت في أفرادٍ من العربِ الإدراكُ اللغوي، فكان يقومُ هؤلاء الأفراد مقامَ القضاة على قَضايا اللسان العربي، فمن هؤلاء النابغة الذُّبياني وغيرُه.

    فكان يُعرَضُ عليهم شِعر القبائل فيُزيِّفون منه زيفَه ويردُّون ساقطَه، ويعلُون عاليَه، ويشهَدون لجيِّده، ولعلَّ نظرةَ هؤلاء القضاة كانت نظرةً شاملة في المعاني والألفاظ ومواقعها وقوَّتها واختلالها، وكانوا قد عرَفُوا بما رُكِّبَ فيهم من أسباب النُّبوغ أحكامًا صحيحة عن أساليب البَيان وأنواع الخطأ الذي يُدرِك اللسان على قلَّته وخَفائه، وكانت أحكامُهم هذه لا تعرف الاصطلاحَ والوضع ولكنَّها كانت أحكامًا فطريَّة، كما رأيت من قول صاحبنا الشجري: "اختلفت جهتا الكلام"، وقوله في المرَّة الأخرى: "أرأيت إنسانًا يتكلَّم بما ليس من لغته"، وغير هذا من الأمثلة الكثيرة التي لم يُسعِفنا الوقت بلمِّ شَعثها وتقييد نُصوصها في هذا المكان، فكان تنبُّه هذه القوَّة في هؤلاء الأفراد، وسيرورة ما يحكُمون به على الشِّعر والخَطابة، هو بدء وضع علم العربيَّة الذي سموه فيما بعدُ نحوًا وبيانًا واشتقاقًا وتصريفًا.

    فلمَّا ظهَر الإسلام على الوثنيَّة، وغلب الروم والفرس على أمرهم، واستَفاض الفتح، وتدفَّقت العرب في بلاد الله، وأسلمت الأعاجم أو جلُّها، فاستَقبلت الجزيرة العربيَّة للحجِّ والتكسُّب، وتزاوج العرب من الأمم الأخرى، واختلطت الألسنة الفصيحة بألسنة العجم الرُّوم والنبط - تغيَّرت حاجة العربيَّة بعدَ استِقرار لسانها، فبعد أنْ كانت الأسواق التي تجمعُ العرب هي الحاجة وهي الضَّرورة لتهذيب اللسان العربي، صارت الضرورة في أمرٍ آخَر يكونُ حاكمًا للسان العربي؛ لئلا ينزلق إلى مهوى من الضعف ويكون سورًا منيعًا ليردَّ الدُّخَلاء ويكون مَنارًا ليهدي مَن ضلَّ عن سبيله، واعلَمْ أنَّ هذه الحاجة لم تشتدَّ إلا بعد اتِّساع الفتوح الإسلاميَّة، وتوافُد الأعاجم على البلاد العربيَّة مسلمين، وذلك في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومَن تلاه من الخُلَفاء الراشدين، ثم استمرَّ الأمر على ذلك إلى أنْ ظهر رجالٌ ضبطوا اللسان بأحكامٍ وأصولٍ سموها النحو.

    قالوا: إنَّ أوَّل مَن وضع هذه الأحكام والأصول على بن أبي طالب - رضِي الله عنه - وذلك لما رُوِي عن أبي الأسود الدؤلي - رحمه الله - أنَّه قال: دخَلتُ على أمير المؤمنين عليٍّ - عليه السلام - فوجدت في يده رقعةً فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: "إني تأمَّلت كلام العرب فوجدته قد فسَد بمخالطة هذه الحمراء - يعنى: الأعاجم - فأردت أنْ أضع شيئًا يرجعون إليه ويتعمدون عليه"، وفيها مكتوب: الكلام كله: اسم وفعل وحرف؛ فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى والفعل ما أُنبِئ به، والحرف ما أفادَ معنى غير هذين، وقال لي: "انْحُ هذا النحو، وأضِفْ إليه ما وقَع إليك، واعلَمْ يا أبا الأسود أنَّ الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسمٌ لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتَفاضَلُ الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهرٍ ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم".

    قال: ثم وضعت بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى أنْ وصلت إلى باب "إن وأخواتها" ما خلا "لكن"، فلمَّا عرضتها على عليٍّ - عليه السلام - أمرني بضمِّ "لكن" إليها، وكنت كلَّما وضعت بابًا من أبواب النحو عرضته عليه - رضي الله عنه - إلى أنْ حصلت ما فيه الكفاية فقال: "ما أحسَنَ هذا النحوَ الذي قد نحوت"؛ فلذلك سمي النحو.

    ورُوِيَ أنَّ سبب وضع عليٍّ - عليه السلام - لهذا العلم أنَّه سمع أعرابيًّا يقرأ: "لا يأكله إلا الخاطئين"، فوَضَعَ النحو.

    هذا، وقد كثُرت الرِّوايات في سبب وضْع هذا العلم وأوَّل مَن وضَعَه، وأكثر هذه الروايات باطلٌ لا يقومُ بحجَّة ولا يقعُد.

    وهذه الكلمة لا تَكفِي لذِكر كلِّ رواية، وعلَّتُنا في تزييفها وردِّها وإقامة الحجَّة على صواب ما نذهب إليه من أنَّ أوَّل مَن اهتَدَى إلى وضْع ضابطٍ لبعض وُجوه هذا اللسان العربي هو أبو الأسود الدؤلي - رضِي الله عنه - وكذلك اختلفت الرِّواية في أوَّل بابٍ وضَعَه أبو الأسود من علم العربيَّة، والذي نذهَبُ إليه على ضَلال المذهب وتعقُّده، وانتشار أمرِه، أنَّ أوَّل ما وُفِّقَ إلى التنبُّه له أبو الأسود هو باب الفاعل؛ وذلك لكثْرة دوران الفعليَّة على لِسانهم، وظُهور الرفع على طرَف الكلمة ظهورًا بيِّنًا؛ لأنَّ الضمَّة هي أثقل الحركات على اللسان العربي.

    واعلَمْ أنَّ هناك مذهبَيْن للرأي في أوَّل ما وُضِعَ من علم النحو:
    أحدهما: أنَّ أوَّل ما وضَع أبو الأسود من أبواب النحو ما وقَع فيه اللحن، وهذا ما ذهَب إليه جمهورُ النحويين أصحابُ كتب التراجم الذين ترجموا للُّغويين والنحاة.
    والآخَر: أنَّ علم النحو وُضِعَ على أساسٍ من التفكير في استنباط قواعد العربيَّة تضبطُها وأصول يُبنَى عليها، فأوَّل ما يُوضَع من القواعد ما يكونُ أقرب إلى مُتناوَل الفكر في الاستنباط.

    ونحن لا نستطيع أنْ نُزيِّف الرأي الأوَّل؛ إذ كان هو الذي وردَتْ به الرواية الصحيحة مهما اختُلِف في الذي وقَع فيه اللحن من أبواب العربية، فقد رأيتَ قبلُ أنَّ سبب وضع العربيَّة أنَّ عليًّا - رضِي الله عنه - سمع أعرابيًّا يقرأ: "لا يأكله إلا الخاطئين".

    وقالوا: إنَّ أعرابيًّا قدم المدينة في زمان عمر - رضي الله عنه - فقال: مَن يُقرِئُني ممَّا أنزل الله؟ فأقرأه رجل (براءة) فقرأ: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]، بكسر اللام من ﴿ رسوله ﴾ فقال الإعرابي: أوَقَدْ بَرِئَ الله من رسوله! إنْ يكن الله قد بَرِئَ من رسوله فأنا منه أبرَأُ، فبلغَتْ مَقالةُ الإعرابي عمرَ، فاستَوْثَقَ عمر من الخبر، فلمَّا عرفه أمَرَ ألا يُقرِئَ القُرآن إلا عالم باللغة، ودعا أبا الأسود فأمَرَه فوضَع النحو.

    وقالوا: إنَّ سبب الوضع أنَّ ابنة أبي الأسود قالت له يومًا: يا أبه، ما أحسنُ السماء! فقال: أيْ بنيَّة! نجومُها، قالت: إنِّي لم أُرِدْ أي شيء منها أحسن، إنما تعجَّبت من حُسنها، قال: إذًا فقولي: ما أحسنَ السماء، فحينئذٍ وضع كتابا... إلى غير ذلك من الروايات.

    ولا شكَّ أنَّ همَّة أبي الأسود لم تنهَضْ إلى الفكر في وضْع أصولٍ تُضبَطُ بها العربيَّة أو أبوابٍ منها إلا بعد أنْ بدر اللحنُ على لسان المسلمين من الأعاجم ومَن كثُر اتِّصاله بالأعاجم ولُغاتها من العرَب، حتى دخَل الضَّيْم على لسانه فأفلتت منه فطرته الفصيحة، وهذا نادرٌ لا تكاد تجدُه في الزمن الأوَّل أبدًا.

    غير أنَّنا لا نقول بأنَّ أوَّل ما وُضِعَ من أبواب العربيَّة هو ما وقَع فيه اللَّحن، بل نقول: إنَّ ما وقَع فيه اللَّحن هو الذي دفَع أبا الأسود إلى التفكير في وضْع ضوابط للعربيَّة، وقد جاء في الرواية عن ابن الأنباري قال: حدَّثنا يموتُ - يعنى: ابن المُزَرِّع - حدَّثنا أبو حاتم السجستاني، سمعت محمد بن عباد المهلبي، عن أبيه قال: سمع أبو الأسود الدؤلي - رضِي الله عنه -: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3]، بالجر فقال: لا تطمئنُّ نفسي إلا أنْ أضع شيئًا أصلح به لحنَ هذا، أو كلامًا هذا معناه.

    ونحن نُرجِّح أنَّ أبا الأسود إنما عَنَى بكلمته هذه ما أشاروا إليه في روايتهم من أنَّ أبا الأسود أتى بالمصحف واختار من عُقَلاء الرجال رجلاً من عبدالقيس فقال له: خُذِ المصحف وصبغًا يُخالف لون المِداد الذي كُتِبَ به، فإذا أنا فتحت شفتي فانقط واحدةً فوق الحرف، وإنْ ضمَمتُهما فأجعل النُّقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسَرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئًا من هذه الحركات غُنَّة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخِره... ثم إنَّ أبا الأسود بدَأ يُفكِّر في وضْع قَواعد لضبط الكلام.

    فالرأيُ عندنا أنْ يكون ما وقَع فيه اللحن هو الذي استنهض أبا الأسود لوضْع العربيَّة، ولا يلزمنا أنْ نقول: إنَّ أوَّل ما وضع من أبواب العربيَّة هو الباب الذي وقَع فيه اللحن، ومن هنا تمهَّد سبيلُنا للمذهب الآخَر الذي قُلنا به من أنَّ أبا الأسود اجتهد في استِنباط القواعد، فوقعت له أبوابٌ وضع لها قاعدة تلمُّ ببعض ما فيه، وقد قُلنا قبلُ: إنَّنا نذهبُ إلى القول بأنَّ أوَّل بابٍ وضعه أبو الأسود هو باب الفاعل، وقد روَى الشيخ الجليل الإمام السيرافي أنَّ السبب في وضْع العربيَّة أنَّه مَرَّ بباب أبي الأسود سعدٌ الفارسي (هو سعد بن بالويه الفارسي، شهد الردَّة وأبلى بلاء حسنًا) وهو يقودُ فرسه فقال له: ما لك يا سعد لا تركب؟ فقال: إنَّ فرسي ضالع (أراد: ظالعًا)[4] فضَحِك به بعضُ مَن حضَرَه فقال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخَلوا فيه، فصاروا لنا إخوةً، فلو علَّمناهم الكلامَ، فوضع باب الفاعل والمفعول به ولم يزدْ عليه، وذكر مثلَه ابنُ حجرٍ في "الإصابة" عن ابن أبي سعد.

    وهذه الروايات وإنْ كانت لا تقومُ دليلاً على مذهبٍ بعينه؛ لكثْرة اختلافها وتباعُد بين أطرافها، إلا أنها تجنحُ بنا إلى الاطمِئنان إلى الرأي الذي نذهَبُ إليه[5]، وذلك أنَّنا نظَرْنا فوجَدْنا أنَّ أبا الأسود حِين خَلا يُفكِّر في ضبْط الكلام أخَذ يعرضُ على فِكره صُوَرَ الكلام العربي؛ فأوَّل ما يعرض من ذلك أكثر الصِّيَغِ دورانًا على اللسان كقولهم: ركب سعدٌ الفرس، وكذا وكذا من الجمل الفعليَّة، فلمَّا وجد أنَّ الذي يخبر عنه بأنَّه قد ركب أو فعل شيئًا ما يقعُ من الكلام أبدًا مضمومًا وقَع له الرأي بأنَّ مَن فعَل الرُّكوب أو غيره يجب أنْ يقع في مثل هذه الصيغة مرفوعًا أبدًا، ثم بدا له باب المفعول به، وهو الذي وقع عليه فعلُ هذا الفاعل، فرآه منصوبًا أبدًا فأمَرَّه على ذلك، ويَلِي هذين بابُ المبتدأ والخبر؛ لتَدانِي الشَّبه بينه وبين هذين البابين، ولعلَّ أبا الأسود وقَف عند هذه الأبواب الثلاثة ولم يزد عليها[6].

    ثم تلقَّى هذا عن أبي الأسود رجالٌ من العَرَبِ، فأخفق كثيرٌ منهم في زيادة شيءٍ على ما تلقَّوْه منه؛ فقد ذكر السيرافي أنَّ أبا الأسود لَمَّا وضَع باب الفاعل والمفعول به زادَ في ذلك الكتابِ رجلٌ من بني ليث أبوابًا، ثم نظَر فإذا في كلام العرب ما لا يدخُل فيه، فأقصَرَ عنه، قال السيرافي: ولعلَّ هذا الرجل هو يحيى بن يعمر.

    وكانت الطبقة الأولى التي أخذت القراءة - قراءة القُرآن - عن أبي الأسود، وتلقَّت منه الكلامَ عن الأبواب التي وضَعَها من النحو، وسمتْ سمتَه في تتبُّع الكلام العربي جهدَ الطاقة لوضع القواعد التي بَنَى عليها - نفرٌ يعدُّون: نترجمُ لكلٍّ منهم باختصارٍ بعد الكلام عن أبي الأسود - رحمه الله.

    أبو الأسود الدؤلي
    لم يَذكُر أصحابُ التاريخ والتَّراجم مولدَ أبي الأسود، ولكنَّ أكثرهم قال: إنَّه مات في الطاعون الجارف الذي وقَع بالبصرة، فأهلك أهلها إلا قليلاً، وذلك سنة 69 من الهجرة، وكانت سنُّه خمسًا وثمانين سنة، غير أنَّ المدائني قال: "إنَّه مات قبلَ ذاك"، وهذا أشبَهُ القولَيْن بالصَّواب؛ لأنَّا لم نسمَعْ له في فتنةِ مسعود وأمْر المختار بذِكرٍ، قال أبو الفرج في ترجمة أبي الأسود (ج11 ص119) وذكر مثلَ هذا القول بعينه والشكَّ فيه: هل أدرَكَ الطاعونَ الجارفَ أو لا؟ عن يحيى بن معين، أخبرني به الحسن بن علي، عن أحمد بن زهير، عن المدائني ويحيى بن معين فلعلَّ مِيلادَ أبي الأسود كان قبلَ الهجرة بنحو عشرين سنةً، فهو على ذلك مخضرم أدرك الجاهليَّة والإسلام، ولكنَّه على التحقيق لم يحظَ برؤية الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد عدوه في عِداد كِبار التَّابعين - رضوان الله عليهم.

    ولم يصلْ إلينا كثيرٌ من أخبار أبي الأسود قبلَ زمن عُمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - وأوَّل ما عُرِفَ من أمر أبي الأسود أنَّ عمر استعمله على البصرة خلاقةً لابن عباسٍ، ثم استَعمَلَه عثمانُ بن عفَّان وعليٌّ - رضِي الله عنهما - وكان كلُّ أمرِه مع عليٍّ؛ فشهد معه المشاهد، وكان من وُجوه شِيعته، فلمَّا نقل معاويةُ أمر المسلمين من الخِلافة السَّمحة إلى المُلك العَضوض، وقام بأمر الدولة رجالٌ من شيعته لقي أبو الأسود عنتًا كثيرًا من عُمَّاله على البصرة والسواد، والأخبارُ في ذلك كثيرةٌ لا نطيل بذِكرها؛ إذ كان الغرضُ من هذه الترجمة التعريف بأبي الأسود تعريفًا موجزًا.

    وكان أبو الأسود من الشعراء المجيدين، وله شعرٌ كثير جيِّد، وكان من مُحدِّثي التابعين يُحدِّثُ عن عمرَ وعليٍّ وعثمان وابن عباس ومعاذ وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم، وكان من أوائل القُرَّاء الذين أُخِذت عنهم القِراءة وضَوابطها، روى عن ابنه أبو حزب، قال الجاحظ: "أبو الأسود معدودٌ في طبقاتٍ من الناس، وهو - في كلِّها - مقدَّم مأثور عنه الفضلُ في جميعها، كان معدودًا في التابعين، والفقهاء والشعراء، والمحدِّثين، والأشراف، والفرسان والأمراء والدُّهاة، والنحويين، والحاضري الجواب، والشيعة والبخلاء، والصُّلع الأشراف، والبُخْرِ الأشراف".

    وأنت إذا قرَأتَ ما ذُكِر في كتب التراجم والأدب عن أبي الأسود لتمثَّلت رجلاً حكيمًا فصيحًا ذكيًّا نابغة موفَّق الرأي، وهذه هي الصفات العالية التي سمتْ به إلى أنْ يكون الواضع الأوَّل لأجلِّ العلوم العربيَّة التي ضبطت اللسان وأبقَتْه حيًّا إلى يوم الناس هذا، وحفظت القُرآن من لحن اللاحِنين، ونفتْ عنه تحريفَ الغالين وانتِحال المُبطِلين.

    الطبقة الأولى
    حمَل علمَ النحو عن أبي الأسود جماعةٌ، يُعَدُّون في الطبقة الأولى من طبقات النُّحاة واللغويين، وسنَذكُر أشهرَهُم ونُتَرجِمُ لهم تراجمَ مختصرةً.

    (1) عنبسة بن معدان
    كان أبوه "معدان" رجلاً من أهل ميسان، قدم البصرة وأقام بها، واستَعمَلَه عبدالله بن عامر على فيلٍ كان له فسُمِّي "معدان الفيل"، ولَمَّا نشَأ عنبسة لزم أبا الأسود، وعلم من عِلمه وروَى الشعر واجتهد فبرع، قال أبو عبيدة معمر بن المثنَّى: "اختلف الناس إلى أبي الأسود يتعلَّمون منه العربيَّة، فكان أبرع أصحابه عنبسة بن معدان المهري، واختَلفَ الناس إلى عنبسة فكان أبرعَ أصحابِه ميمون الأقرن".

    ولم نصلْ إلى تاريخ مولد عنبسة هذا ولا وفاته، ولكنَّه لقي الفرزدق وجريرًا، فلعلَّ وفاته كانت في حُدود المائة الأولى من الهجرة قبلها بقليلٍ أو بعدها.

    (2) ميمون الأقرن
    لم نظفَرْ له بعدُ بترجمةٍ يصحُّ الاعتمادُ عليها، مع أنهم زعَمُوه أوَّلَ مَن وضع علم النحو.

    (3) نصر بن عاصم
    قال السيوطي: إنَّه أخَذ النحو عن يحيى بن يعمر، وقال ابن الأنباري: "قرأ القُرآن على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على عليٍّ - رضِي الله عنه - فكان أستاذَه (يعني: أبا الأسود) في القراءة والنحو".

    وهذا هو الأرجح؛ إذ إنَّ نصرًا هذا معدودٌ فيمَن روَى عن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - فأخْذُه النحوَ عن أبي الأسود أشبَهُ من أخْذه النحو عن يحيى بن يعمر، وذكروا أنَّ وفاته كانت في زمن الوليد بن عبدالملك، واختلَفُوا ما بين تسعٍ وثمانين وتسعين.

    وكان نصرٌ فقيهًا، وقارئًا مجيدًا، عالمًا بالعربيَّة، فصيح اللسان واضح البيان، قال عمرو بن دِينار: اجتمعتُ والزهري ونصر بن عاصم فتكلَّم نصر فقال الزهري: "إنه ليقلعُ العربيَّة تقليعًا"، وكان محدثًا ثقةً جيِّدَ الرأي.

    (4) عبدالرحمن بن هرمز
    ليس فيما بين أيدينا من ترجمة أبي داود عبدالرحمن بن هرمز الأعرج ما يُبيِّن سنَّه أو مولده، وكان عبدالرحمن مولى لمحمد بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، يعدُّ من الطبقة الثانية من التابعين المدنيِّين، قال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث"، ويعدُّ فيمن أخذ القراءة عن أبي هريرة وابن عباس وعبدالبر بن عياش بن أبي ربيعة، وكان عالمًا بالعربية ومن أعلم الناس بأنساب العرب، يظنُّون أنَّ مالك بن أنس أخَذ عِلْمَ الأنساب عنه، ورحَل الأعرج إلى الإسكندرية، ومات بها سنة 117 في أيَّام هشام بن عبدالملك، قال الزبيدي: كان من أوَّل مَن وضع العربيَّة.

    (5) يحيى بن يعمر
    هو يَحْيى بن يَعْمُرَ اللَّيثيُّ، وكان مِن أهل البصرة، تابعيٌّ، قال الحاكمُ: "فقيهٌ، أديب، نَحْوي مُبَرَّز، سَمِع ابنَ عُمر، وجابرًا، وأبا هريرة، وأخذ النَّحو عن أبي الأَسْود".

    وكان من الفُصَحاء، عالِمًا بالعربيَّة والحديث، وكان رجلاً شديدًا لا يُبالي، كَرِهَ الحجَّاجُ أنْ يُساكِنَه ببلد، (وكان الحجَّاجُ إذْ ذاك بواسط)، فنَفاه إلى خُراسان، فلمَّا حضَرَها، ولاَّه قتيبةُ بن مسلمٍ القضاءَ بها، فقضى في كثيرٍ من بلادها؛ كنيسابور، ومَرْو، وهَراة، وكان يَطلُب الغريبَ في كلامه، قال محمَّد بن سلام: أخبَرَني أُبَيٌّ أنَّ يَزيدَ بن المُهلِّب كتب إلى الحجَّاج: "إنَّا لَقِينا العدوَّ ففعلنا وفعلنا، واضْطُرِرْنا إلى عرعرة الجبل"، فقال الحجَّ

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس أبريل 18, 2024 9:08 pm